تقاربات نصية

تقاربات نصية قراءة في عرض سيد الرصة أبوطالب محمد يقصد بمصطلح التناص أو التعالق النصي بالإنجليزية Intertextuality وجود تشابه بين نص وآخر أو بين عدة نصوص، وهو مصطلح صاغته الناقدة" جوليا كرستيفا" للإشارة إلى العلاقات المتبادلة بين نص معين ونصوص أخرى

تقاربات نصية

تقاربات نصية
    قراءة في عرض سيد الرصة
                                  أبوطالب محمد

 

 

 

 

يقصد بمصطلح التناص أو التعالق النصي بالإنجليزية Intertextuality وجود تشابه بين نص وآخر أو بين عدة نصوص، وهو مصطلح صاغته الناقدة" جوليا كرستيفا" للإشارة إلى العلاقات المتبادلة بين نص معين ونصوص أخرى، وهي لا تعنى تأثير نص في آخر أو تتبع المصادر التي استقى منها نص تقنياته من نصوص سابقة. بل تعنى تفاعل أنظمة أسلوبية تشمل العلاقات وإعادة الترتيب و الإيماء أو التلميح المتعلق بالموضوع أو البنية والتحول والمحاكاة.
أصبح التناص واضحا في مسارات توجهاته داخل النصوص في النص الجديد وتعالقاته."1" تقود هذه التقاربات إلى قراءة خطاب عرض" سيد الرصة" الذي أفتتحت ستارته بتاريخ 2019/11/20 بمسرح خضر بشير- بحري. وهو من تأليف أحمد دفع الله عجيب وإخراج عبد الإله المهدي، شارك في أدائه" السر مححوب، هبة الرحمن عبد الرحمن، عماد فقيري، أسامة الشمباتي، عبد المؤمن عبد الرحمن عباس اللفيف، وإبتسام يوسف".
تداخل هذا العرض في رؤيته مع عدد من النصوص المسرحية وهو تعالق نصي نتج عن تناصات الأفكار وأنظمة أساليبها في البناء الدرامي، ومن ضمن النصوص التي تعالق معها العرض "مسرحية ستة شخوص تبحث عن مؤلف" للكاتب الايطالي لويجي براندللو  " ومسرحيتي "ص" و "ستة شخوص ومؤلف أو العابر" للطيب المهدي محمد الخير. " ومسرحية "الباحوث" لوليد عبد الله محمد. ارتبط تناص هذه النصوص وعرض "سيد الرصة" بفكرة التأليف الحي والمباشر على خشبة المسرح وتمرد شخصيات الكتاب على رؤاهم ونقدهم لعدم مقدرتهم في خلق شخصيات يرتبط بينها توجه وفكر وخطاب موحد، مما إلتزمت الشخصيات بفكرة التمرد على أفكار مؤلفيها. ففي مسرحية" بيراندللو" يلاحظ أن الفراغ يخيم حول الكاتب فلم يعد يفكر أو يتحدث إلا للشخصيات التي تنشأ في ذهنه. وقد نشأت في ذات الوقت شخصيات رأى أن يصبها في قصة ولكنه لم يفعل؛ ولم يجد لديه الشجاعة وظل في نضال مستمر، ورأى أن الوقت حان ليكتب قصته بدلا من استمرار التفكير فيها. ولكنه لم ينجح في جعل الشخصيات تعيش، إنه رسم الشخصيات ولكنه لم يجد العقدة وكانت الشخصيات لأناس مسهم الضر، فهي قصة (أب) يجد زوجته في دار للدعارة وهي تأبي الخضوع لغرائز الرجل الذي يرفض الشيخوخة وكانت لدي بيراندللو كل العناصر التي تقوم عليها قصة ممتازة، ولكن القصة لا تسير وفق رؤية واضحة وعجز عن كتابتها وظلت تدور في ذهنه ولم يستطع تحقيقها على الورق فيطلقها إلى حيث تستطيع العيش، وأين تعيش إذن؟ في المسرح أم أمام خشبته وأضوائه؟ ومن تقصد هذه الشخصيات؟ حيث أن المؤلف لم يعد راغبا فيها فله مشاغله وهي تريد أن تعيش متحررة."2" وسارت على هذا النهج مسرحية" ستة شخوص ومؤلف أو العابر" في مناحي بنائية عدة وجميعها صبت في إطار اجتماعي، ويهمنا في واحدة من بنياتها شخصية " العابر" المتفردة التي يصعب تشكيلها وتطويعها لدي الكاتب داخل بنية نصه، وهي تشكل تمردا على أفكاره     " الكاتب" ويتهم "العابر" الكاتب بأنه غير قادر في وضع شخصيته في موصع مناسب، والعابر شخص يعبر الخشبة ويراقب ما يحدث فيها وهو فارضا نفسه لمراقبة  " الشاب والشابة" شخصيتين لديهما لقاءات مع بعصهما بعضا وتجمع بينهما مواضيع شتي في محتوى النص. ويظل العابر مراقبا لهما وهو شخصية وليدة لحظة ورافضة هذا الدور ويفترض هو أن يضعه الكاتب في مواقف وأماكن يستطيع القفز بها إلى مفاهيم أعمق مما هو عليه."3" ويبنى الطيب المهدي في مسرحيته"ص" شخصية (ص) مرتكزا للنص وينتج عن تمرده نصا فرعيا مستفيدا من تقنياته وشخصياته الواقعية ويدخلهما في بنية نصه المتخيل، ويتحرك النص في مستويين ( عالم متخيل وواقعي) ويجسد في المستوى الثاني شخصيات يصح أن يطلق عليها الصفة الدالة على الرؤية التعبيرية في صنع شخصيات مثل( ش1، ش2، ش3، ش4، و ش5)، بهذا البناء تتحرك الشخصيات في داخل مجريات الأحداث الدرامي في فضائين "واقعي ومتخيل" ينسجان من الواقع خيوط مضامين ويوظفان هواجس شخصياته، ويعيدها إلى خياله"ص" مرة أخرى ويبنى من أفكاره الواقع وحضوره المجسد عبر شخصية "ش ما"، ويرفض أفكار المؤلف ويحتج على صخب عوالمه وضعف شخصياته. ويضع حدا فاصلا في تعامله مع المؤلف وينبهه لكيفية اختياره لشخصيات تتمرد عليه وعلى مشروعه الفني"4".

 

 


ففي مسرحية " الباحثون" للكاتب وليد عبد الله محمد يركز  على شخصية " كاتب" يبحث عن كتابة نص ما ويحاول الكتابة مرارا وتكرارا إلا أن الواقع الذي يحيط به يظهر له شابا يبحث عن وظيفة ولا يجد فيواصل رحلة بحثه. وتظهر "موظفة" تبحث عن الزواج ولم تجد وتواصل سعى بحثها. كما يظهر أيضا "متشرد" يبحث عن المأكل والمأوى فيواصل سعيه. وتظهر شخصية"درويش" تبحث عن القباب والخلاوي ويواصل بحثه. وتظهر امرأة من دارفور تبحث عن أولادها الذين فقدتهم في الحرب وعن زوجها الذي قتل وأختها التي اغتصبت جراء حملات الاغتصاء التي قادها الجنجويد وتواصل بحثها، تبحث جميع هذه الشخصيات عن مخرج أمن.... فيحاول الكاتب تنبيههم لقضيتهم من حين لأخر إلا أنهم يثورون في وجهه وفي خلاصة الأمر  يسببون إليه انهيارا تاما"5". خلقت هذه التناصات في عرض " سيد الرصة" تقاربا في البنيات الدرامية. يلاحظ أن العرض أتى ببنية درامية داخلية تتفق مع النصوص السابقة وتختلف في مستويات أحيانا، حيث بنى العرض شخصياته على مستوى رؤيتين بنيويتين هما (التنافر والانسجام) وعليهما أسس المخرج رؤية تنافره بتمرد الشخصيات على شخصية "الكاتب" لأنه كاتبا مأجورا ومدفوعا وفق طلب "الرضي" بأن يكتب إليه نصا مسرحيا من ثلاث شخصيات مقابل أن يدفع إليه أجرا ماليا ويسدد ما لديه من ديون فيوافق مجبورا على كتابته تحت ضغوط زوجته وضغوط فقره. ومن هنا يبدأ تأسيس التاريخ الفني لشخصيات متنافرة في أفعالها وحواراتها وتوجهاتها، وكلما الكاتب يحاول أن يملكها رؤية أو حوارا أو تشبيها نجدها تنفر منه وتسخر من بعضها البعض لأن بنائها الدرامي ناتجا عن عدم تآلفها وعن عدم تعارفها الفني المسبق. مما استند عنصر التنافر في جميع مسارات العرض إلى هدم الذات وتبخيس دور الأخر في الاسهام الفني ويتمثل هذا في سخرية (بنشر) من (عبد العظيم) أو العكس وشخصية (رندة) تجاههما أو العكس. يقفز هذا التنافر إلى  الخارج ويخلق إشكالا محتدما بين الكاتب وزوجته. وتعتقد  زوجته أنه ( الكاتب) يهذئ بحوارات وشتائم موجهة إليها هي لأنها لم تر الشخصيات التي يحاورها الكاتب. وهو حوار درامي بلغ قمة صراعه في ذهنه مما دفعه أن يتوجه بالانفعالات الداخلية للخارج وتصطدم بشخصية زوجته، وجميع هذه التنافرات مدفوعة من فكرة التمرد التي انتهجتها الشخصيات ووضعت له تصورا ذو رؤية درامية تنسجم مع القضايا الاجتماعية وهي بنية الانسجام التي تأسست على طلب الشخصيات من الكاتب أن يكتب في موضوع اجتماعي وذات فائدة للمجتمع، ويحدث تنفيذ هذا الطلب بمستويات استعراضية عدة وهي الجوهر الذي ينبقي أن تتناوله المسرحية التي يريد تأليفها وهم شخصياتها. احتفت لوحة استعراضية بغناء حمل مفهوم الهوية السودانية وتجليات ثقافتها المادية المتمثل في( التوب)، وحملت مشهدية المظاهرة مفهوم ثوري، إذن الاستعراض في البناء الدرامي للعرض شكل لغة فنية تحركت فيها قضايا اجتماعية وهي قضايا تريدها الشخصيات؛ ويؤسس عليها الكاتب خطابه. وتكشف هي أن الكاتب غير ممتلك لها لأنه مأجورا ونال ميداليات وشهادات تكريمية بمبدأ الزيف وهي ظاهرة في تصميم الديكور . وتعلن الشخصيات في الأخر تمردها الواضح عليه وتجبره أن يتنازل عن كتابة مسرحية لا ترتقى لمستوى البعد الآيديولوجي. لازم بنية الانسجام مستوى أدائي مستوعبا طرح البنيتان الأساسيتان( التنافر والانسجام). وفي التنافر جسد الممثلين أدوارا تقمصت اللغة المعاصرة ودعمت بحركات جسدية وانفعالات وضحت جوهر التنافر. وفي حالة الانسجام انفتح الأداء على مستوى قضايا اجتماعية وسياسية وثقاقية واقتصادية. إن الأداء التمثيلي نفسه سار في خطين فنيين شكلان ثقافة تمرد من جهة التنافر؛ وثقافة انسجام من جهة الاتفاق حول كتابة رؤى نصية فكرية.
نخلص مما تم ذكره:
1/ قدم عرض سيد الرصة فكرة نصية تعالقت من نصوص درامية نهجت ذات الاتجاه، ويكمن الاختلاف في بناء شخصيات العرض على رؤيتي التنافر والانسجام.
2/ قاد تمرد الشخصيات تغيير في أفكار الكاتب واجبرته على التنازل لكتابة هذه المسرحية المدفوعة الأجر.
3/ تحرك الأداء التمثيلي في مستويين فنيين مختلفين فصلت بينهما لغة الاستعراض.
4/ تقارب فكرة الكتابة الحية والمباشرة على الخشبة مع مسرحية العابر.

إحالات مرجعية:
1- جراهام ألان، نظرية التناص، ترجمة باسل المسالمة، دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر  2011، ص12.
2- لويجي برانديللو، ستة شخوص تبحث عن مؤلف" مسرحية"، ترجمة محمد إسماعيل محمد، سلسلة روائع المسرح العالمي، الجمهورية المتحدة وزارة الثقافة والإرشاد القومي- الإدارة العامة للثقافة، ص18.
3- أبوطالب محمد، حفريات نقدية"دراسات ومقالات في المسرح والسرد" هيئة الخرطوم للثقافة والنشر 2019، ص121.
4- أبوطالب محمد، نفسه، ص128.
5- وليد عبد الله محمد مكتوبة عن مسرحية الباحثون.