لم تعد سمية هنا يا ولدي
لم تعد سمية هنا يا ولدي حميد الرقيمي - اليمن تحت رأسي تتكوم أوجاع البلاد كلها، تمتد بلادٌ من أقصاها إلى أقصاها على مطرح رأسي الممتلئ ضجيجاً وصخباً، أوراقٌ عجفاء قاتمة لا أخضرار فيها، أشواكٌ حادة سامة لا تحمل ثمراً ولا فاكهة، صفوف من الفقراء
لم تعد سمية هنا يا ولدي
حميد الرقيمي - اليمن
تحت رأسي تتكوم أوجاع البلاد كلها، تمتد بلادٌ من أقصاها إلى أقصاها على مطرح رأسي الممتلئ ضجيجاً وصخباً، أوراقٌ عجفاء قاتمة لا أخضرار فيها، أشواكٌ حادة سامة لا تحمل ثمراً ولا فاكهة، صفوف من الفقراء أياديهم نحيلة، أعينهم ناعسة مرهقة، لا أحد هنا على طبيعته، الكل يتمترس خلف لقمة يومه، ربما أحدهم خرج باكياً من بيته في لحظة ضعف مؤلمة، ربما الآخر لا يمتلك داراً ولا غرفة ولا مكاناً، أجدهم كلهم دونما حياة، مثلي تماماً ، تتصارع في مخيلتي آهات شاحبة، لا أعرف كيف أقولها ، لكنها شاحبة باهتة، ليس لها وجه، ليس لها ملامح، عبرات فقط، عبرات تتدفق من أعماق قلوبهم، تلك القلوب التي تعبت من كل شيء، التي تجثم عليها عذابات الحياة وتمزقها رويداً رويداً، لا أظن بأن أحد هنا ينتظر الحياة، الكل يزاحم الكل على النهاية، على تلك الحتمية الأخيرة، لقد تعبوا ، أحلام مضجرة ، أمنيات منفية، تطلعات هاربة، خرائط معدمة، كل شيء توارئ خلف كل شيء، وبقي هؤلاء بأقدامهم النحيلة ينتظرون حفرة ساكنة، يا الله ، ماذا حدث ، لم نكن نستحق كل هذا، ليست قلوبنا سوداء، لا يعرف هؤلاء الحقد، لا يمكن لأحدهم أن يسرق حياة الآخر، رغم كل شيء، يخفون تذمّرهم خلف ابتسامات ميتة، رأسي يكاد ينفجر، أتذكر تلك الطفلة التي ظلّت تئن الليل كله، لم يكن أحد معها إلا أمها، انطفئت في الرمق الأخير من تعبها، أخمدها الكوليرا، وبقت أمها في تابوت أنينها ترفض كل شيء، تبغض كل شيء، تصفع دون توقف، طرقاتها تلاشئت، سبلها إنزلقت في لحظة غيّرت كل شيء، قلت لها أنا هنا، ردت بصوتها المتعب"لم تعد سمية هنا يا ولدي، لم يعد الوجود يستحق الكفاح" ربما انتحرت صباح اليوم الثاني، ربما لم تكمل أنينها في المساء وانتصف وجعها في منتصفٍ أسود وخبيث، ذلك الشاب الذي رأيته على ناصية الشارع يطارد لقمة في كيس أسود، يفتّش في نفايات الوجود عن وجوده، لا أظنه على قيد الحياة الآن ، لقد تعب من المطاردة ، خارت قواه ولم يعد شاباً، يا الله نحن لا نستحق هذا ، ليلة أمس وصلتني رسالة صوتية من جارتي العجوز، تتلعثم بأشياء كثيرة، لم أفهمها ، فقط ألتقطت من دموع حنجرتها " كورونا سيأخذنا" لم أنم الليل كله، استحضرت كل اليمنيين، وهم في خوفهم من ويلٍ آخر لن يغادر دون أرض قاحلة وحياة أكثر سواداً، لقد عايشت حالات كثيرة من مرضى الكوليرا، كان يسحبهم من بساط الوجع إلى الموت، تتنهد بطونهم الخاوية ، تتقيأ قلوبهم الخائفة، ويموتون بصمت، نحن لا نستحق كل هذا.