جيمس بولدوين إبن هارلم الشرعي بقلم: سيف الدين حسن بابكر

جيمس بولدوين إبن هارلم الشرعي  بقلم: سيف الدين حسن بابكر

جيمس بولدوين إبن هارلم الشرعي

بقلم: سيف الدين حسن بابكر

 

            أورد الكاتب الأمريكي "جون هنري كلارك" في كتابه المشهور "قصة هارلم" أنه في العام 1626م تم جلب أحد عشر زنجياً "لنيويورك" وكانت هي مدينة هولندية تحمل إسم "نيو أم مستردام". كان الهدف من جلب أولئك الزنج هو تعبيد الطرق شمال المدينة في مكان أطلق عليه الهولنديون اسم "هارلم". ومرت مائتان وأربع وسبعون سنة قبل أن يتحول "هارلم" إلى أكبر وأهم حي للزنوج في العالم.

            تم عتق أولئك الزنوج بعد 18 عاماً من العمل الشاق واستقروا في منطقة "جرينويتش" وجذبت إليها عدداً آخراً من الزنوج تعايشوا في سلم مجتمعي مع البيض إلى أن سيطر البريطانيون على "نيو أمستردام" سنة 1664م وأعادوا إليها نظام الاسترقاق.

            بعد الحرب الأهلية بزمن طويل بدأت تنتظم هجرات الزنج شمالاً وكان لهارلم نصيبه الكبير من تلك الهجرات وبذات الوقت أخذت أعداد البيض فيه تتناقص بالهجرة إلى خارجه. كان ذلك بين الأعوام 1900م و1910م.

            في عشرينات القرن الماضي بدأت "هارلم" تضع اسمها على الخارطة إذ إنتظمتها حركة أدبية كبرى عرفت باسم "نهضة هارلم" وكذلك لظهور شخصية زنجية هامة عرفت باسم "ماركوس أورليوس جارفي".

            كان "ماركوس جارفي" هو زعيم دعوة العودة إلى أفريقيا ومبتدع دعوة "الرأس تفاري" وكان قد هاجر من جامايكا لنيويورك. قامت دعوته على التعصب اللوني، وكان من مؤسسي رابطة الزنوج العالمية في جامايكا. ولما فشل، سعى لزنوج الولايات المتحدة مبشراً بدعوته وأنشأ لذلك خطاً ملاحياً في عام 1926م أطلق عليه اسم "النجمة السوداء" لنقل الزنوج إلى جذورهم أفريقيا – القارة الأم- !

            قامت السلطات الفدرالية الأمريكية في عام 1926م بإيداعه السجن الاتحادي بنيويورك ومن ثم تم إبعاده إلى جامايكا نهائياً.

            في خضم هذه الأحداث وتحديداً في العام 1924م ولد "جيمس آرثر بولدوين" وروح هارلم ما زالت تتشكل قبل المخاض ليكون أحد أبكار حي هارلم.

            كانت هارلم هي مركز الحراك لكل القوى التقدمية السوداء بأمريكا. لقد كانت مدينة داخل مدينة وهي تجمع بين المتناقضات. فمن جهة هي عاصمة الحياة الثقافية والعقلية لعالم الزنوج. ومن جهة أخرى كانت قبلة لأصحاب المتع والمغامرة وكذلك أصحاب الموهبة والطموح.

            ترعرع جيمس بولدوين وسط هذا العالم المتناقض لتشكل أعماله من بعد مدرسة تُحتذى في كيفية جعل المقال شكلاً أدبياً يُتبع في نسقه، ليكون من بعد واحداً من أبرز الكُتاب الأمريكيين الذين عالجت أعمالهم قضايا اجتماعية جوهرية كالعنصرية والتفاوت الطبقي..

            لقد كان "بولدوين" ناشطاً سياسياً ثورياً في مجال الحقوق المدنية ولقد تداخلت هذه القضايا لخلق سرديات إشكالية تزامنت مع حركات ثورية برزت للوجود، مما ترك بصمات واضحة على مقالاته ورواياته التي تناولت التبعات السيكولوجية للعنصرية على المضطهدين والقامعين.

            غادر "بولدوين" هارلم بليل قاصداً مدينة النور "باريس" حيث الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة بعد أن أخمدت الحرب العالمية الثانية أوارها؛ فكتب بلا خوف من أقلام الرقابة وأصفاد البوليس الفدرالي، أشهر أعماله وهما:

Go Tell it on the Mountain

Nobody Knows My Name

واللذان وضعا اسمه على قمة كُتاب العصر، ولقد أثارت رواياته وقصصه جدلاً كبيراً في الدوائر الأدبية والثقافية حتى أضحت المعيار النموذجي للواقعية الأدبية نظراً لدقتها في تصوير الطبيعة المضطربة للكراهية العنصرية وأنصاف الحقائق. وهي من مكونات الحياة الأمريكية. إن أعمال بولدوين مازالت تشكل النموذج الفكري والأخلاقي والإبداعي لدى العديد من الأمريكيين السود والبيض على السواء، على الرغم من أنه ارتحل لملاقاة ربه في العام 1987م.

            قام بولدوين بمخاطبة معلمي هارلم بمقال هو بمثابة وثيقة يهتدون بها في مسارهم التربوي لتنشأة جيل جديد من الأبناء السود مبرئين من كل التشوهات التي ألصقها بهم الرجل الأبيض . وكتب بولدوين في ذلك قائلاً:

            " إن مشكلة الزنوج لا تدل على عيب في الزنوج بقدر ما تدل على التركيب الخاطئ للمجتمع الأمريكي... فالأمريكي الأبيض الذي يدوس على حرية الأمريكي الأسود لاشك أنه يعرف معنى الحرية.. إن إستعباده للأسود مستمد من استعباده هو نفسه.. وهذا الاستعباد الذاتي ناتج عن أن الأمريكي لم يصل بعد إلى مرحلة الحضارة الإنسانية الناضجة.. فكل حضاراته لم تتعد مجال الإزدهار الاقتصادي الذي لم يسر جنباً إلى جنب متوائماً مع بناء الإنسان. ولقد رأيت بنفسي حينما كنت أعيش في أوروبا كيف يتصرف الأمريكيون بعنجهية منقطعة النظير. ورأيت أيضاً النظرة الساخرة للأوربيين نحوهم.

            إن الدليل الدامغ على طفولة الشعب الأمريكي الفجة أنهم آمنوا إيماناً مطلقاً بالمُثل المزيفة التي أكدتها السينما الأمريكية في شخص "جاري كوبر" مثلاً، ذلك العملاق القوي الذي لا يُقهر والذي لا يعرف الضعف أو التردد أو الخنوع.. ولذلك فهم يحرصون على اختيار المرشح لرئاسة الجمهورية بناءاً على الصفات الظاهرة التي يتفق فيها مع جاري كوبر!

            وتصوروا معي شعباً يقيم حياته السياسية على مقاييس قدمتها له "هوليوود" رغم إيمانه بزيف هذه المُثل لأنها لا تنتمي إلا إلى عالم الخيال والوهم.. ومن هنا كانت ضرورة مشكلة الزنوج حتى يشبع الأمريكي الأبيض بعنجهيته عن طريق الشعور بأن هناك من هو أقل منه في المرتبة والمقام والتقدير.. فهل يستطيع المدرسون خلق مواطن يختلف عن المواطن الأمريكي القبيح الذي نعرفه؟

            إن مهمة مدرسي الجيل القادم مهمة خطيرة وشاقة، لأنها تهتم أساساً بخلق المواطن الأمريكي الخالي من العُقد والرواسب التي تمكنت من مجتمعنا على مدى الأجيال العديدة المتعاقبة.. على المُدرس أن يخلق المواطن الذي يُفكر لنفسه ويرى الأمور كما يجب أن يراها، لا كما يزينها له الآخرون. دون ضغط أو ترغيب؟؟