خدّوج

خدّوج نجاة إدريس إسماعيل عندما حمل زوجي خرطوش المياه وخرج به إلى حيث سبيل* المياه بالخارج،كرهت ذلك الخرطوش وددت لو قطعته إربا إربا،أفي هذه (الزيفة*)العاصفة يحمل خرطوشه ويمضي إلى سبيلها،ضغطت على أسناني وأنا أقول(سبيل الحبيبة)،فتحت الشباك لأستشف تدفق المطر..كان لا يزال مندفعا بشدة والرياح تدفع بالأمطار الغزيرة ،رأيته يحاول فك طيات الخرطوش المتشابكة غير مبا ل بالأمطار التي عطنت ملابسه وأخذت تضرب في رأسه بشدة،خرجت الآهة من صدري وكدت أعض على بناني غيظا وأنا أراه في تلك الحال ،رأيته يحمل الخرطوش ويمضي نحو حنفية المياه ،كدت أن أقول له :اترك مافي يدك حتى يتحسن الجو وتعال بجواري ..ولكن أبت أسناني أن تنطقها فقال لي بعينيه دون أن ينطق لسانه :"لن أغيّر مواعيد هديتي لخدوج" *!..

خدّوج

خدّوج

نجاة إدريس إسماعيل

عندما حمل زوجي خرطوش المياه وخرج به إلى حيث سبيل* المياه بالخارج،كرهت ذلك الخرطوش وددت لو قطعته إربا إربا،أفي هذه (الزيفة*)العاصفة يحمل خرطوشه ويمضي إلى سبيلها،ضغطت على أسناني وأنا أقول(سبيل الحبيبة)،فتحت الشباك لأستشف تدفق المطر..كان لا يزال مندفعا بشدة والرياح تدفع بالأمطار الغزيرة ،رأيته يحاول فك طيات الخرطوش المتشابكة غير مبا ل بالأمطار التي عطنت ملابسه وأخذت تضرب في رأسه بشدة،خرجت الآهة من صدري وكدت أعض على بناني غيظا وأنا أراه في تلك الحال ،رأيته يحمل الخرطوش ويمضي نحو حنفية المياه ،كدت أن أقول له :اترك مافي يدك حتى يتحسن الجو وتعال بجواري ..ولكن أبت أسناني أن تنطقها فقال لي بعينيه دون أن ينطق لسانه :"لن أغيّر مواعيد هديتي لخدوج" *!...

قلت في سري وأنا أسمع أصوات الرعد تفرقع الآذان :"لعنك الله  يا خدوج حية وميتة !".. دائما ما كنت تقفين في طريقي، منذ صبانا الباكر وأنت تجدين كل ما تريدين..الشعر الطويل الذي تتسربل به الخيل.. الوجه الطفولي بعينيه المتوثبتين الذكيتين .. كل ملامحك كانت تنطق حسنا كأنها لوحة فنان رسمها بمزاج عال وهو يحتسي قهوته المفضلة،طفرت تلك الذكريات على رأسي وأنا أنظر إلى زوجي الذي خطفته مني زوجته الميتة ،ضغطت على كلمة ميتة بين أسناني حتى أؤكد لنفسي أنها ليست معنا في المنزل رغم أن زوجي يراها في كل زوايا البيت ..حملت أغطيتي وسرت إلى فراشي فقد بدأ الجو يبرد بفعل غزارة المطر الذي خف هديره ،سمعت خطوه وهو يعيد الخرطوش إلى مكانه بعد أن امتلأ السبيل بالماء ، اتجه إلى الدولاب.. كان يظنني نائمة أبدل ملابسه بأخرى جافة ..اتجه إلى المطبخ ليصنع لنفسه شايا يدفيء به نفسه ، قفزت من فراشي ،حملت منه براد الشاي ،أخرجت طقم الشاي ذا اللون الذهبي ..لا أعرف ما الذي دفعني لإخراج هذا الطقم الغالي من الأواني.. ربما كنت أريد أن أثبت له وجودي وأخرجه من دائرة الذكريات التي توترني ..تعمدت أن أجلس بجواره وأنا أصفي  الشاي من أوراق النعناع التي يحبه بها ،قال بأسى واضح"ياه! ..شاي بي نعناع ".ثم اتبعها بعبارة "خدوج كانت تترك النعناع دون تصفية ! "كانت أنفاسي تتلاحق وأسناني تصطك عند سماعي تلك العبارة،قلت في نفسي..  خدّوج..خدّوج !ضقت ذرعا بهذا الاسم .


فوقع الكوب من يدي ،سمعته يقول:"انكشح الشر!" **،ثم استرسل وكأنه قد استشف ما يغلي  به صدري فأضاف "دعيه سأسكبه وحدي"،أراد أن يسكب لي كوبا فرفضت ،انزويت داخل أغطيتي ،حاولت أن أنام ، صورتها لم تفارق مخيلتي ..تذكرت اليوم الذي خطبني فيه بعد موتها بثلاثة أعوام، قابلني في الطريق ..بدا لي  وكأنه كبر عشرة أعوام على سنيّ عمره الحقيقي ..كنت قد انتهيت لتوي من إكمالى للدكتوراة ،ظننته قد جاء مهنئا ضمن من جاء ، ضغط على يدي وهو يقول "البشوفك يقول يا دوب متخرجة من الجامعة!" أكملت أمي عبارته حتى تزيل أي حرج قد ينسرب إلى أعماق نفسي "وهي بت متين ، إلا القراية دي قالت إلا تصل لي حدها!" .. اتجهت إلى المطبخ وأنا أستمع إلى أمي وهي تكرر وصلتها الرتيبة "كل ما يجيها زول ترفضو وتقول عايزة تقرا!" ،انتفض قلبي وأنا أتذكر رفيق طفولتي يختطف مني دميتي وأنا أجري خلفه وعندما أعجز عن اللحاق به يقذف الدمية  أعلى الشجرة ويطلب مني إنزالها وعندما يترقرق الدمع في عيني يقفزمن الشجرة بسرعة ويضربني بالدمية ويجري ...

مرت تلك الذكريات على رأسي وأنا أصب له كوب العصيربعد أن سمعته يطلب يدي من والدي و كان قد تزوج خديجة الفتاة التي خطفته مني ونحن على أعتاب المراهقة ،جمالها ومرحها كانا كافيين بتحويل أنظاره عني،  أما أنا فأجبرت والدي بترك الحلة بعد زواجه وانكفأت في الدراسة بثقلي كله ،ورغم انشغالي الكلي بالدراسة إلا أن أخباره كانت تأتيني دون أن أسعى لمعرفتها ..عرفت أنه أنجب طفلة وحيدة عانت ويلات المرض ولم يترك لهاوالداها بابا لم يطرقاه لعلاجها ولكنها ماتت بعد بضع سنوات ثم عاش الزوجان فترة دون أطفال ثم سمعت بموت خديجة ..

التفاصيل التي سبقت زواجي كانت مألوفة ،لم أرتد الفستان الأبيض الذي كنت أتوق للبسه ، ذهبت إلى أحد محلات فساتين الزفاف الراقية ..كنت متسربلة بسوادي فإذا بموظفة المحل تقول لي: "الأفضل لك أن تأتي بالعروس لا أن تختاري بدلا عنها !" جريت إلى عربتي ..اتصلت به والدموع تملأعيني.. حكيت له ما جرى لي سريعا ،رد ضاحكا "يا شيخة ..هسع أنا افتكرتك غيرت رأيك مني..!"أضاف بصوت بدأ لي حزينا: "أنا ذاتي ما داير زفة وحفلة وهيصة !" العمر لم يعد يحتمل ..ثم أكمل عبارته وكأنه يحدث شخصا آخر " كلو زمان سويّنا !".

تذكرت تلك الحادثة وأنا أتدثر بأغطيتي وأتقلب في فراشي ذات اليمين وذات اليسار ، لمت نفسي إذ كان ينبغي  أن أعرف عند حدود تلك الحادثة أن الرجل لا يعيرني  اهتماما ولكن قلبي كان يقودني .. انكفأت على جسدي حتى أبدلته لونا ذهبيا، تركت طلابي وكتبي وأبحاثي حتى نظارتي الطبية ما عدت أعلقها على مقلتيّ ،صديقتي هندعندما لمحتني في تلك الحال أطلقت صافرة حادة وهي تلحظ التغيير الكبير الذي طرأ على شكلي وجسدي وأضافت: لو رآك صاحبنا وقتها لما تجاوزك إلى أخرى ،نظرت في المرآة ..كان الفستان الكبدي قصيرا ومتناسقا على جسدي حتى كدت أبدو كملكات الجمال.. تركت شعري يتناثر على ظهري .

طفرت الدموع من عيني وأنا أتذكر فستاني الكبدي ،قذفت به في خزانة المنزل وأنا أكاد أمزقه وأنا أحكي لهند ما حدث لزوجي وهو يراني لأول مرة بذلك الفستان ، لم ير التغيرات التي انتظمت الجسد الذي خرج لتوه من غبار المكتبة وبراثن المراجع والكتب الصفراء ،لم يلحظ شيئا من الوضاءة والبهاء التي علت وجهي ..نظر إلى الفستان ،قلّب في دولاب زوجته ،قلّب بين صور كثيرة ،صورتها في الحديقة ،صورتها وهي تضع الحناء ،صورتها وهي تحمل طفلتها ،عشرات الصور ،ثم سل صورة من بين عشرات الصور.. كانت ترتدي فستانا كبديا قصيرا يصل حتى فخذيها ،كانت تقف في باب المطبخ ، نظرت إلى الصورة وإلى نفسي،كأنني هي ،نظرت إلى عينيه ..كانتا مغرورقتين  بالدموع..ذهبت إلى الحمام،مكثت طويلا،خلعت الفستان ووطأته بقدمي ..

تقلبت في فراشي ذاك ،ذاكرتي تجتر الأحداث، كان المطر قد هدأ صوته ،غفوت قليلا،رأيت خدّوج أمامي بشحمها ولحمها ،كانت تضفر شعرها الذي استطال حتى وصل ركبتيها، نظرت إلى شعري قبالتها كان قصيرا مجعدا ، نظرت إلى ساقيها الممتلئتين ،جعلت أحدق في رسوماتهما .. كانا داخل رسومات الساقين ،مرة وهو يحملها ويطيربها ومرة وهي تجلس في إرجوحة،نظرت في ساقها الأخرى.. كانت ترتدي ثوبا أحمر وتضع جدلة على رأسها ..كان بجوارها يرتدي جلبابا وعمة ،دققت في باطن القدم.. الصور كانت كثيرة وبأوضاع مختلفة ..كنت أدقق في صوره لعلني أجد صورة يكون فيها وحده عسى أن أكون بجواره ،نظرت ونظرت هاهو وحده ..يا الله! وهاأنذا هنا ..كنت بشعرات متطايرات ووجه ذابل ،نظرت في باطن القدم ..كانت صورتها واضحة جلية ..كانت تمد لي لسانها ،لم أستطع التدقيق جيدا فقد رفستني عندما رأته يرمقني بنظرة فتركني وهرول نحوها..


قمت من نومي مذعورة ..كانت الساعة تشير نحو التاسعة والنصف ..الجو كان صحوا بعد أمطار الليلة السابقة ،انطلقت أعدو إلى عربتي وأنا أتذكر مواعيد محاضرتي ،وجدت أطفالا يرشون بعضهم بمياه السبيل ،كدت أنهرهم حتى تطوع أحدهم و همس في أذني :"خالتو ،شايفة الولد داك البتكلم مع البت ديك ؟ !" أومأت له برأسي موافقة فأكمل"شخبط ليك عربتك بطين المطرة "،نظرت نحو زجاج السيارة الخلفي ..كان بها قلبان مرسومين بخط رديء ..أمعنت النظر في داخلهما ..كانت فيه صورة خدّوج بهية ناضرة ..كانت تلوح لي بيدها ،وتمد لي لسانها ، ثم تحتضنه ويمضيان.


 

 *الزيفة : يقصد بها الرياح الشديدة العاتية

**(انكشح الشر) : عبارة سودانية يقصد بها خرج الشر مع وقوع الضرر الخفيف

 *سبيل المياه :  صدقة جارية غالبا ما تكون مياه توضع في أواني فخارية في قارعة الطريق لسقاية مرتادي الطريق

** قصة خدّوج أو (أنا والآخرى ) فازت في مهرجان الإبداع الشبابي الأول كما حولت القصة لمسلسل إذاعي بثته الإذاعة السودانية في مارس الماضي