نص (ود الحبشية )لـ القاص عثمان أحمد حسن

نص (ود الحبشية )لـ القاص عثمان أحمد حسن عامر محمد أحمد حسين جدل الهوية ورهان الواقع.. من المؤكد أن القصة القصيرة قد وصلت إلى أعلى مراتب الكتابة في فترة زمنية ليست بالقصيرة ولا البعيدة وأنها في سعيها لقراءة النفس البشرية قد دخلت في منعرجات كثيرة وكبيرة وأرخت ودونت وتغنت باللغة

نص  (ود الحبشية )لـ القاص عثمان أحمد حسن

نص  (ود الحبشية )لـ القاص عثمان أحمد حسن
عامر محمد أحمد حسين
جدل الهوية ورهان الواقع..

 

 

 


من المؤكد أن القصة القصيرة قد وصلت إلى أعلى مراتب الكتابة في فترة زمنية ليست بالقصيرة ولا البعيدة وأنها في سعيها لقراءة النفس البشرية قد دخلت في منعرجات كثيرة وكبيرة وأرخت ودونت وتغنت باللغة والمكان والجمال. ومن المؤكد أيضاً أنها تعاني الآن من تشكيك فيها وفي قدرتها على قراءة الواقع الماثل بكل تعقيداته الكونية والمرئية واللا مرئية وماهو أبعد من ذلك حيث تنقلب فلسفة القبض على الزمن ورسمه بدقة متناهية الصدق وخيالية الأبعاد ومن أجل إعطاء وصف دقيق وحقيقي لتعريف القصة القصيرة وإرتباط ذلك بالتغيير والمتغيرات فإن الإمساك بالزمن قليل التكلفة في مشاهدة حدث قد تحقق وتحول إلى حتمية كونية لها مالها وعليها ما عليها من المشاهد وزاوية نظره الخاصة بالرؤية. ثمة إعتباران أساسيان يمكن بهما قراءة موقع القصة القصيرة في خارطة الإبداع العربي. الإعتبار الأول أنها قد وصلت إلى مرحلة عميقة في إدراك المفتاح الخاص بالشخصية والأمكنة والأزمنة مع صعود إلى مقام إدراك أهمية هذا المفتاح القصصي في مشروع نهضة وتطوير الكتابة في العالم الثالث عموماً وعالمنا العربي باعتبار سؤال الهوية وسؤال الذات وسؤال الحقيقة عن ما نحن عليه من لحظة تاريخية تتشابك خيوط عرضها وطولها الى درجة كتابة "188" نصاً روائياً في معرض واحد في جمهورية الجزائر الشقيقة وهي لحظة أطلق عليها الروائي الجزائري دكتور صديق الزيواني "شيء هستيري". الإعتبار الثاني: يتعلق أيضاً بموقع القصة القصيرة وتعريفها بوصفها جنساً أدبياً غير قابل للذوبان أو الإضمحلال مع سرعة العصر التي تبدأ من الوجبات السريعة الى قراءة الكلمة الأولى من الخبر والمطلوب من المشاهد العجلان – المستعجل إكمال بقية الخبر وكذلك الصورة حتى لا يكتب في صحيفة الحياة بمداد جهله بعصره. ويطرح السؤال دائماً عن موقع القصة في ظل الإنفجار الروائي. وعن تموقعها في الذهن العام مع خمول اللحظة الآنية داخل العقل الجمعي الذي يعاني من رهق متطلبات الحياة وإرهاق تلاحق الأحداث، وتواصل الأحزان والحروب والخيبات. ويقف عند حدود القصة التعويل على أن السرد الروائي الذي يمثل "الحبيب الثاني" للكاتب وموضة الركض إلى مرحلة الملحمة بكتابة الرواية يقف عند حد هذا الإنفجار السردي، الحبيب الأول حاملاً العتاب والمفتاح الحقيقي بأن هذا الزمن الذي نعيشه هو زمن القصة بامتياز، ولعل مبعث السعادة أن القصة القصيرة جداً تتسلل الآن بمهارة كي تمثل زمن السرعة بامتياز وفي ذلك مساهمة عظيمة للقصة القصيرة للعودة الى واجهة المشهد وهي لا تعاني من تعب السهر والحظ العاثر جراء إزدحام الكتاب على بوابات الرواية والجوائز.

 

 

 

 

تاريخ وقصة
ما بين الرائد "عثمان علي نور" أحد رواد القصة القصيرة العربية، وصاحب أول مجلة "قصة" في تاريخ السودان "1960م" ما بين هذا الرائد، والقاص "عثمان أحمد حسن" هناك تاريخ طويل أكثر من "نصف قرن" ليس في كتابة القصة القصيرة السودانية، بل في التخصص في نشرها بتأسيس مجلة باسم "القصة السودانية" وكانت فترة ثلاثينات القرن العشرين بداية من أسماه الأستاذ الدكتور مختار عجوبة "يمثل كتاب مجلة "النهضة" الرواد في كتابة القصة القصيرة وأشار عجوبة الى أن هؤلاء الكتاب ما كتبوه كان محدوداً وأنهم لم يخلقوا تياراً أدبياً في الأدب السوداني، يمهدون به الطريق لمن يجيء بعدهم"(1) لعل التيار الأبرز دون ناظم فكري واحد تمثل في الإنتشار الواسع للقصة القصيرة في نهايات ثمانينات القرن الماضي إلى بدايات العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين ومن هنا فإن جيل الرواد من عثمان علي نور مروراً بالطيب صالح وإبراهيم إسحق وعيسى الحلو حتى الأجيال الجديدة، نجد أن هناك ما يمكن أن نسميه تعاقب أجيال دون مجايلة على مستوى الكتابة في الشكل والمضمون، إذ أن كل جيل أخذ من عصره مرحلته الزمنية في قضاياها وأحلامها، من الحلم بالاستقلال الوطني، إلى المدرسة الوجودية، إلى مراحل التمردات الكبرى في مرحلة ما بعد نكسة 1967م وتأثيراتها على الكتابة السودانية وما بعد إنتفاضة ابريل 1985م وما شهده السودان من متغيرات أفرزت أزمة الهامش في تجلياتها السياسية والاجتماعية والثقافية، وهو التيار الأبرز في الراهن الذي يحاول أن يضع بصمة مع وجود رمال متحركة تحكم قبضها على سؤال الهوية.
إن مرحلة ما نحن بصدده في تاريخ القصة القصيرة السودانية يمثلها تيار لم يكن له ناظم فكري وكان ذلك الزمن فترة ركود وسبات في الكتابة يجب تحريكه، وهي ما يجعلني أطلق عليه تيار "نادي القصة" وهو تيار استطاع طرح أسئلة الكتابة وأزمة النشر، وأزمة التلقي للقصة بروح وثابة وإيمان قوي بأن ما يفعله يصب لصالح النهضة السودانية في تجلياتها على مستويات الكتابة وسؤال التنوع، وأسئلة الحرية. ويمثل عثمان أحمد حسن خيطاً فكرياً وسردياً مهماً على مستوى الفكرة واللغة والسرد في تاريخ نادي القصة اذ ظل محافظاً على مكانته منذ يومه الأول مع إنشغاله بكتابات أخرى ظل منشغلاً بسؤال المكان والتاريخ والهوية وهذا النص "ود الحبشية" يمثل بإمتياز أسئلة المكان والتاريخ والهوية في سؤال القصة القصيرة السودانية، لما احتواه من "كشف" على مستوى الرمز والمرموز والرامز، اذ أن الرمز في أداة النداء لجيل إلى "حقبة" شهدت تعايشاً وتساكناً بين أبناء المدن السودانية والقرى مع هجرات إثيوبية – حبشية إرترية تقف بإختصار شاهدة على إندلاع الثورة الإرترية في بدايات ستينات القرن الماضي ضد الإستعمار الإثيوبي، وسقوط حكم "هيلا سلاسي" على يد عساكره في توالي الحكام أمان عندوم وتفرى بنتي ثم منقستو هايلي مريام وتعيده المرحلة الحمراء في التاريخ الحبشي ونهاية سؤال الإمبراطورية وبوابات الهجرة السياسية والاقتصادية الى السودان.

الخطاب
يقول الكاتبان روث فوداك – ميشيل ماير" في كتابهما "مناهج التحليل النقدي للخطاب": "إن التحليل النقدي للخطاب يوجه الإجراءات المستخدمة للتفسير على أنها تأويلية على الرغم من أن هذه الميزة لا تعد واضحة تماماً في وضع كل مؤلف، ويمكن فهم التأويلات على أنها عملية إدراك وتفسير للمعاني"(2) وقد يتأتى للقاريء لنص "ود الحبشية" معنى "ولد – ود" في السياق الشعبي السوداني في قراءة تأويلية في الوسط النيلي بمنهاج إسقاطات التاريخ القديم على الراهن الذي يحبسه بين ضلوعه، اللا حوار واللا تعايش مع التعايش المفروض قسراً على صورة اللجوء في الحاضر والباطن القديم لتدمير أكسوم "مروي". "جثوت على ركبتي ولوح الخشب، على فخذي جمرتان تنحدران على خدي الذي يرتجف من الغيظ شيخي يمسح على رأسي مواسياً ويتمتم يابني اكظم غيظك وأعف عنهم، انتظر برق المكادة ولا تحدث أحد بما رأيت"(3)، جمر، غيظ، إرتجاف، مسح، مواساة، همس، كتم، العفو، إنتظار، برق المكادة، الرؤيا – الحلم" يستوعب مدخل النص، لغة المحكي عن عنف جسدي أو لفظي، أراد له النص – الراوي أن يأتي ضمنياً في سياق آخر، في تتبع حركة النص، بين الظاهر، والباطن، المرئي واللا مرئي، وثمة إثم يستوجب الغفران وكظم الغيظ وبالتالي إنفتاح، وتصالح مع الخصم، بروح صوفية عالية الإدراك لنواقص النفس البشرية، وخطاب متأمل في فلسفة أن المكان يسع الكائنات إلا من أبى أن يعيش إنسانيته.
المتأمل في لغة ظاهر وباطن نص "ود الحبشية" تبهره هذه الروح المتسامحة التي أراها الأقرب الى وصف حالة التنازع البشري في صورة مموهة وغامضة بين الحزن، والغيظ وكتمانه. ويرى الكاتب والقاص المصري الراحل فؤاد قنديل في كتابه "فن القصة" "إذا كان التغير هو سمة الوجود والموجود والتحول صفة جوهرية لكل المخلوقات في البر والبحر، في الأرض والسموات، فلكل تغير وتحول قصة، للجنين في بطن أمه قصة، ولذرة المطر قصة والنبتة لها قصة والماء له قصة من السماء إلى السماء، والأرض والنجوم والإنسان والحب والحرب، الفشل والنجاح والضياع"(4) فإن للتاريخ الإنساني، إجتماعياً وسياسياً وثقافياً، قصة تتراوح في وهجها بين البقاء في الذاكرة الجمعية وبين الإنطفاء، وهنا في هذا النص تتجلى روح الهوية إن كانت مطمورة في تراب الذاكرة، أو مطموسة بفعل التغير ومحو ثقافة لثقافة، وعرق لعرق، بفعل نواميس الكون.
إن إدراك ما قد يجمع بين الأشتات ينعكس داخل روح النص، أعفو، أكظم غيظك إنتظر. "إنتظرت حتى تفرق المصلون ولكن ما جاء منهم أحد جلست عند مدخل زريبة الشوك التي تحوي الأكواخ الثلاثة متكئاً على جذع شجرة اللالوب التي تماثلني في العمر وتتطاول علي في القامة، وتفوقني إذ أثمرت من سنين ثلاث، كلاب القرية تشيع السكارى والصعاليك بالنباح"(5)، زريبة، شوك، كوخ، شجرة اللالوب، القامة، الثمر" يتجلى المكان الريفي في صورته الأولى لاستقبال حالة الكاظم الغيظ، الباحث في إنتظاره عن "المصلون" أو الروح الجماعية للشكوى لها عن عنف لفظي دعاه للشكوى لشيخه وكان جواب شيخه متسقاً مع روح الشيخ.
لربما كان إفتراض الإنصاف من المجموع يمثل في الصراع ذروة التحضر في مكان له جذره مثل شجرة اللالوب، المثمرة، وطويلة القامة في سنواتها القلائل عمراً وإثماراً، تتجلى هنا أهمية الزمن في مداواة الجراحات. وهي جراحات لها مع التاريخ القديم والحديث في راهنه أسئلة الجوار، أسئلة الثقافة، أسئلة الذات، أسئلة الهوية. "قبيل الفجر نعت النائحات شيخي، قضيت يومي انتحب وأنشج، ذهبت عقب المغيب الى المقبرة، جلست على شاهد القبر كان رطباً رغم حرارة يونيو، وبكيت، بكيت حتى لم يبق من البكاء مزيد"(6) الفجر، النواح، الغياب، المقبرة، شاهد القبر، ترتسم صورة جديدة بغياب الحكيم – الشيخ في مقابل وجود الحكيم الغريب في غربته داخل مجتمعه، إلتقاء القهر الداخلي مع مغيب الشمس، فغياب الحكمة بغياب الحكيم – الشيخ. ويؤكد الراحل فؤاد قنديل "إن الرؤية في القصة القصيرة ليست غير نقطة ضوء تطل في لحظة بسبب موقف قد يبدو للبعض عادياً وإذا كان الروائي يبدو أحياناً وكأنه يرى الإنسانية جمعاء أو قطاعاً كبيراً منها فإن كاتب القصة القصيرة يجلس في غرفة ويطل على شيء ما من ثقب الباب أو من خصاص النافذة"(8).
المخاطب
"غشيتني سمادير وآل وأضغاث أحلام، حين هممت بالولوج أرعدت السماء التي كانت صافية وأبرقت من تلقاء مكادة، أضاء البرق ما بين المشرق والمغرب، تذكرت وصية شيخي"(9) ولعل إضاءة البرق ما بين المشرق والمغرب هي إضاءة ما بين مغرب "مكادة" بمدينة طنجة في شمال المملكة المغربية ومشرق "مكادة" في الذاكرة الصوفية، بأسطورة أرض الشروق "السودان وظهور مهدي آخر الزمان وتتجلى الرؤيا في إرادة تجسيد ما يكمن وراء "كتمان" الحلم بالشروق وشروطه في ضمن أشراط الحضارة بالحكمة والعفو، والتسامح والروح السمح في التعامل وكظم الغيظ.
 "شيخي يتوسط خلقاً كثيراً ينظرون إليه يحدقون في وجهه بالتبجيل، حين رآني تهلل وجهه وأجلسني بيمينه وقال: هذا صاحب الزمان، أشار شيخي إلى من يليني وقال آصف بن برخيا، يليله منجلبك بن بلقيس والذي يليه فرح ود تكتوك، لمحت في عيونهم لمعة البرق الذي برق من تلقاء مكادة" "وآصف بن برخيا أحد علماء بني إسرائيل ومن المقربين من سيدنا سليمان عليه السلام وكان يملك العلم الكبير ويعلم إسم الله الأعظم ويجمع العلماء أنه من أحضر عرش ملكة سبأ إلى الملك سليمان بن داؤود عليهما السلام بطرفة عين – ويكيبيديا" – الشيخ فرح ودتكتوك – فقيه سوداني عاش في القرن السابع عشر إشتهر بالحكمة والفراسة والأقوال الخالدة" وله نبوءات منها ما قال به عن ظهور القطار "آخر الزمان السفر بالبيوت" وعن ظهور التلفون "الكلام بالخيوط" هذا المجلس باضافة منجليك بن بلقيس‘ وهنا تأتي المفارقة بين منجليك – منليك والإسمان أول سوداني – المانجل والثاني حبشي منليك بقراءة فهم حيثيات التاريخ بين حكمة آصف وفرح ومنليك وروحانية متوارثة بين اليمن، والحبشة، السودان، المغرب، المشرق، الحكمة، الظاهر الباطن، المكان الواحد، الأصل الواحد.
الرسالة
"إنفردت بهم واحداً واحداً، سليم العرة، حنبرة ود عطامنو، عوض أبكرنك، جابر كرانج، وسليمان سلس، تآمرت ألسنتهم ونحن نتفرق، صاحوا بصوت واحد، ود الحبشية ثم ولوا هاربين" "قاموا ثلاثتهم قبلوا رأسي وساقوني إلى مبعدة وجلسوا يقصون علي حكاية أمي الحبشية. قال آصف بن برخيا كانت وصيفة الملك الكل يطمع في وصالها، أوكل سليمان أمر حراستها لعفريت من الجن، إفتقدها العفريت يوماً فأخطر سليمان الذي كلف الهدهد بالبحث عن مكانها، جاء الهدهد وهمس في أذن سليمان بكلمات فلعنها سليمان. هذا ما علمت قال منجليك بن بلقيس: جاءت بلقيس من سبأ لزيارة سليمان في أورشليم في ركابها رجال البلاط والقواد، وقعت الوصيفة في غرام حامل أختام الملكة في العلن وعشيقها ونديمها في السر، هربت الوصيفة في ركب عشيق الملكة لحق بها جني لتعود ولكنها تمنعت فأصابتها لعنة سليمان النبي. قال فرح ودتكتوك: كه بأمر الله، أرسل زعيم سنار حملة تأديبية لنواحي الحبشة غابوا شهرين وعادوا منصورين، حين رآها المشترون فاضت أصلابهم بغدران الشهوة الحراقة. اشتراها أبوك بجمل بعير من العاج وسعن من السمن وسر الإسم الذي دعا به يونس في بطن الحوت"(10). الخيال في أمثلته التي تضربها الأسطورة لتقويم صورة الأصل، يصل الى محك أن التاريخ ينظر اليه كل شخص من موقعه وبتأويله للأسئلة المقلقة حول الهوية والتكوين ولقاح الثقافة وإندماجها وإندغامها في مفهوم الذاكرة الاجتماعية. وفي كتابه "العقل واللغة والمجتمع" يقول "جون سيرك" "من بين المواقف التلقائية التي تشكل خلفيتنا المعرفية وربما تكون أكثرها أهمية شبكة معينة من المسلمات عن الواقع والحقيقة من الناحية النمطية، وأصور هذا على أنه شبكة من الأحكام"(11) وشبكة الأحكام اذا كانت من مسلمات الواقع والحقيقة أو أنها تاريخ لواقع كذوب فإن أسطورة "ود الحبشية" في الإثم تتماثل مع أسطورة "التيه" الذي أصاب أقاويم من أمم سابقة وكان هذا الاختلاط العظيم بشبكات الهوية، زائفة أو حقيقية أو مزيفة على مقدار الوعي بالهوية عند الفرد. "طنت في أذني كلماتهم الحراقة ود الحبشييية خرجت بغير وداع، كي أنال منهم واحداً واحداً وجدتهم لم يعرفني منهم أحد، كانوا قد بلغوا سن الشيخوخة، يلبسون أزياء خضراء وحمراء ويحملون رايات بيضاء وسوداء والطبل يئن والغناء يتلوى، كلهم كانوا هناك. حين رأوني إشتد عويل الطبل وانتحبوا يبكون قالوا جاء صاحب الزمان".
في كتابه "ميثولوجيا الواقع" يقول الكاتب المغربي عبدالسلام بنعبدالعالي "أن جان بيار فريان يؤكد أن الأغريق لم يكونوا ليميزوا في الانسان بين ما يشكل صميم وجوده وبين ما ليس إلا مظهراً خارجياً، فالفرد لم يكن لينفصل عندهم عما حققه وأنجزه ولا ليتميز عن ذريته وذويه وأصدقائه، الإنسان هو ما يشده إلى الآخرين، ولا يصح هنا حتى الحديث عن إمتداد للذات في الموضوع أو الباطن في الخارج، غذ لا مسافة هنا تفصل الذاتي عن الموضوعي، والباطني عن الخارجي، ذلك أن الإنسان الإغريقي كان يعيش في مجتمع ضيق معلق، يحيا فيه الناس وجهاً لوجه لا نعني بذلك أنه مجتمع مواجهة وصراع بل ربما العكس هو الصحيح، إنه مجتمع تناغم وإنسجام يعيش فيه كل فرد على مرأى من الجميع وتحت أنظارهم"(12). "صليت بهم المغرب. قال شيخ الحيران، يا شيخنا الحيران المخبولين الأوغاد ما جاء منهم إلا واحد يهتز من البكاء،شيء ما جعلني أجلسه بقربي واللوح الخشبي على فخذه بين النحيب والنشيج تبينت كلماته، مسحت على رأسه مواسياً وأنا أتمتم يابني اكظم غيظك وأعف عنهم وانتظر برق المكادة. قال الفتى: سأقتلهم جميعاً. قلت: لا إنهم اخوتك. قال: لا. قلت: كلنا لآدم وآدم من تراب"(13).
تخلص الورقة الى الآتي:
1/ اللغة, في شعريتها العالية لم تنس المكان، بل أنها جذرته عميقاً في تربة السرد، في نظرتها الى العالم والحياة كانت ذات إيقاع داخلي موزون.
2/ الفكرة تمحورت في محاورة التاريخ والهوية ومصير الإنسان الواحد في بعد سردي وفلسفي يخاطب العقل والوجدان بخطاب مستقيم وواضح من وجهة نظر إنسانية يغلب عليها الحياد الموضوعي.
3/ رسم صورة للهوية في إتساق معرفي من خلال نص مثقف في ظاهره وباطنه مليء بالدلالات والرموز والمتون والحواشي للتعريف بانسانية الانسان.
4/ مكونات الشخصية ظلت واضحة في قراءة المحيط حولها إذ يبدأ النص وينتهي بنفس السؤال حول الانسان وعلاقته بأخيه وحكمة التعايش بين بني آدم.
5/ الصورة التي رسمها القاص، هي صورة الراهن في كل العالم. اذ أن خلاص الانسان في عودته لانسانيته.

 

 

 

 

المراجع:
1/ من القصة القصيرة السودانية. مختار عجوبة دار التأليف والترجمة والنشر – جامعة الخرطوم الطبعة الأولى 1972م – ص5
2/ مناهج التحليل النقدي للخطاب – تحرير – روث فوداك – ميشيل ماير – ترجمة – حسام أحمد فرج – عزة شبل – الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومي – مصر 2014م.
3/ نص ود الحبشية – ص "21" حواشي الغواية – عثمان أحمد حسن – دار مدارات – 2012م.
4/ كتاب – فن كتابة القصة – الهيئة العامة لقصور الثقافة مصر 2002م. ص 20-21.
5/ نص ود الحبشية – مصدر سابق.
7/ نص ود الحبشية – مصدر سابق.
8/ فن كتابة القصة – مصدر سابق ص 42.
9/ نص ود الحبشية – 10 نص ود الحبشية.
11/ العقل واللغة والمجتمع – الفلسفة في العالم الواقعي – جون سيرل – ترجمة – سعيد الغانمي – منشورات الاختلاف – المركز الثقافي العربي – طبعة أولى – 2006م ص 27.
12/ ميثولوجيا الواقع – عبدالسلام بنعبد العالي دار توبقال للنشر – الدار البيضاء – الطبعة الأولى 1999م ص "7".
13/ نص ود الحبشية.