رفاعيات 6
رفاعيات 6 بقلم د. نعمات كرم الله حامد دلالات المكان الروائي نتناول في هذا المقال المكان الروائي عند الكاتب علي الرفاعي والذي يتفرع داخل منجزه الى عدد من الأمكنة. ولكن الأمكنة التي اخترنا الحديث عنها هي محددة ومتجذرة في المجتمع، وبالتالي في الأرض ولها رسوخ في عمق التاريخ
رفاعيات 6
بقلم د. نعمات كرم الله حامد
دلالات المكان الروائي
نتناول في هذا المقال المكان الروائي عند الكاتب علي الرفاعي والذي يتفرع داخل منجزه الى عدد من الأمكنة. ولكن الأمكنة التي اخترنا الحديث عنها هي محددة ومتجذرة في المجتمع، وبالتالي في الأرض ولها رسوخ في عمق التاريخ. وعليه يتضح أنّ تناولنا لها لا يعني استخدامها الجمالي وإنما الهدف هو إبراز الدور الفكري لها، أي استخدامها تداولياً وحوارياً. فهي أمكنة جدلية قادرة ليس فقط على عكس التاريخ وإنما حمل دلالات ومعانٍ كثيرةٍ لأنها تحتوي على فكر الكاتب ومضامينه التي يستهدفها. وهذه المضامين هي بالتأكيد تعكس منطلقات الكاتب وتوجهه الذي تتشكل منه الخطابات بتفاعل الحدث والفعل والزمن مضافاً إلى دور الشخوص الفاعل في تجسيدها. والأماكن التي اخترناها هي النيل، البستان (الأرض)، والقرية. وليس بالضرورة أن يكون الكاتب واعياً لهذه التفسيرات التي نحاول الوصول أليها والوقوف عندها، لأنّ هذا يمثل دور الناقد الفطن الذي يسعى لخلق نص موازي مبدع بدلاً من ترديد مقولات الكاتب وإن بطريقةٍ مختلفةٍ.
يتحدث الكاتب علي الرفاعي عن النيل، ليس فقط كشريان للحياة، وإنما كركيزة وعي تعمل على التاثير في الناس ومحاولة تغييرهم بالتفكر في طبيعتهم وطبيعة ارتباطهم بالأرض. هذا الإرتباط ما كان له أن يتحقق لولا وجود النيل. وبالتالي يظهر أثره النفسي والاجتماعي والديني والإقتصادي في حياة الناس بصفة عامة، فلنقرأ هذه الفقرة من رواية (الشمس تغيب إلى أعلى) التي توضح أنّه ليس فقط أهالي قوزقرافي الذين يحيون بسبب النيل، بل حتى الطيور تعيش وتشرب من ماء النيل:
أَسراب القطا .. َالقطـاة إِلـى جـوار القطـاة كحبـاتٍ فـي عقـدٍ قاطعـة ـــ فـي رحلـة الآهـة الأَبدَّیـة هـذه ـــ كـَّل هـذه المـسافات الطویلـة؛ لَتـرد النْیـل وتـشرب مـن مائه.. تفعل هذا في كـِّل یـوم .. لا تكـُّل ولا تمـُّل، ولا یـْنقُص شـربها مـن مـاء النیـِل شــیئاً ..." (ص45).
ثم يرينا الكاتب في نفس الرواية كيف يمكن للنيل، أساس الحياة والطمأنينة، أن يخرج من هدوئه ويزمجر مسبباً الرعب للأهالي:
لقــد انتــصب النیــل فجــأَة، انتصابا لم یشهده أَهل ضفَّتَیه منذ سـنوات...ومـزق سـكون اللیل صوت حاد: المروة یا ناس البلد.. أَلحقوا اخوانكم .. البحر كسر.. لقد حطم النيل شطرا كبیرا من الجـسر الـذي أَقامـه أَهـل قریـة أُم حـصى. فـي تلك اللیلـة زفـر النیـل زفـرةً تَعـوذ منهـا الحـوت فـي أَعـالي البحـار، وأَقبـل نحـو مزارعنا وهو یرغو ویْزُبـد..َ (ص45).
فيتفاعل أهل القرية مع الحدث الكبير ويتعاونون من أجل وقف فيضان النيل ودماره ببناء الجسور:
"لقـد حـان وقـت الجـِّد والعمـل؛ فالرجـال أَخـذوا مـصابیحهم الكهربیـة وهـم یخبـون ویركـضون صـوب المـزارع، واللیـل كـتلال مـن الفحـم الحجـِري.
وأَخیــرا تجمعــوا كُّلهــم عنــد المــصرف؛ فقــد كــان لابــَّد مــن إِقامــة جــسر، خاصة وأَشجار النخیل والبرتقال مثقلة بالثمار. وقد اختاروا المصرف لأَنه یقع في أَضیق مكان یمكن أَن یقام علیه جسر. ماج المكان بالحركة وسترات الصدر والطواري والَمقاطف والمجارف والرتائن وخوار الثِّیران وأَصوات الناس التي تسابق اندفاع النیل. وقبل الفجر بقلیل وقف أَهلي على الجسر، ووقف عنده النیل أَیضاً.
لا ينحصر العمل وتضافر الجهود لوقف سيل النيل على أهل القرية فقط، وإنما حتى أعراب البادية يشاركون في ذلك لاستفادتهم القصوى منه:
" أَ شــرقت الــشمس وقـد انتـصرت الطوریـة والمجــرف فــي الجولـة الأُولـى التــي شارك فیها كـل أَهـل قـوزقرافي . وحتـى الأَعـراب الـذین یـسكنون أَطـراف القریـة شاركوا أَیضاً في عمل الجسر؛ فهؤلاء مْثل أَهـل البلـد سیتـضررون مـن النیـل إِن هو غطى الأَراضي الزراعیة؛ إذ سیحرمهـم من الكلأ لبهائمهم التي هي عمـاد حیـاتهم، بـل سـیحرم بعـضهم مـن حـصتهم من المحاصیل التـي یزرعونهـا لأَهـل البلـد مناصـفة أَو أَقـَّل، لقـاء سـقیهم لها وِقیامهم علیها..." (ص46).
كل المجهود المبذول يتم بتعاون الجميع وتعاضدهم وتعاونهم بهمة لأن المسئوولية جماعية والضرر إن وقع لا يستثني أحداً. ويفهم أيضاً أنه ليس هناك أي عون من الحكومة ومسؤوليها:
" لـم یكـن هنـاك أَي رئیس ولا مرؤوس؛ فالمسؤولیة كانـت فردیـة وجماعیـة .. مست كـَّل فـرد على حدة وكَّل جماعة مجتمعة. كانوا جمیعا متفقین على إِقامة الجسر مهما كلفهـم؛ فالمـسأَلة مـسأَلة حیـاة أَو مــوت ولا شــيء آخـر بینهمـا." (الشمس تغيب إلى أعلى: ص47).
ليس هذا فحسب، ولكن تتوطد هذه العلاقة الجدلية والتداولية بين النيل وأهل المنطقة بعكس مشاعرهم وتأثر حياتهم بالنيل بصورة لصيقة. فلنقرأ هذا الحوار في زمن الفيضان ضمن رواية (كي لا يستيقظ النمل):
ودالعالیابي: الناس في قوزقرافي ما زالوا یضحكون، ولكن بحزن، ویرقصون وفي أَعماقهم یرقد كل خمول الجنس البشِري واستكانته وتسُّكعه.
عبدالعاطي : النیل لم یهدم بیوت قوزقرافي فحسب، بل غَّیـر فـي نفـوس أَهـل القریة معاییر كثیـرة. انظـروا إِلـى هـؤلاء الـشبان، مـن مـنهم كـان یجـرؤ قبـل الفیـضان علـى الـسُكر هكـذا علـى مـسمع ومـرأى مـن النـاس؟ الـشبان أَصـبحوا یـشربون الخمـر نهـاراً جهـاراً، ویلعبـون القمـار علـى عینـك یا تـاجر؛ لأَنَّ میـاه الفیضان التي ستستغِرق وقتـا طـویلاِ حتـى تجـف؛ قـد حـرمتهم مـن كـِل عمـل كان یشغلهم فیما مضى. أَما كبار السن فیتفجعون على غـرس سـنین طـوال؛ فشاركوا الشبان في كثرة الكلام مـن غیـر طائـل والجـدل بـلا نتیجـة؛ كمـا رأَیـتم فــي هـذا المجلـس. وأَنـا وِادریـس ومیرغِنـي وعِّمـي الدســوِقي وعِّمــي الخِبیــر وعِّمي الصافي ومدِني ودالعازة وغیرهم وغیرهم ممـن یجلـسون هنـا، مـن كـان یـصدق أَننـا فـي یـوم مـن الأَیـام ـــ ونحـن الـذین لا نـشرب الخمـر ـــ یمكـن أَن یضمنا مجلس خمر؟! السنوات صارت لا تحتـرم المكـان، ومـا عـاد المكـان یأبـه للسنین، وفوق كل ذلك أَصبح رزقنا ـ بسبب الفیضان ــ أَقَّل من زاد مسافر.
میرغِني : صدقت یاعبدالعاطي، لم تعـد لأَیـام الأُسـبوع رائحـة الـزمن .. الـزمن فیه عُفونة.
إدریس: الُعُفونة داخل نفوسنا، لأَنَّ الزمن في الحقیقة جزء صغیر من نفوسنا..." (ص42).
نلاحظ في هذه الحوارية الأثر المباشر للنيل، والذي تتعدد أوجهه من أتر في السلوك وفي الممارسة وفي هيبة العمر والمكانة وفي الرزق. ثمّ ينتقل الحوار لنوع من المحاسبة في دعوة صريحة لمراجعة النفوس والأعمال باعتبار خطورة هذه التحولات التي سببها الفيضان.
ثمّ يأتي تحليل أهل القرية لأسباب الفيضان فيدلي كلاً منهم، في رواية (الشمس تغيب إلى أعلى)، بوجهة نظره على النحو التالي:
"أَهلي عللوا لهذا الفیضان الكاسح تعلیلات شتى، فقد أَرجع بعضهم ذلك إِلـى سد أسوان، وقد أَبدى هذا البعض شفقة علـى سـَّكان وادي حلفـا. آخـرون قطعوا بـأَنَّ الأَحبـاش هـم الـسبب؛ فقـد هـدموا كـَّل الـسدود المقامـة علـى النیـل الأَزرق، بینمـــا تـــساءَل بعـــضهم: هـــل فعـــل الأَحبـــاش ذلـــك..هل حقاً یستطیعون إِقامة سدود على النیل الأَزرق، مع قَّوة اندفاعـه التـي لا توصـف داخل أَراضیهم؟ آخرون أَجمعوا على أَنَّ نهر عطبرة (الأَدبرِوي) هو السبب؛ مستدلِّین بسیقان وجذوع الدوم الضخمة التي یرونها بین وقت وآخر فـي قلـب الَّنهر الرئیسي، وكأَنهـا بقایـا مـن طـسم وجـدیس وجاسـم .. كأَنهـا قاِدمـة مـن زمان سـحیقة .. كأَنهـا أَعمـال أُمـم أَهلكهـا اللـه لكفرهـا بـنَعم اللـه، وهـل هنـاك نعَمة دنیوِّیة ـــ بالنـسبة لنـا ـــ أَعظـم مـن نْعَمـة النیـل؟ حـسن محمـد نور تعلیلـه كان مختلفا؛ فهو یقول إِنَّ أَحد الدراویش وكان قد شهَد معهم الفیضان الـذي رَّحل أَهل قوزقرِافي من جوار النیل إِلى المكان الحالي للقریة، قد حذر النـاس من فیضان آخـر، یـأْتي مـاؤه صـافیا ومنـدفًعا ..بارداً ومتتابعـا، ویـصل حتـى المصَرف." (ص47/48).
يمتد أثر النيل بحسب خطاب نفس الرواية الى صحة أهالي المنطقة وذلك بالتنبيه عن الأمراض التي تصاحب السيول والمياه الراكضة، وعلى رأسها البعوض. وهنا أشارة خفية إلى ضرورة أيجاد حلول نهائية لمسألة السيول المتكررة سنوياً. ونلاحظ أنّ هذه المشكلة مستمرة دائماً ونعيشها في هذه الفترة في كل السودان.
""في تلك الأَیـام كانـت حـشرة (النمتـي)؛ فكنـت ترى الدخان طَوال الیوم طردا لهذه الحشرة. َلقـد جـاءت حـشرة النمتـي ـــ ذلـك النامْوس الطائرــ في غیر وقتها.. كأَنَّ النیل قد قذف بها من أَعماقه.. كأَنها صارت أَحد جند النیـل فـي حربـه مـع أَهـل القریـة..." (ص54).
نستشف من الإشارة إلى إنتقام النيل من أهل القرية بإرساله جنده (النمتي) جدلية العلاقة بين الإنسان والطبيعة من جهة، وبين الإنسان والطبيعة وكافة المجتمع من جهةٍ أخرى. وتتجسد وتترسخ هذه العلاقات على مدى التاريخ ويتشكل بناءً على ذلك الوعي فيها.
من اللمحات الذكية للكاتب علي الرفاعي اشارته لمشاكل الأرض عند جرف النيل التي تنشأ بين الأهالي، كنوع من رفع وعي هؤلاء الإهالي:
"والنیـل مـازال فـي هبـوط، ومع هبوطه بدأَت نغمة جدیدة، فها هو ودالزاكي المعروف بكثـرة تـردده علـى المحاكم فـي خـصومات ونزاعـات الأَرض التـي كـان یفتعـل أَغلبهـا، هـا هـو ذا یدخل في مناقشة مع صالح ود النعیم جاره في جرف النیل؛ فیحكم هذا الأَخیر كــافي ود اب حنــك ویــذكره بأَنــه المــسؤول عــن جمــع الطلــب فــي هــذه المنطقة؛ وأَنه یعرف حدود أَرض كل واحد من حدود أَرض الآخر،..." (الشمس تغيب إلى أعلى: ص54).
وبمزيج من مشاعر الرضا والغضب يشير الكاتب إلى ملمح آخر لرفع الوعي وتشكله، وذلك بعد أن نجح أهل القرية في الحد من تدفق النيل ورفعوا حالة الطواريء عنه، بدأوا يتحدثون عن مواقفهم ووجهات نظرهم فيما فعل النيل بهم، فالحدث هو الحدث ولكن الإحساس به يختلف من شخص لآخر، فلنقرأ:
""الآن تراجع النیل كلِّیة؛ ... وبدأَ الحدیث بین مادح للنیل، وهم الذین تقع أَراضیهم أَمام الجـسر، وقـادح لـه، وهـم الـذین غطـى النیـل أَراضـیهم. مـن المجموعـة الأُولـى عبـر خیر الله عن فرحه، واصفا الفیضان بأَنه ورم وقد زال الآن، مثْنًیا علـى النیـل واصفا إِیاه بأَنه راجل أَخو أُخوان مختتًما فرحه بقوله: باكر یا خیر الله وا خیرك وا قرضمتك. ویدلي حاج مصطفى بدلوه ـــ یـارِب لیـك الحمـد والـشكر- بعـد مـا منعونـا مویـة البـاجور البحـر جـا حـل المعقودة. وكان ناس البساتن ما عرفوا عوجتنا البحر عرفا! أَما عبود ود اب سوار فهو الآخر قد شارك في مدح النیل: حَبوب یاالبحر .. نَخَلي بعد ما قرب یموت من العطـش البحـر سـقاهو والسنة دي نربي الضان والعجول وملعون أُبو الفلس.
أَما الذین غمر النیل أَراضیهم فیمثلهم حاج الیاس زعلة وربنا عداها . عمرنـا مـا شـفنا البحـر زعـلان زعلـة زي دي .. یـاخوي عمل الناس بطال.. ماكلین حرام وشاربین حرام .. وحتى الزكا ناموا علیهـا.
بالنـسبة لأَحمـد الـسوكري الـذي كـان یعمـل بالجندیـة وتـرك الخدمـة، بعـد أَن قـبض مكافـأَةً كبیـرة بـددها فـي استـصلاح وزراعـة أَرض أَجـداده، ثـم ضـَّمها النیـل فـي مـا ضـَّم مـن أَراض، فـإنَّ الأَمـر یفـوق طاقـة تحُّملـه كثیـرا؛ لـذا ننظر إلیه شذراً حین نسمعه یقول مستاء: مكافـات الرمـاد كلهـا رمیناهـا فـي الأَرض؛ وعوضـنا منهـا التعـب والـسهر حاصل فارغ. أما أَمونة بت سراج التي تعول بنات ابنها المتوفَّى؛ فـإنَّ الموقـف كـان شـدید الإحراج بالنسبة لها ــ شـكینا البحـر علـي اللـه .. حالنـا واقـف وفوقنـا بناتـا أَیتـام .. وقـدر العیش المزروع البحر غرقو وباكر یاكلن الطرفة والدمسیسة.
أَما فـتْح الـرحمن ود الغنـاي شـاعر هـذه المجموعـة، فقـد هـزه الموقـف فأَنـشد عاتبا على النیل
أَمانة یا البحر ما فیك وجع
مات الشتل وزرعوا القرع
(اص55-56).
يتعمق الإحساس بين الطبيعة والإنسان، برمزية عالية، من خلال بكاء النيل وحزنه على وفاة (عوض ود كراع الفروة) الذي لم يكن له أهل في قوزقرافي، ولكن احتواه الرحم الإجتماعي الكبير وهو القرية بنيلها وحنوِّه.
لقـد ماتـت فینـا بمـوت صـدیقي عـَوض كـل خلایـا الفـرح والحب... ، ولـم ترد برقیة من أَحد تنعى صدیقي عوضاً. أَهله وذُوْوه كانت القریة وكان النیـل؛ فبكاه النیل وهو مستلقٍ على قفاه ینظر إِلى السماء؛ حتى سالت دموعه وهـي تقاوم الجسر. وبكته القریـة بحرقـة وصـمت ودفنتـه قبْیـل المغـرب، تمامـا كمـا دفنـت النْیـل عنـد المـصرف، وجلـست علـى فـَراش المـأْتم تغتـاب بعـضها بعـضا وتتناقش وتتشاجر.." (الشمس تغيب إلى أعلى: ص58).
هذه الإشارة إلى القرية كملاذ ورحم يستوعب الأبناء تمّ تطويرها وتطويعها براقماتياً من خلال اغتراب الأهالي وأثر هذه الغربة من عدة جوانب نوردها في الفقرات التالية.
"بعد أَن صـارت أُمـوري إِلـى مـا صـارت إِلیـه، وقـد اسـتبَّد بـي شـوق عـارٌم إِلـى قریتنـا التـي طالمـا أَحببـت وصـبوت بهـا حتـى الـذهول؛ آلیـت علـى نفـسي أَن أَفتك بجرثومة الغربة قبل أَن تفِتك بي. فالبلد قد فطرنـي علـى حبـه منـذ وجـد الحب، والذي یطِّوع مهرا صغیرا لن یجد عناء في امتطائـه وهـو حـصان كبیـر، والذي یطوعه البلد یـشكلُه كمـا یـشاء...
لقـد قـررت العـودة إِلـى منبعـي؛ فنهري هو النهر الوحید الذي لا یخجل مـن أَن یعـود إِلـى منبعـه ومرة أُخـرى عانقت النیل والنخیل لقـد عـدت إِلـى القریـة وأَنـا أُریـد مـا لا أَعـرف، وأَعـرف مـا لا أُریـد، ووطنـت نفـسي علـى أَلا أُغادَرهـا وأَن أُمـارس أَي مهنـة لا یهُّم إِن عملت مزِارعا .. نجارا .. تربالاً..المهم أَن أَرى النیل والنخیل والقریة كل صباح وكَّل مساء." (ص68).
نحس في الحقيقة أنه لا تجدي الكلمات في التعليق على هذه الصورة المشهدية لحب الأصل والأرض والمنبع، وهي تمثل تعميقاً للوعي الذي ينشد الكاتب لرصده وعكسه في ما يتعلق بعلاقة الإنسان والطبيعة والأرض.
في نفس الرواية (الشمس تغيب إلى أعلى) يعطينا الكاتب ملمحاً عن هذه القرية التي يعشقها سكانها ويلهج لسانهم بشكرها وفضلها فيقول:
"سَّكان القریـة قـضهم وقَضْیـضهم مـن عجینـة واحـدة .. لا أَحـد غریب، ولا أَحد یَزِّوج ابنته لغریب، ویتحاشون الـزواج بالغریبـات، والغربـاء في قاموسهم هم أَهل المُدن. فهم قد اسـتقروا فـي العمودیـة بطونـا وأَفخـاذا، تمامـا منـذ أَن اسـتقر فیهـا النیـل والنخیـل منـذ آمـاد سـحیقة، قبـل أَن تعـرف العموِدَّیـة المـشروع الزراعـي، حـین كـان الأَهـالي یعتمـدون فـي ري أَراضـیهم علـى الـساقیة والـشادوف. المنـازل بـلا اسـتثناء مـشادة بــالجـالوص( ذوات حیشان فضفاضة وغرف لها طاقـات نوافـذ صـغیرة فـي أَعلاهـا. ِ وعنـد ظـاهر القریة سكنت زَرافَات من الأَعراب، بنى الموسرون منهم حجرةً أَو اثنتین مـن الجــالوص، وظــَّل معظمهــم فــي مــساكنهم التَّقلیدیــة .. بیــوت مــن الــشعر أَو القــش وجِرْیــد النخــل، یــشاركون القریــة أَفراحهــا وأَتراحهــا، ویجــاملهم أَهــل القریة في مناسباتهم تلك هي قریة قوزقرافي التي كانت ــ ومـا زالـت ــ تسح الدموع حـین یغادرهـا أَحـد أَبنائهـا إِلـى المـدن .. المدن التـي تـصِّورها بغـوٍل لا ینـام ولا تمتلـىء بطنـه، شـأْنها فـي ذلـك شـأْن بقیـة قـرى المنطقـة. تلـك هـي قریتي التي یقول شیوخها: إِنها لا یدخلها إلا طیب، ولا یهجرها إلا فاسق... " (ص26).
ثمّ يركز على موضوع الغربة وكأنه يستهجنه ويستغربه وذلك في رواية (النيل يعبر إلى الضفة الأخرى) من خلال حديث شباب القرية عن عودة (سراج) إلى القرية بعد غربة طويلة ولدوا خلالها وكبروا ولم يسمعوا ب(سراج) ولم يعرفوه. ولكن قبل ذلك يعكس الكاتب علي الرفاعي كيف أنّ القرية استقبلت (سراج) بحفاوة كما تفعل الأم الرؤوم. واللافت للنظر تداولياً أنّ وصف الإستقبال جاء على لسان (سراج) نفسه وهو، من وجهة نظرنا، دعوة له للشكر والعرفان ولكن في نفس الوقت دعوة لتأنيب النفس والضمير على طول الغربة والعقوق:
"استقبلتني القریة كمـا تـستقبل كـَّل أَبنائهـا بالحـضن والـضم، ولقَّنتنـي درسـا في انتماء الجزء إِلـى الكـِّل، وحـب الكـِّل للجـزء. أَهلـي جلـسوا یـسأَلونني عـن من أَتى معي باللوِري، وعن الوصایا التي رَبما حملني إِیاها أَقرباء بعـضهم.." (ص28).
"لزمان طویٍل، لم یعد لأَهل قوزقرِافي من حدیث إلا عودة سراج، الذي لا یعِرفه إلا كبـار الـسن. وقـد اسـتغرب الـشبان مـن الجیـل الـذي ولـد فـي غیـاب سـراج غایـة الاسـتغراب، وظـَّل سـَؤال مـشاكس یِلـح علـى أَذهـان أَفـراد ذاك الجیـل كیـف یعـود هـذا الرجـل إلـى قریـة لا یكـاد یعـرف فیهـا أَحـدا؟ وبجانـب هـذا السؤال كان هنـاك سـَؤال آخـر لا یِقـل عنـه مشاكـسة: كیـف یعـود هـذا الرجـل بعد كل هذه السنوات التي عق فیها القریة؛ فلم یرها إلا بعد أَن ذهـب الزمـان بماله؟ وحدهم شیوخ القریة كانوا یعرفون الإجابة .. كانوا یعِرفون أَنَّ سـراجا لم یفعل إلا كما یفعل كل أَهل القریة .. یِغیب المـرء مـنهم عـن القریـة عـشرات الـسنین، ثـم یعـود لیمـوت فـي قـوزقرِافي..." (ص32).
من الواضح، بالنسبة لنا، الدلالة الجدلية لإستنكار عودة (سراج) بعد غربةٍ طويلةِ. فهي ترمي إلى عقوق القرية ولكنها تلفت النظر إلى عدم رضا الناس من العودة لأنها تعني المطالبة بالحق في الأراضي الزراعية والسكنية وهو أمرٌ غير مقبولٌ للأهل بعد أن توسعوا في الأرض وامتلكوها وتعبوا عليها واستقروا فيها. ويبدو هذا جلياً من خلال حديث الشباب (كيف يعود هذا الرجل بعد كل هذه السنوات...، فلم يرها إلا بعد أن ذهب الزمان بماله؟)
ونستشف وجهة نظر أخرى عن الغربة من تجربة (المأمون)، أحد شخوص رواية (النيل يعبر إلى الضفة الأخرى)، وعلى لسان راوٍ ضمنيٍ ينطلق من رؤية داخلية تعكس ما يمور في دواخل (المأمون):
"لقـد عـاد المـامون بعـد اغتـراب دام عـدة سـنوات، وجلـس إلـى أَهلـه یحكـي لهـم كیـف أَنـه قـدعـاد مـن بـلاد یعـیش فیهـا الإنـسان بـدل فاقـد لإنسان آخر، وحتى حین یبتسم تقنعك ابتسامته أَنه یبتسم نیابة عـن إنـسان آخر، وأَنَّ قریته لم تغب عن مخیلته في بلاد الرطوبة والهواء المعبـأ. وعلى الــرغم مــن أَنَّ ربوتــه فــي الحیــاة قــد صــارت الآن أَعلــى مــن ربــا معظــم أَفــراد عشیرته، إلا أَنه قرر أَن یعوَد ویستقَّر فـي قریتـه. لكـنَّ المـامون صـدم فیمـا بعد؛ فقد خیَل إلیه أَنه قد ضل طریقه إلى قوزقرِافي، ولم یجد نفسه إلا حین جلس یتآنس مع عمه تبیق وبـشیر ود الجزوِلي وعمـه حـاج النعمـان..." (ص45).
وعندما يتحدث (حسون ود النعمان) لأصدقائه في إحدى إجازاته، في رواية (الطاحونة)، عن قوزقرافي واحساسه بها في الغربة، يتجسد الوعي بمعنى الإنتماء:
"حكـى لهـم عـن الزجاجـة التـي ملأَهـا مـن مـاء النیـل وأَخـَذها معـه، یبـذل لهـا البسمة صباح مساء، وما أَن یلُم به مرض أَو تَحل بـه ضـائقة، حتـى یهـرع إلیها ویأخذ منها جرعة تزیل الأَلم وتحُّل الضائقة . حكى لهـم عـن نـواة التمـرالتـي كانـت لآخـر تمـرة أَكلهـا بالقریـة، وحملهـا معـه إلـى الغربـة وزرعهـا فـي حدیقة بیته، وهي الآن شتلة تكابد الغربة معه. لقد حمل معه النیل والنخیـل إلـى الغربــة..." (ص19).
من النماذج المبدعة لتعزيز الوعي بقيمة قرية قوزقرافي ما جاء على لسان (جوهانا ريد) في رواية (كي لا يستيقظ النمل) كرد على سؤال من (ود الباشكاتب):
هو : لماذا عدت إلى قوزقرافي مَّرة أُخرى؟
هي : لأَنني ما أَن تقع عیناي على موقع قوزقرافي فـي الخریطـة؛ حتـى أَشـم في أَنفي رائحة نوار النیم .. التحدیق فـي نجـوم قـوزقرافي لـه فـي الحلـق طعـم الشهد. (ص54).
ننتقل للحديث عن الوعي بالأرض وأهميتها لأهل قوزقرافي وحبهم لها وتمسكهم بها. والحديث عن الأرض تم من خلال طبيعة علاقتها بالزرع والبستان، كما هو الحال في علاقة يوسف بارضه وبستانه وحميمية علاقته بنخله، كما جاء في رواية (النيل يعبر إلى الضفة الأخرى):
في واقع الأَمر لم یكن یوسـف مزارعـا عادیـاً؛ إذ لـم تكـن علاقتـه ببـستانه، أَو بالأَحرى بنخل بستانه، تشبه علاقة أَي مزارع آخر بنخله .. هذه تغمز له غمزة یفهم مدلولها .. تلـك تحـِّرك جریـدها حـین ینظـر إِلـى أَعلاهـا، وقـد بنـت حدأَة في رأسها عشاً واتخذت لها فیه فراخا وهذه صغیرة للغایة، لكَّنها تحمل ثمًرا؛ ینحِني فوقها وهو یقول في نفسه: قدرة الله! َّالنخل مثل ابن آدم، بعضه یبلغ الحلم في سن مبكرة، وبعضه یبلغه في سن متأَخرة.." (ص36).
تتجلى بصورةٍ أكبر دلالات هذه الأنسنة في الحوار الصامت الذي يدور بينه وبين النخل. حواراً قوامه المحبة والتقدير:
"یوسـف كـان یشعر باللوم العذب من جانب النخل؛ إن هو غب یوماً لم يزره فیه .. یوسف كـان سـعیًدا یـتفحص شـقوق قدمیـه كـل نهـار، وهـو یجلـس وسـط أَهلـه مـن النخیل، ویغِّني من قلبه وخیاشیمه، وحقاً ما أَسعد من یفخر بشقوق قدمیـه زمن المحل ورغم الریاح، ویوسف یرعى نخیله. عندما یكون یافًعا یجِلب له الماء على كتَفیه وهو یخب في مشیته، وینهز نهزة دلو اشـتاقت لبئرهـا. ِإن ماتت شتلة، أَحس بها توصیه قبل أَن ینشف جریـد قلبهـا علـى بقَّیـة النخـل؛ فیشِتل أُخرى في مكانها .. ِإن أَبدت أُخرى رغبتها في الإثمـار كبنـي جنـسها؛ عقَد لها علـى ذكـر النخـل الـذي یقـف كهـارون الرشـید. باخِتـصار شـدید كـان یوسف یفهم لغة النخل غیـر الملفوظـة، وهـي لغـة معـاني أَلفاظهـا أَكبـر كثیـراً مـن أَن تنطـق باللـسان. (النيل يعبر إلى الضقة الأخرى: ص37).
هذه العلاقة المتينة مع الأرض والنخل يمكن أن تتعرض، كعلاقة الرحم، لتقلبات الإنسان وأنانيته وحبه للتملك، كما حدث مع (يوسف). فوالده، الذي كان يعمل خارج قوزقرافي وتقاعد عن عمله، عاد إلى البلد وتوجه بالحديث مباشرةً إلى ابنه قائلاً: (بارك الله فیك یاولدي ..عمرت الأَرض وانا عافي لك أَكلـك الفـات منهـا لاكین من النهار دا الطین طیني والنخل نخلي).
"هذه أَسوأُ عبارة یمكن لیوسف أَن یتوقع سماعها من أَبیـه، الـذي تقاعـَد الآن ولا یزال یوسف یذكر كیف أَنه قـد لاحـظ یـوم قـدوم أَبیـه، أَنَّ عـروق كفیـه قـد صارت أَكثر بروزا وتعرجا، وأَنَّ فكه الأَسفل قد ارتخى كثیرا. أَكثر مـن ذلـك، أَحس أَنَّ صورةَ أَبیه هي أَقرب ما تكون شبهاً بصورة الرجل الراكب على جمل المطبوعة على الجنیه الورِقي القدیم. لكَّنه استبعد بینه وبـین نفـسه أَن تكـون مـشاعر أَبیـه، تـشبه مـشاعر الرجـل المطبوعـة صـورته علـى الجنیـه الـورِقي القدیم. حاول - في الحقیقة - أَن یطرَد من ذهنـه فكـرة العلاقـة المـشتركة بـین الرجلین حیال المال؛ فأَبوه ـــ كمـا وقـر فـي نفـسه ـــ یـسيء إلـى المـال، وذاك یحــُرس المــال. ولكن یبــدو أَنَّ المــسيء والحــارس قــد یتــصادقان مــع طــول الاغتـراب..." ( ص38).
بهذه الذهنية المدربة يعكس الكاتب علي الرفاعي العلاقة بين الطبيعة والإنسان والأرض من خلال علاقة الإنسان بهذه الأمكنة والتي تمتد لتصبح علاقة اجتماعية بين الإنسان وأرضه، وذلك بتلميحه لقضايا التوريث وما يصحبه من مكائد، والزواج بالمرأة الغريبة وتمليكها الأرض، وقد أشرنا لكره أهل قوزقرافي لهذا الفعل سابقاً في سياق هذا المقال.
"فـي نظـر یوسـف ـمـصیبة جدیدة تـضاف إلـى مـا أَصـاب قـوزقرِافي فـي الـسنوات الأَخیـرة؛ فهـو یعلـم أَنَ النزاع على الأَرض قائم في المنطقة منذ أَن جرى فیه النیل، لكَّنه احتَّد فـي السنوات الأَخیرة . هذا النزاع ما عاد وقفـا علـى الأَراضـي الزراعَّیـة، بـل شـمل السكنیة أَیضا؛ حتى غدت الأَرض المقامة علیها جبانة تورالقوز، الأَرض الوحیــدة التــي لا نــزاع علیهــا بــین أَهــل القریــة. ِوممــا یــدعو إلــى العبــرة أَنَّ شاغلي قبور هذه الجَّبانة ـ.ـ الرجال منهم خاصة قد أَفنوا معظم - إن لـم یكـن كل - أَعمارهم في النزاع على الأَرض، وفي باطن الأَرض تتشابك الجذور، وان كانت لأَشجار مختلفة الفصائل! َّالذي یدعو إلـى العبـرة أَیـضاً، أَنَّ والـد یوسـف
نفسه قد جاء إلى الدنیا نتیجة حب الأَرض، فقد حكى لـه جـده الحكایـة: لـم أَكـن فـي شبابي سعیدا فـي حیاتي الزوجَّیة مع جدتك، وكانت نفـسي تحـِّدثُني بالزواج بفتاة جمیلة من قریتنا اسمها آسیا. والحقيقة لله لم أَجد من آسیا إلا كل تجاوب. ولما أَحست زوجتي ــ أَي جدتك ـ أنني على وشك الزواج بآسـیا وكأَنَّ جدتك ــ یرحمها الله ــ كانت تسمع حدیثي مع نفسي .. الِّنـساء یا صـالح شیاطین مصرمة، لَّما أَحست جدتك بذلك؛ عمدت إلى المكیدة .. أَخـذت تِكیـل المـدح لآسـیا وجمالهـا وذوقهـا أَمـام ابننـا؛ الـذي فاجـأَني ذات یـوم بقـراره أَن
یَّتخذ مـن آسـیا زوجـة لـه. هكـذا تزوجهـا ابنـي الـذي هـو أَبـوك؛ وبـذلك حـرَم علي شـرعا الـزواج بهـا إن طلقهـا ابنـي. تنَّبهـت إلـى أَنَّ زوجتـي كانـت ترمـي إلـى هـذه النقطـة بالـذات.. َّیتـزوج ابننـا آسـیا، ثـم تـسعى إلـى تطلیقهـا منـه انتقاما مِّني ومن آسیا؛ لأَنَّ كلینا قد مال إلى الآخر .. ْ أَلم أَقل لك إنَّ النساء شـیاطین مـصرمة؟ تنبهـت إلـى هـذه النقطـة؛ فوجـدت لهـا دواء شـافیا .. هـذا الدواء اسمه الأَرض .. الأَرض یاصـالح تـرخص دونهـا الحیـاة. مـا كـان مِّنـي بعـد ذلـك إلا أَن قمـت بتـسجیل كـل أَملاكـي مـن الأَرض بمحكمـة مـرِوي علـى أَولادي بالتساوي؛ إِذ هـم جمـیعهم ذكـور. َّأَمـا نـصیب ابنـي زوج آسـیا، فقـد سجلُته كله باسم آسیا؛ حتى لا تفكر زوجتـي فـي تطلیقهـا منـه؛ فقـد ربطُتـه إلى آسیا بالأَرض. وبالطبع لن تنسى أَنَّ ابني هو أَبوك، وأَنَّ آسیا هي أُمك. حب امِتلاك الأَرض یاصالح هو الذي جاء بك إلى هـذه الـدنیا؛ فـلا تفـِّرط فـي الأَرض ، واجعل حب امتلاكهـا سـببا فـي أَن یكـون لأَبنائـك نـسل، كمـا جعلـت ذلـك أَنـا. هكـذا لـم یكـن صـالحا وِالـد یوسـف بـدعا فـي حـب امـتلاك الأَرض، ولأَنه نفسه قد جاء نتیجة تآمر؛ لم یكن بالتالي منَّزها عن التآمر، حتـى إن كان هذا التـآمر علـى ابنـه.." (النيل يعبر إلى الضفة الأخرى: ص40=41).
ويركز علي الرفاعي على نتائج هذه العلاقة بين الإنسان والأرض والطبيعة في تخييلٍ مبدع والتي تتمثل في سوء النوايا والعمل، وبالتالي ربط الوعي بمخافة الله سبحانه وتعالى. فلنقرأ هذا الخطاب الجدلي العميق الذي ينقله الراوي الضمني عن (المأمون) في مواصلة لخطاب الحوار الجاري داخل رواية (النيل يعبر إلى الضفة الأخرى):
"وحــین وقفــا علــى شـاطىء النیـل، اسـتغرب المـامون كیـف لـم یفطـن مـن قبـل إلـى حالـة النیـل وكأَنَّ بشیًر قد أَدرك ما یعتمل في أَعماقه؛ قاَل له متسائلا: أَترى لو أَنَّ كل فرد من قوزقرِافي ملأَ قربة كبیرة من ماء النیل وأَخذها معه، هل یبقى من النیل شيء؟ ضحك المامون ملء شدقیه، اللذین عاد فملأَهما براحتي یدیه من ماء النیل وحتى یفهم بشیر أَنه قـد فهـم قـصده، وأَنـه لـم یفهـم مـن كلامـه أَنَّ مـرَّد ذلـك راجع إلى كبر عدد سَّكان القریة الآن؛ الأَمـر الـذي لا یجعـل مـاء النیـل یكفـي ملء قربة ماء لُكل شخص بالقریة، حتى یفهمه ذلك ؛ قال المامون لبشیر ـلن یمضي زمن طویـل، حتـى یـأتي یـوم یجلـس فیـه المـزِارع مـن قـوزقرِافي على هذه الضفة، یصنع حبالا من أَلیاف النخیل، وهو یجلس فـي ظـل شـجرة قائمة على الضفة الأُخرى للنیل قال المامون ذلك، وهو یجول ببصره على صـفحة النیـل التـي ظهـرت علیهـا كثیبات رمل كثیرة، كرأس داهمه داء الثعلبة. َّ یاالله! فعلى نفـس هـذه البقعـة كان المامون یقف مع حـسون ود النعمـان أَیـام كانـت الـدنیا بخیرهـا، وحسون یحِّدق ملیا في الضفة الأُخرى، وفجأَةً أَخذ یصیح: یا أَهـل الـضفة الأُخـرى أَنـتم منــا، یفرقنــا النهــر ویجمعنــا الفقـر. ومــا زال یكــرر ذلــك حتــى تقطعــت أَنفاسه، ثم صمت فجـأَةً وأَخـذ یـد المـامون ووضـَعها علـى موضـع قلبـه الـذي كان یدق بشدة؛ فسارع المامون یسأَله أَخائف أَنت یاحسون؟ ضحك حسون، ورَد علیه:
أَبدا یامامون. ولكن تصَّور معي أَنَّ أَهل الضفتین قد وقفوا على شاطىءِ النیل، وصاروا یهِتفون: یجمعنا الفقر ویفرقنا النهرَّ حتى تبح أَصواتهم، ثم ینادي أَهل الضفة الأُخرى بأَعلى ما فیهم من أَصوات: یاأَهل الضفتَین فلیتلاش النهر. یاأَهلنـا علـى الـضفة الأُخـرى: ِلـم لا نـشرب النهـر؟ ومـن ثـم یقسم النـاس علـى الـضفتین علـى شـرب مـاء النیـل؛ حتـى لا تبقـى منـه قطـرة واحدة. وبالفعل یبدأُ الناس جمیعا في الشرب .. تخَّیل الأَصـوات الـصادرة مـن أَفــواه النـاس وهــم یقومـون بــشرب مــاء النیــل. وفجـأَةً یرفــعُ رجـٌل مـن أَهــل الـضفة الأُخـرى رأسـه؛ فیكتـشف أَنَّ أَهـل ضـَّفتنا لا یـشربون؛ فیـصیح فـیهم یاأَهـل الـضفة الأُخـرى: أَنـتم مكـارون .. أَنـتم تریـدوننا أَن نـشرب مـاء النیل لوحـدنا حتـى تنـشق بطوننـا فنمـوت؛ وترثـون أَرضـنا ونـساءنا. یاأَهـل الـضفة
الأُخرى : فقركم لیس كفقرنا .. نحن فقراء إلى المال، وأَنتم فقراء إلى الروح..
وعلـى إثـر ذلـك یرفـع كـل أَهـل الـضفة الأُخـرى رؤوسـهم؛ فیـرون أَهـل ضـَّفتنا یتغامزون علیهم. فیسیر أَهـل الـضفة الأُخـرى إلـى بیـوتهم وهـم ینظـرون إلـى الأَرض، ویــسیر أَهــل ضــَّفتنا إلــى منــازلهم وهــم یتثــاءبون، ومــاء النیــل لــم ینقص شیًئا." (ص47-50).
وتتواصل مخيلة الكاتب علي الرفاعي في نسج خطابات الوعي تجاه النوايا في رواية (شبابيك الوجه الآخر) حيث تظهر فجأة جزيرة غنية في وسط النيل في منتصف المسافة بين قريتي (أم طندب) و (حجر السنبر)، وبالتالي بدأ رجال (أم طندب)، باعتبارهم أهل الحل والعقد، في مناقشة أمر الجزيرة في شدٍ وجذب، ومايمكن أن يفعلوه كما ينقله الراوي العليم:
- عمي النعيم: مجرد استغلالنا للجزيرة في أي نشاط مهما كان، سيقودنا للصدام مع أهلنا في حجر السنبر؟ لماذا لا نبيع هذه الجزيرة ونقتسم قيمتها مع أهلنا؟
- عمي سلفاب: هل بحوزتكم من الأوراق ما يثبت ملكيتكم لهذه الجزيرة، وبالتالي يعطيكم حق بيعها؟
- عمي طلحة: الرأي الذي أراه مناسباً هو أن نزرع الجزيرة عاماً، ويزرعها أهل حجر السنير عاماً آخر...
- عمي النقر: ولكن من الذي سيزرعها أولاً؟
- عمي طلحة: هذا غير مهم.
-عمي النقر: بل هو مهم للغاية (...). هذه الجزيرة سترحل عنا كما رحلت عن آخرين..ربما قبل أن نفض النزاع حولها..ربما بعد حول..ربما بعد أن نموت، لكنها حتماً سترحل. لذا أرى أن نكون أول من يزرعها.
- عمي سلفاب: صدقت يا حاج النقر. هذه الجزيرة سترحل عنا يوماً ما، لأنّ صلبها المواجه لتيار الماء سيتعرض للنحت المستمر ويترسب في رأسها البعيد، لذا تتحرك الجزيرة. اي أنّ الذي يكون رأسها سيكون صلبها يوماً ما، ثمّ يكون هذا الصلب يوماً ما رأسها، وهكذا دواليك.
- عمي النعيم: والحل؟
- عمي سلفاب: الحل أن نبني جناحاً بالحجارة والاسمنت في صلب الجزيرة المواجه الآن للتيار، حت يتوقف النحت..بل يمكن بهذه الطريقة أن نزيد مساحة الجزيرة (...) من غير أن يلاحظ أهل حجر السنبر أنّ هذه المساحة الإضافية للجزيرة كانت في الحقيقة جزءاً من ارضهم." (ص26-29).
حاولنا من خلال دراستنا للمكان الروائي في المنجز الإبداعي للكاتب علي الرفاعي أن نبرز العلاقة بين الإنسان والطبيعة (النيل والارض) بالإضافة إلى القرية باعتبارها الأم الرؤؤم والرحم الإجتماعي الذي يحوي جميع أفراد مجتمع قوزقرافي.
هذه العلاقة ما كانت لتبرز بهذه الكيفية المبدعة لولا ارتباط الكاتب علي الرفاعي نفسه بالريف وعلاقته بالارض والطبيعة من خلال عمله كمزارع. وهو ما جعل هذه العلاقة بين الإنسان والطبيعة والأرض تتجسد كمضمون يربط كل أجزاء منجزه الروائي بتداولية حوارية عالية أعطت قيمة وأهمية لهذه العلاقة من خلال تناولها في كل الاعمال كقاسم مشترك بينها.
أما التمسك بالقرية وبرها والعمل لأجلها فقد برز من خلال رفع وعي الاهالي به وتكراره وزيادته باعتبار القرية الرحم الكبير الذي يسع الجميع. وقد شرحنا ذلك من خلال تناول الكاتب لأهميته. فحتى الذين يغتربون لسنوات كثيرة يعودون ليموتوا ويستقروا داخل هذا الرحم، استقراراً يبرر الإضطراب الذي يحدث في العلاقة بين الطبيعة والأرض والإنسان فيغادر إلى أماكن أخرى ويسافر، ولكنّه يعود بشكل طبيعي إلى أرضه متجاوزاً لكل الظروف ومسيطراً على كل أثر لعلاقته بها.
هذا التجاوز وهذه السيطرة يعكسان أصل هذه العلاقة وهو التمسك والإرتباط الوثيق بحبلٍ الرحم السري الذي يجعل من الطبيعة والأرض فاعلان أساسيان في ذات إنسان القرية.
هكذا، من وجهة نظرنا، انتبه علي الرفاعي للدور الفاعل للمكان فاستغله بقصدية عالية جداً من خلال المتن الحكائي والبنائي مشكلاً في النهاية نسيجاً جمالياً فنياً ودلالياً تتشابك خيوطه في سردٍ متماسكٍ ممتعٍ وبديعٍ.
في ختام مقالنا نلفت الإنتباه إلى أنّ دلالات المكان عند الكاتب علي الرفاعي تتجاوز دلالاته تلك التي أجملها لنا الكاتب غاستون باشلار في سفره الموسوم ب(جماليات المكان)، والذي يتركز محوره حول صلة المكان بجوهر العمل الفني باعتباره المكان الاليف الذي يبعث فينا ذكريات (بيت الطفولة).
المصادر:
باشلار، غاستون: جماليات المكان، ط2، ترجمة غالب هلسا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت-لبنان، 1984.
الرفاعي، أحمد علي: الطاحونة، 2001
: كي لا يستيقظ النمل، 2005
: الشمس تغيب إلى أعلى، 2002
: النيل يعبر إلى الضفة الأخرى، 2003
: شبابيك الوجه الآخر، 2015.