واسيني الأعرج وأسئلة الكتابة والتجربة

*بدأت الكتابة بالشعر ثم هجرته حين شعرت أنني لن أضيف جديدا *سرقت كتاب الف ليلة وليلة من خلوة تحفيظ القرآن وكانت بداية معرفتي بالقراءة *جنون المبدع هو أن يكتب بحرية وبمسئولية حوار : محمد نجيب محمد علي واسيني الأعرج وأسئلة الكتابة والتجربة أتيحت لي العديد من السوانح التي جمعتني بالكاتب الروائي الجزائري الكبير واسيني الأعرج، إبان زيارته للخرطوم وتنقلاته، ومن خلال وسائل التواصل الاجتماعي التي تجمعنا من حين إلى آخر. مما دفعني إلى أن أنجز العديد من الحوارات. تلك التي تتناول أعماله، والتي تتناول سيرته وحياته وتجاربه، إذ أنني أرى دائما أن حياة الروائي هي الرواية الوحيدة التي لا يجلس ليكتبها بنفسه، وهناك فرق كبير بين كتابة الرواية وكتابة المذكرات. 

واسيني الأعرج وأسئلة الكتابة والتجربة

واسيني الأعرج وأسئلة الكتابة والتجربة

*بدأت الكتابة بالشعر ثم هجرته حين شعرت أنني لن أضيف جديدا

*سرقت كتاب الف ليلة وليلة من خلوة تحفيظ القرآن وكانت بداية معرفتي بالقراءة

*جنون المبدع هو أن يكتب بحرية وبمسئولية

حوار : محمد نجيب محمد علي

أتيحت لي العديد من السوانح التي جمعتني بالكاتب الروائي الجزائري الكبير واسيني الأعرج، إبان زيارته للخرطوم وتنقلاته، ومن خلال وسائل التواصل الاجتماعي التي تجمعنا من حين إلى آخر. مما دفعني إلى أن أنجز العديد من الحوارات. تلك التي تتناول أعماله، والتي تتناول سيرته وحياته وتجاربه، إذ أنني أرى دائما أن حياة الروائي هي الرواية الوحيدة التي لا يجلس ليكتبها بنفسه، وهناك فرق كبير بين كتابة الرواية وكتابة المذكرات. 
ربما لأن رواية الروائي الحياتية تبتعد عن المتخيل، أو لأن البطل الذي هو الكاتب لا يعرف كيف ستكون الخاتمة. لذا يترك أغلبهم هذه الرواية ليكتبها غيره. 
في آخر رفقة لي مع واسيني الأعرج وزوجته الدكتورة الشاعرة زينب الأعوج والبروفيسور محمد المهدي بشرى لزيارة قبر الراحل الطيب صالح والراحلة فاطمة أحمد إبراهيم أول نائبة في البرلمان السوداني، بجانب زيارتنا لإحدى مكتبات الخرطوم الأهلية، أتاح الوقت لي إجراء أكثر من حوار حرصت على توثيقه وتسجيله ، وكنت مثل التلميذ الذي يجلس إلى أستاذه فوق بركان من موج الأسئلة المفتوحة طمعا في النظر إلى تلك الشواطئ التي لا تبدو قريبة. لاحظت أن واسيني يحرص دائما على ابتسامة لا تغيب عنه، وأن يديه قليلة الحركة، وكنت كأني أنظر عينيه تقرأ في شيء أمامها قبل أن يجيبني. في هذا الجزء من الحوار حرصت على الاقتراب أكثر من تجاربه الحياتية التي شكلته، وآرائه في بعض القضايا المختلفة، والتي ربما لم تتطرق لها حوارات سابقة. سؤال الموت والبدايات وجنون المبدع والزوجة المبدعة ورحلة روايته الأخيرة عن مي زيادة.. وكانت هذه الحصيلة:


واسيني بدأ شاعرا، ثم تحول إلى كتابة القصة القصيرة، وأخيرا إلى كتابة الرواية التي اشتهر بها؟

- نعم، بدأت بكتابة الشعر في وقت مبكر، وأدركت في وقت مبكر أن ما كنت أكتبه مجرد أحاسيس عاطفية إنسانية يمكن لأي شخص أن يكتبها حتى لو لم يكن شاعرا، ولأن ما كتبته لم يكن شيئا مبنيا على قواعد انفصلت عنه، وتحولت لكتابة القصة القصيرة.

_وبعدها أيضا هجرت كتابة القصة القصيرة وذهبت للرواية؟

- أذكر أننى التقيت أستاذي العراقي عبد اللطيف الراوي - يرحمه الله - حين كنت طالبا بجامعة وهران وقرأ قصصي، ونبهني إلى شيء لم أكن منتبها له، كان يقول لى «يا واسيني أنت عندك نفس طويل وليس نفس قصصي وأعمالك هذه تستحق أن تكون روايات، ولكنك تقمعها وتحولها إلى قصص وهذا غير جيد». ووجدت فعلا مع مرور الوقت أن له حقا فيما قاله، وكتبت روايتي الأولى، وكانت رواية قصيرة اسمها «الأجساد المحترقة» نشرت في مجلة «آمال» الجزائرية وكتب أستاذي الراوي تعليقا عليها نشر بالمجلة «اليوم ولد روائي»، هذا التشجيع والدفع قادني نحو الرواية وأصبحت أفكر روائيا وليس قصصيا.


_ما الفرق بين التفكير في كتابة رواية وكتابة قصة؟

- حين تفكر في كتابة قصة يكون التفكير محدودا في الحجم اللغوي، كيف تجمعه بشكل جيد، ولابد أن تكون تفاصيل الزوائد غير موجودة، لتذهب لهدف صغير واحد معين وتشتغل عليه، أما التفكير في الرواية يختلف لأن عوالمها متعددة. لهذا انفتحت في الكتابة ولم أعد أفكر مثلما كنت أفكر في القصة القصيرة. كنت أكتب القصة القصيرة وأمامي الضوابط التي لا تشبهني. عبد اللطيف الراوي حينما قال لي نفسك روائ كان يعرف جيدا أنني كنت أقمع الكثير من الأشياء الموجودة عندي.


_هل نقول إن من اكتشف الروائي واسيني كان الأستاذ العراقي عبد اللطيف الراوي؟
 
- نعم، كان رجلا منغمسا في الحركة الثقافية الجزائرية وتوفي في حادث سيارة في سوريا بسبب المنافي والتعب، وحقيقة كانت لكلمته وتوجيهه الأثر الكبير في تحولي لكتابة الرواية.


_بالنسبة لكتابة الرواية والقصة، هل العمل الفني هو من يحدد شكله أم أنك من تختار سلفا؟

- في الأصل كانت قصصي طويلة، هنالك نفس لدى كل إنسان، هذا النفس يتطور بالقراءات والجهد الثقافي، وأنا حقيقة كنت أقرأ روايات كثيرة، كل النصوص التي أقرؤها مبنية على نصوص روائية حتى القصائد الشعبية.


_كانت ألف ليلة وليلة أول كتاب قرأته كما ذكرت لي؟

 
- هذا الكتاب سرقته من خلوة تحفيظ القرآن، كانت صدفة جميلة في دورها الرمزي، لم أكن أقصده، لقد أخرجتني قراءتي له إلى دائرة الإنساني وأحببت لغته وحريته، كنت صغيرا، وهو نص مفتوح، نص حر، أنت تقرأه ولا تخاف، بل بالعكس أحيانا تستحى من نفسك وأنت تقرؤه، لذلك تقرؤه سريا بسبب هذه الحرية. كنت أنوي أخذ مصحفا حينها ولم أكتشف أني أخذت هذا الكتاب إلا في البيت.

_ما أثر قراءتك لألف ليلة وليلة عليك؟

- لقد وجدت نفسي فيها أثناء قراءتي لها في فترة الكتاتيب، فقضية العيب والحرام والحلال كما رأيت لا تدخل في هذا النص مطلقا. وجدت نفسي في هذا المدار الإنساني البسيط صدفة، وبالطبع هذا تطور في وقت آخر وكبر من خلال قراءاتي باللغة الفرنسية، كانت كل قراءاتي باللغة الفرنسية حتى بعد الاستقلال، وبعدها درست اللغة العربية باللغة العربية.


_أستاذ واسيني ونحن الآن نقف أمام قبر الراحل الطيب صالح.. كيف تقرأ سؤال الموت؟

- بدءا أترحم على أستاذنا الكبير والصديق العزيز الذي تعرفت عليه والتقيته العديد من المرات. في اعتقادي أن الموت بالنسبة للفنان ليس هو النهاية، هو مثل استراحة المحارب الذي يترك نصه حيا، النص هو الذي يستمر عبر الأجيال، وكاتب كبير مثل الطيب صالح ستأتي أجيال وتقرؤه وتكتشف أشياء كثيرة.

 
_ كيف  قرأ واسيني الطيب صالح؟


- انظر مثلا قضية التسامح الموجودة في أعمال الطيب صالح ألا تستحق أن يتأملها الإنسان. التسامح الديني والفكري والثقافي والعرقي والإثني، ألا يستحق هذا أن نراه بعين اليوم. مثلا أنظر العلاقة مع الغرب كيف كانت صدامية في موسم الهجرة بين الشرق والغرب على أساس ثقافي، على أساس الصدمة الحضارية. هل اختلفت كثيرا اليوم؟ لا أعتقد. قراءة الطيب صالح تبين لنا أن أحد الموضوعات التي تناولها لا تزال مستمرة حتى اليوم.


_وماذا عن قضية الإرهاب وما يقوله الغرب؟
 
- قضية الإرهاب على الرغم من وجوده التدميري لكل المعالم الحضارية الإنسانية خلق مناخا بائسا، ولكن هذا أيضا استغله الغرب الاستعماري لوضع هذه الحدود التي أصبحت حواجز بين الشرق والغرب منها ما هو مرئي وما هو غير مرئي. الطيب صالح تناول هذه الموضوعات ولهذا أقول إن أعمال الطيب صالح على الرغم من النهاية البيولوجية لكل كائن من الناحية الثقافية ومن الناحية الإنسانية لا يزال مستمرا.


_أعود بك مرة أخرى إلى سؤال الموت. الأستاذ الروائي السوداني عيسى الحلو ذكر في حوار لي معه أن المبدع عادة يخاف من الموت؟ 
- أنا لست سوبر مان، كل كائن حي يخاف النهاية وليس المبدع فقط، أنا لا أتصور أن الموت خاصية إبداعية، ولكني أخاف الموت فقط -بالنسبة لي- لأنه لا يسمح بالانتهاء من مشروع لا ينتهي أبدا. في نيتي أن أكتب كذا رواية ولكن حين يأتي الموت ستتوقف هذه الكتابات.


 _هل تعني أنك لا تخاف الموت؟ 
- الموت لا يخيفني إطلاقا، لأني بصراحة خزنت في داخلي منذ الصدمة الصحية التي تعرضت لها بسبب «السكتة القلبية» التي أصابتني ونجوت منها بطول العمر، بدأت أنظر للحياة باحتمالية وليس بيقين. الإنسان حينما يكون شابا لا يفكر في الموت بل بالعكس يظن أنه مستمر في الزمان والمكان، ولكن عندما يتعرض للصدمات الحقيقية، الصدمات التي تضعه على شفير الموت تتغير رؤيته، تتغير أيضا علاقته بالزمان. هنالك من يقولون لي أنك تكتب كثيرا، أقول: نعم أكتب كثيرا لأن عندي مشاريع كثيرة وأريد أن أنتهي منها قبل السفرة الأخيرة. ولهذا أقول إن الموت لا يخيفني. الموت هو أكبر قيمة عدالة إنسانية يمر عبرها الفقير والغني والمثقف والأمي والجاهل وكل الناس ويبقى الميراث الذي تتركه وراءك، هذا هو ما يؤهلك للبقاء والاستمرار في أعماق الناس أو عدمه.

 
_خالدة سعيد وأدونيس، زينب الأعوج وواسيني. يقولون إن المرأة المبدعة إذا كان زوجها مبدعا وكاتبا تكون دائما في الظل؟

 
- وقد يكون العكس أيضا، هنالك الكثير من المبدعين زوجاتهن كن هن الظاهرات. ولكن أعتقد أن هذا ليس مهما، الذي يريد أن يقرأ خالدة سعيد فكتبها موجودة، والذي يريد أن يقرأ الدكتورة زينب الأعوج وأبحاثها الأكاديمية في الشعر المغربي كتبها موجودة أيضا. هنالك أيضا ظروف مرتبطة بالأجناس الكتابية أيضا، من خلالي مثلا الرواية اليوم في الواجهة أكثر من الشعر ولكن هذا لا يمنع من أن نجد من يقرؤون الشعر ويستحبونه وزوجتي زينب الأعوج تتحرك عربيا وعالميا في دعوات ولقاءات عالمية تشترك فيها وهي أستاذة بجامعة تامينا بباريس ولها دار نشر، ولها وجود أدبي وإعلامي. أنا أقول المسألة حكاية إبداع وعمل ولا يوجد فيها حكاية زوج وزوجة ولا أحد يغطي على الآخر

_ زينب  الأعوج تكتب قصيدة النثر. ما قولك في قصيدة النثر؟

- أنا لا أحب التسمية قصيدة النثر، وكأنك تحرمها من أن تكون قصيدة. القصيدة هي بنية لغوية، هي جهد ثقافي، أنا أقرأ الماغوط ولا أسأل إذا كان الماغوط يزن شعره أو لا يزنه. أنا أقرأ درويش بعض قصائده النثرية وأدونيس ولا أقول إن هذ القصائد أقل قيمة من الموزون. الشعر هو الشعر. وهذه التسميات غير موجودة في الغرب ولكنها موجودة عندنا نحن. عندما نقول شعر حر هذا يعني أنه شعر حر يتخلص من كل الضوابط التي تقمع حريته وصاحبها يفكر فقط تقنيا يغير كلمة بكلمة حتى يستقيم الوزن بالنسبة له. أنا أرى قصيدة الماغوط أكثر شاعرية من قصيدة نازك الملائكة.
 
_الروائى السوداني إبراهيم إسحق يقول إن رواية المستقبل ستكون قصيرة. كيف يرى واسيني رواية المستقبل؟

- لا أعتقد، الذي أعرفه أن الرواية مستمرة كرواية، والروايات الأكثر شهرة في العالم هي الروايات الضخمة جدا، والقراء يقرؤون الروايات التي فازت بجوائز عالمية، كلها كانت ضخمة. والمشكلة ليست في الضخامة، المشكلة هي هل هذه الرواية قادرة على أن تسكنك فيها بحيث تشعر أن هذا بيتك الأساسي الذي تمضي فيه مدة من الزمان يومين، شهر شهرين، أسابيع وأنت تقرأ فيها وتسكنها أم أن هذا النص سيجعلك تنفر منه، الكثير من الروايات تقرأ فيه صفحة صفحتين أو ثلاثا ثم تنسحب تماما منه.

_كيف يكتب واسيني روايته بفكرة مسبقة أم بتداعٍ مع الإشارة إلى روايتك التي صدرت أخيرا عن مى زيادة؟

- لا، ليس تداعيا. أنا عملي كله بحثي. من أجل رواية مي زيادة لم أكتف بالرحلة الكتابية فقط أو الذين كتبوا عنها، هذا مجهود قمت به. لم يكن صعبا علي أن أكتبها دون ذلك ولكنني أحببت أن أعرف الجو الذي كانت تعيش فيه مي زيادة. ذهبت لبيروت وزرت عائلتها وذهبت للمؤرخ الذي يهتم بمي زيادة وزرت بيتها الذي لم يعد بيتها لقد باعوه، وزرت العصفورية مستشفى الأمراض العقلية وهي كانت هنالك شبه سجينة وكان ممنوعا عليها الخروج ومتهمة بالجنون. الرواية كلها انصبت على هذه الفترة. لم أهتم بفترة حياتها الأولى حيث كان لها صالون أدبي ويأتيها كبار الأدباء ومن خلالها طرحت مشكلة الحداثة العربية والمأزق الذي وصلت إليه والأمر لا يخص مي زيادة فقط ولكنه يخص وجودنا نحن أيضا كعرب اليوم وأخطاءنا ولماذا لا نتطور. 
لقد زرت أيضا فلسطين في ملتقى ثقافي عربي وذهبت على مسؤوليتي إلى منطقة الناصرة حيث ولدت هناك وقابلت أقاربها الذين كانوا موجودين وزرت بيتها وللأسف بيت مهمل ككل البيوتات العربية لكبار كتابنا وفنانينا وهذا كان أمرا متعبا، وأيضا ذهبت لمصر وزرت قبرها وهو قبر مهمل هذه الرحلة استمرت زهاء 4 سنوات وهذا عمل حقيقي، وتأكيدا حين سيطرت على كل هذه الفضاءات كتبت النص وأنا مرتاح. وهذا لا يخص المؤرخ فقط ولكن يخص المبدع أيضا لأن المبدع يعرف هذا الفضاء أكثر من المؤرخ. المؤرخ غير معني بالأمكنة، هو معني بالأخبار لكن العواطف والأحاسيس الإنسانية معني بها المبدع.


_ ألا  ترى أن الإبداع يرتبط بالجنون؟ 
- ربما قليلا، ولكن الإبداع أيضا مسؤولية كبيرة تجاه المحيط ولهذا الجنون فيه لا يكفي. الجنون هو أن تعطي نفسك حرية الكتابة، وهو أيضا يمكن أن يقودك لأن تدفع ثمنا غاليا لخياراتك. وفي الوقت نفسه أنت مسؤول، لابد أن تكتب فيه بمسؤولية لأن الذين يقرؤونك ينتظرونك والذين لا يحبونك أيضا ينتظرونك