القيمة المعرفية لمبادرة التنوير وضرورة استئنافها *أ.د. بكري خليل..
القيمة المعرفية لمبادرة التنوير وضرورة استئنافها
*أ.د. بكري خليل..
أيها الراحل الكبير
لن تبصرنا بمآق غير مآقينا
يكفيك ويكفيني
اُن الحزن الاكبر ليس يقال
فمعنى الوجع في فقدك أوسع من كل عبارة، والسلوى فيما تركت فينا من فيوض لا تنحسر
لقد عشت مُقلا في الكلام مؤثراً عليه المعنى، لذا سوف احاول الاختصار، لطي مسافة زمنية من الصحبة قاربت الستين عاماً، واوجزها في ثلاث لحظات عساها تصلح للإفصاح عن بعض ما وقر في النفس.
اللحظة الاولى:
وهي لحظة مناقبية، أتى حينها لنشهد ما قل فيك ودل، فقد كنت رائداَ محنكا بعيد النظر وحاذقاً ينضح بعبقرية النفاذ إلى الألباب.
وظلت روح المبدئية المتجلية في خياراتك، فكرا ملتزما مخلصا للحقيقة، وكانت بوصلة مسارك: التجرد ونكران الذات والنزاهة والصدق والوضوح مع النفس ومع الاخرين.
عرفناك انسانا أهلته تلك المزايا لكل ما يشار اليه بالبنان. وحين توليت المسئولية الأولى في البعث يوما ما نأيت عن شكليات القيادة وكنت قدوة للموضوعية والايثار والاستقامة.
فقد عشت حياة الفكر وهجرت النعوت والالقاب والتواري خلف العناوين البراقة، فكنت ملء السمع والبصر، فلتعذرني عما لم اقله في حضورك الشخصي.
اللحظة الثانية:
والتي تتمثل في مشروعه النقدي وهو مضمار تجربته وفضائه الذهني، والذي اثراه باهتماماته المتنوعة، والمساءلة الحصيفة، وارتياد الابعاد المفقودة واستنطاق المحتجب وغير المفكر فيه.
وأدرك الراحل الكبير نواقص وعثرات البعث ومواطن المراوحة التي وقعت تجربته في شراكها، فظل مسكونا بها وبمشكلات الوطن والامة وتصدى لمعالجتها.
ويذكر المتحدث الدراسة التي بعثها له وهو في بغداد في سبتمبر ۱۹۹۸ عن ازمه البعث وذلك عقب ما جرى للبعث سودانيا، اذ قال "تجنبت في الدراسة بتعمد مقصود وكبير توجيه نقد مباشر لقيادة الحزب العراقية وخاصة صدام ... هذا ما كان نابعا من حرصي على وصولها للرفاق القياديين السودانيين الموجودين في بغداد ... وتركيزي على أن المهم هو الاسباب القاعدية والحقيقية للأزمة"
ففي ترسيمه النظري ومجمل خطابه نجد حرصاً على منهجه النقدي العقلاني والموضوعي ابتداء من التعرف على العلل كأسلوب لاستنباط الحقائق واستشراف المستقبل وفتح افاقه.
واستقرت دعوته في فحص الوعي بالديموقراطية على ضرورة مراكمة رأس المال الاجتماعي واستنبات ثقافة مدنية تنتشل السودان من كبوته.
ورأى تأسيسا على هذه الاعتبارات ان الاحزاب القومية والماركسية والاسلامية هي احزاب شمولية فكرا وتنظيماً لذا فان صلتها الوحيدة بماضيها أن تنحصر في نقد تجاربها القاصرة والانفتاح على التجربة الديموقراطية العالمية.
وتعقيباً على الحلقات التي كتبها المتحدث في جريدة الصحافة خلال مايو 2013 بعنوان "البعث ماذا والى اين؟"، كتب الصاوي للمتحدث ان ما اورده حول تلك الاحزاب سيخلق مناخاً نهضويا مستنيرا لنشوء أحزاب ديموقراطية التكوين.
فما اتينا عليه يمثل خلاصة متعجله لرهان مفكرنا الاستناري، فكيف يكون ما اوجزناه، لحظة لإبتدار حوار معه علي درب الحجاج الموضوعي.
اللحظة الثالثة:
محاورة المشروع.
عدد مفكرنا العوائق الحائلة دون الاستنارة في الاتي:
١/اهمال مطلب الديموقراطية السياسية، وتصدر دعاوي الديموقراطية الاجتماعية علي حسابها.
٢/افراغ النظام التعليمي من محتواه الإستناري.
٣/ انتعاش الاسلام السياسي و تمدد وسائل سطوته التمكينية وأيدولوجيته الاحيائية .
٤/تريف المدينة السودانية ومضاعفاته الاجتماعية والثقافية والسياسية.
٥/آثار الجهوية السياسية في ترويج قضايا توزيع الثروة والسلطة بدلا عن طروحات الديموقراطية.
وادت العوامل المذكورة إلى اضمحلال خطاب المجتمع والمسألة الديموقراطية، و اعتبر الراحل ذلك البؤرة التي استقطبت عناصر الازمة الوطنية الشاملة سياسياً.
وازاء قضايا التطور الديموقراطي، يصبح موضوع ومحور الحداثة الوطنية وبناء الدولة، هو الاستنارة التي تتخذ الديموقراطية واصلاح التعليم مداميك لها ينبغي الفراغ من وضعها قبل كل اصلاح اخر.
وهذه الافكار بلا شك هي بنت اطارها التاريخي من جهة، وتعكس توجها عصرياً ذا جذور موصولة بالتنوير الغربي من جهة أخرى.
فهي محليا تستجيب لتعديل موازين القوى السائدة والتي هي لمصلحة السلطة الاسلاموية على البلاد وما اتاحته للموالين من فرص التأهيل والتعليم.
يقابل ذلك التصور، التطلع الليبرالي الذي يرى فيه خلاصا قميناَ بإعادة الوطن لإيقاع ومجرى الحداثة والاستنارة.
ومفكرنا في هذا الشأن يرشح بعض شرائح الإسلام السياسي وصفوتها كموارد استنارية بالقوة بحكم اطلالها على التجربة الغربية وما نالته من فرص التعليم المتقدم.
وأيا كان، فان التقديرات المشار اليها في تغيير المعادلات الوطنية والتطور الديموقراطي، هي على غرار ما ذهبت اليه مدرسة الفاعلية السياسية Political Agency school التي تربط التحول الديموقراطي بدور النخب السياسي الذي يعلو على دور العوامل الموضوعية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
لذا فان الخطوط التحليلية لقراءة مفكرنا النقدية في حاجة إلى استكمال لا سيما وان أدبياته النقدية تحمل مساجلات مع القوى السياسية واساليبها بشكل يفوق ربطها بالكليات والتناقضات الجوهرية التي تواجهها هذه القوى وتتحرك في بيئتها.
ويستتبع لما نوهنا له، النظر للأوضاع البنيوية للجماعة السودانية ودور الانتماءات التقليدية ما قبل الوطنية في سد الروافد المادية المؤدية لظهور المواطن الفرد، وكذلك الانتباه للكوابح المانعة لتطور الجماعة التقليدية الى مجتمع حديث بالفعل قادر على خلق قاعدة تحتية للديمقراطية وفي نفس الوقت تعزيز قوى التضامن الاجتماعي العضوي والتكامل الوطني.
فالحاصل أن السودان يعاني من تشوهات تحديثية، أفرغت الحداثة المأمولة من قيمها ومضامينها بفعل الاتجاهات التنموية الخاطئة والفساد والنزعة الاستهلاكية حتى أضحت التجربة في مجملها حاجزا يقف أمام النهوض الوطني مما أصاب فرص بناء الدولة والمجتمع المدني على حد سواء في صميم ممكناتها.
فالتأخر التاريخي والحداثة المعاقة وعدم الاستقرار والسلطوية المجهضة لشروط التنمية العلمية قلصت رقعة التطور الوطني، وسلبت البنى المدينية من انتاج قوتها المجتمعية الذاتية التي تعد الرافعة الاساسية للديموقراطية، فيما عجزت تلك البنى من سحب عمقها الريفي كرديف عضوي مفترض لإنجاز دمقرطة الواقع ومحاصرة التسلط وكسر مظاهر القصور السياسي والاجتماعي.
فليس هناك على وجه الدقة تراجع حداثي في السودان وانما تحديثات مجزأة وناقصة ادعى الي التشخيص لكونها مفتقرة بالأساس لشروط ومداخل الحداثة الناجزة، لأن الإرهاصات التي عبرت عن تطلعات النخب بين الحين والاخر في الاستنارة والتحديث لم تكن في قوتها وتعبيراتها حراكا حداثیاً يجسد تيارا ذا ثقل ثقافيا واجتماعياً ويمثل دفعاً معززاً لمكاسب فعليه لتحولات وانجازات تحسب لحركة الواقع وتقدمه الى الامام.
ولئن اتت الثورة الشعبية الثالثة بشعاراتها الجذرية تأكيدا واصرارا على اقامة نظام مدني ديموقراطي، واحداث قطيعه مع عهود اغتصاب الارادة الوطنية، فان منعطفها النوعي یشي بان التبشير الاستناري الذي دق راحلنا نواقيسه دون هوادة، لم يكن مجرد حلم ومحض خواطر. فالصحوة الجماهيرية التي عمت السودان برهنت على ان الاستنارة تظل مشروعاً حياً وواعداً يداخل العقول ويشق طريقه الصاعد كخيار مصيري دونه الدوران في حلقات الفشل والضياع.
انها مهمة تأريخيه أدركها راحلنا الكبير وتمثلها بعمقها وصعابها كما أدرك ما ينبغي بذله من جهد لتركيزها وتحقيقها وهو امر يتطلب بلا ريب تضحيات كبيرة، ولابد دون الشهد من ابر النحل.
فالعبرة من قراءات فقيدنا التنويرية انها قد أدخلت وعي التنوير في قلب الفكر السياسي السوداني وعقله، وامدته بنسغ لا ينضب، فتحية لذكراه الباقية ومجدا لفكره المبدع.
* القيت هذه الكلمة في الاحتفالية التي اقيمت بمناسبة الذكرى الأولى لوفاة الأستاذ عبدالعزيز حسين الصاوي"محمد بشير احمد" في مدينة لندن بتاريخ1/اكتوبر٢٠٢٢م.