المجنون - قصة قصيرة

المجنون - قصة قصيرة مهدي يوسف ( mahdiyousif1970@gmail.com ) .......... بدا المشهد تراجيديا غريبا : أصوات النسوة اللواتي يتنافسن في سرد مآثر الفقيد , صدى أيديهن و هى ترتفع إلى أعلى ثم تنزل على صدورهن فى قسوة و كأن بين الأبدي و الصدور ثأر قديم

المجنون - قصة قصيرة

المجنون - قصة قصيرة
مهدي يوسف
( mahdiyousif1970@gmail.com  )
..........

 

 


بدا المشهد تراجيديا غريبا :  أصوات النسوة اللواتي يتنافسن في سرد  مآثر  الفقيد  , صدى أيديهن و هى ترتفع إلى أعلى ثم تنزل على صدورهن فى قسوة و كأن بين  الأبدي  و الصدور ثأر قديم , أطفال عجاف الجسوم  يركضون هنا و هناك غير عابئين بجلال  الموت ،؛بينما فى وسط الحلقة وقف شاب وسيم يقهقه فى هستيريا عارمة . أحاط  جمع بالشاب و هم  يصيحون " الزول  جن يا اخوانا . لا حول و لا قوة الا بالله " . لم يبدى الشاب  أية مقاومة ، بل ظل يقهقه و كأنه بطل فى مسرحية هزلية .
ذاك المساء كنت أشاهد فيلم " عقل وسيم " للمثل العظيم " رسل كرو " حين تلقيت مكالمة هاتفية مفاجئة  من مدير تحرير جريدتى مكلفا إياى بمحاورة ذاك المحاضر الجامعي  . خرجت صباح اليوم التالى و برفقتى قلمى و أوراقي و قائمة بأسماء أشياء طلبت منى زوجتى ذات الوجه الصخري أن أحضرها لها من البقالة حين أعود ليلا . شققت طريقي  وسط علب الساردين المسماة - ترفقا - بشرا و دلفت إلى  مستشفى تحيط به أسوار نخيل لى أنها تحاول - عبثا - عزله  عن صراعات الطريق العام خارجه . دلنى أحد الممرضين علي المريض بغيتي  فجلست أمامه بعد أن عرفته بنفسى . بدا لى متماسكا جدا و وسيما  جدا . كنت أعرف  اسمه لكنى سألته عنه محاولا إشاعة دفء بيننا فرد بصوت واثق " منتصر “. سألته عن سنه فقال و هو يتحسس شعيرات بيضاوات يمسك بعضها بتلاببيب بعض عند حافة رأسه " لا يغرنك هذا الغزو الجليدى لتخوم رأسى . ظاهريا أنا فى بدايات الأربعينات ، تحديدا فى الثالثة و الأربعين من وهم اسمه العمر . استوقفتنى كلمة " ظاهريا " فسألته مبتسما  " و حقيقة ؟ " . رد بسرعة " حقيقة أنا أفدم من صائد كان يحمل حربته و يطارد الغزلان حين كان التاريخ يتعثر فى اثواب طفولته " . باغتتنى لغته الشاعرية فصمت لدقيقة . سألته عن عمله – و أنا به عليم - فقال بهدوء " جكانت حياتي – حتى عهد قريب - امتدادا لحيوات أخر " . قلت له بهدوء " لم أفهم " فقال و ظلال ابتسامة غامضة تتراقص على شفتيه " هل تعلم أن الجهل يورث المرء التواضع ؟ هكذا يقول المتصوفة “ . وضعت قلمى على دفترى بدهشة فابتسم و قال " لا بد أنك تردد بينك و بين نفسك أنى لست مجنونا " . قلت له فى أدب " العفو . لم يدر ذلك بخلدى أبدا " . ضحك و هو يسألني إن كانت بحوزتي  سجائر ما  . اعطيته واحدة فنفث منها سحبا كثيفة و قال " “نيشته” يرى أن الجنون سياج جبان يضربه المجتمع حول كل من يريد أن يهرب من ثقافة القطيع و يعثر على تفرد ما " . قلت فى نفسى إن الرجل مثقف و متماسك الدواخل . نظر إلى مليا ثم قال " سل ما شئت " . قلت له " إن أهلك يزعمون أنك ركضت  عاريا  فى منتصف السرادق و طفقت تقهقه بينما الوفود تتدفق معزية فى وفاة خالك " . قال بهدوء و عيناه تبرقان بيقين و صفاء " خالي كان ميتا قبل سنوات  ، و كل ما كان يربطه بالحياة قدرته البلهاء على إنجاب أطفال يرمى بهم فى سهوبها دون ان يعلم مصيرهم فى المستقبل " . اجتاحنى فضول غريب و هو يردف قائلا " ثم ما الخوف من العرى أصلا ؟ الإنسان سيذهب إلى الله عاريا ذات يوما  " . صمت لدقيقة ثم بدا يسترسل و عيناه تغوصان فى أفق قصي " نشات و اخوتى فى بيت طينى فى قرية لم تعرف لها موقعا فى خارطة بلادكم مذ أنشاها ذاك الشيخ الفقير . أبى كان رجلا مزواجا . قيل لى إنه تزوج للمرة الاولى و هو دون العشرين . كانت ابنة خاله . أنجب منها ثلاث صبيان و بنتين . ثم توفيت زوجته إثر حمى ذات صيف فبكاها يومين  فقط قبل ان يبكى لذة بين ذراعي زوجته الثانية . كانت هذه كاهلية حسناء . قدم أهلها إلى اطراف قريتنا ذات جوع ما ، هربا بما تبقى من بهائمهم . قدمت الكاهلية إلى شفخانة القرية لتطعم أخاها الأصغر من مرض ما  و هناك رآها ابى فتبعها خلسة ثم تحدث إلى ابيها . و بعد أسبوع كانت قد حلت محل زوجته الأولى . ثم تزوج بأمى فيما بعد دون أن يطلق الثانية . قيل لي إن أمي صحبث جارة لها  إلى ضريح الشيخ ، و هناك رأها أبى . تزوجها بعد يومين فانجبنى و اخوة ذكور ثلاث و بنتين . هذا غير اختين و اخوين كان أنجبهم من الكاهلية . أدخلت المدرسة و أنا دون السابعة فنبغت فيها جدا . و تسلقت السلم التعليمى وثبا حتى الجامعة تاركا لأقرانى مهمة اللهث وراء غبار أقدامى التعليمية  . درست فى كلية التربية متخصصا فى اللغة الفرنسية . و عينت بعد تخرجى محاضرا بالقسم ثم أكملت دراسة الماجستير به . ذاك العام توفى أبي  و ترك لى أفواه كثر لأملأها بالقمح، ، و جماجم خاوية كثر لأملاها بالعلم بحكم أني  كنت الوحيد بين اخوتى الذى اتيحت له فرصة الالتحاق بجامعة ، بينما عمل بقية اخوتي  بالزراعة التى لا تسمن و لاتغنى من جوع . لم تتح لى اعباء الصرف على قبيلتي التى تركها ابى وراءه  فرصة لأتزوج . هذا غير أعباء الأسرة الممتدة من خالات و عمات و ابناء خالات و ابناء عمات و غيرهم . و أصدقك القول انك إن رأيت الأحذية المرمية امام باب بيتى فى امدرمان لحسبت انك أمام باب مسجد لا منزل . هذا غير من يقصد العاصمة من المعارف سعيا وراء السفر إلى الخارج أو استصدار أوراق ثبوتية او تسجيل ابن أو ابنة فى كلية ما . أما حين يقدم أحد ابناء القرية الى العلاج فحدث و لا حرج . حينها تتحول حمامات البيت الى خلايا نحل و يتحول المطبخ الى ساحة معركة  . و لو جئت  ليلا إلى " الحوش " و رأيت  الأسرة مبعثرة فى أركانها ، و العراريق معفرة فى الثرى ، لتساءلت في براءة كيف لم يمت هؤلاء من جراء نقص الاوكسجين . ثم اضيف الى هذا هم جديد . بدأ اخوتى فى الزواج . و بدت بطون نسائهم فى الاستدارة كالبطيخ . ثم بدأت أفواه أخر تقفز من الأرحام و تفتح فى انتظار شآبيب العم أو الخال الهمام !!
و ذات يوم خرجت من المنزل عصرا لأتمشى . كان مخيمى -  أقصد بيتى - كعادته مكدسا بالجثث التى لا تحصى . و لأول مرة في حياتي  تناولت سيجارة من دكانة مجاورة  و رحت انفث دخانها فى وجه رداءة المدينة . و فجاة رأيتها . هكذا قرر القدر الضنين أن يضحك فى وجهي . رأيتها على الرصيف المقابل .  بدا لى ان ملايين الشموس تشهق تحت ثوبها الابيض . طبيبة ؟ لم أدرى .  اقتربت منها لا كما تقترب الغيمة من الوردة و لكن كما تقترب النحلة من الوردة . تأملتها لدقائق فتحول قلبى إلى درويش يرطن بين ضلوعي  . نظرت صوبي  فخلعت نعلي و رفعت ازارى عن ساقى و دلفت عبر الرموش الطويلة كمشاوير الشجن . دقيقة  و تهادت إلى حافلة كتب عليها " مستشفى الأمل لمرضى القلب " . و من يداوى قلبى سواك يا طائشة الخصلات ؟ " . انتظرت حتى قدمت سحلفاة صفراء يسمونها خطأ بتاكسى و همست لسائقها الذى توفى قبل عامين أن يذهب بى الى ذاك المستشفى . و هناك رأيتها . تكرر الأمر عدة مرات . ثم ذات مساء ابتسمت لى فى دفء و همست بغنج " يبدو انك صياد لا تمل الطراد " . بعد شهرين كنت قد خطبتها. و بعد عامين كانت قد تزوجت مغتربا و طارت ألى ما وراء الغيم ، تاركة لى هم القبيلة التى ازدادات عددا .
و ذات مساء قررت الرحيل . هكذا داهمتنى الفكرة دونما سابق انذار . شعرت بأن أبى قد سرق نصف عمرى و ان فروعه التى خلفها فى تربة شجنى ستسرق النصف الاخر منه . التفت إلى خالي الذى يسعل فى منتصف الحوش و لأول شعرت ببغض غريب له و لمن حوله . هتف صوت فى رأسي " أين حقك في الحياة ؟" لم أحادث أحدا تلك الليلة . و صباح اليوم التالى حزمت حقيبتى و غادرت إلى تلك الدولة و معى أقاربى الحقيقيون : دولارات يقمن صلبى . و هناك انفقت شهرين على شاطئ البحر . ملأت رئتى بنسائمه و عينى بأمواجه و أجساد الغاديات الرائحات ممن يمتصصن الحياة حتى آخر قطرة . غاصت فى مكان قصى صورة قريتى الجرباء ووجوه اخوتى الموتى . علمت لأول مرة بأنني كنت في البداية أقدم لاخوتى ما قدمت حبا فيهم . ثم تحول الأمر إلى سعى منى للمحافظة على صورة رسمها لى مجتمع متهالك  . عدت  إلى قريتى بعد شهرين  لأجد خالي مسجى على سريره . صاح الصبية فى هستريا " منتصر جا . منتصر جا " . هرت كلاب الحى فى وجهى غضبا بينما رماني  شباب الدروب بنظرات استنكار لا متناه . هاجمنى اخوتى و اخواتى . هذه بلاد تستكثر عليك العيش سعيدا و لو شهرين فى ثلاثة و اربعين عاما . هذه بلاد مجنونة تدير ظهرها للمعقول و تسافر فى غياهب ثقافة شفهية من دوبيت انبته صعاليك ما . لم استكن هذه المرة بل صحت فى وجوههم " مرحى بكم يا شواهد القبور . من اليوم قررت ان يموت خالى لأحيا انا " . ثم صرت اقهقمه . داهمنى جوع غريب للضحك . فجأة شعرت باننى لم أضحك فى حياتى يوما . فصرت أقهقه و كأننى اريد استلال ما سلب منى من ضحك من بين براثن ماض مجحف . فى تلك الليلة توفى خالى بالسل . و قيدنى الأهل و احضرونى الى هنا بدعوى انى مجنون " .
خرجت من المستشفى و صدى صوت " منتصر " يرن فى رأسي كالطبل . بدت لى الشوارع مضيئة على غير عادتها . دلفت إلى بيتى فى هدوء و تأملت وجه زوجتى المقدود من صخر : ابنة عمي  التى تزوجتها انصياعا لرغبة والدى . سألتنى و هى تتأمل مسلسلا مملا فى التلفاز " اتعشيت برة ؟ " . هرعت الى التلفاز و ركلته بقدمى فى عنف و صحت فى وجهها " انت طالق بالثلاثة " . ثم أخذت ابحث فى ثنايا دفترى المغبر عن رقم هاتف حبيبتى القديمة !!!