موجعة تلك البلاد واسيني الأعرج

موجعة تلك البلاد    واسيني الأعرج

موجعة تلك البلاد

 

واسيني الأعرج

 

 

لكل الأحبة الذين مروا من هنا، أو توقفوا قليلا بتحية مكانها القلب والروح، كل التقدير والحب. سعيد أن عمري اليوم يوم كامل وبعض الوقت، وأسعد أننا مازلنا مع بعضن نمارس عيشا غريبا تآلفنا معه: "الحياة داخل مخاطر الموت". أضحك أحيانا عندما أعود إلى أعماقي: متى عشنا "خارج مخاطر الموت"؟ متى عرفنا الراحة في بلاد بعض قدرها النار والخوف. المزية الوحيدة والعادلة إذا كانت هناك مزية، هي أن موت اليوم ليس حكرا على جهة أو طبقة ولكنه حالة معممة وهو ما يخفف من سلطانها ورعبها. ولدت كما جيلي، في نار حرب التحرير 1954، خلفت ورايت وراءها استقلالا مبتورا، ويتامى بحجم بلاد بكاملها. رأيت الجثث في الطرقات ولم أقترب منها ليس خوفا ولكن احتراما لخوف أمي علينا: لا تقتربوا من اي شيء، سرق والدي من أمامنا في ربيع كانت شمسه تحتفي بافراحها وفصولها. اخرجوه ولم يعيدوه حتى جثة ليكون لنا مزارا. ننام على الرصاص ونستيقظ على الموتى. حتى الماشية لم تسلم ولا كلب البيت. غالبية أعمامي سرقتهم الحرب ومن بقي حيا ابتلعته المهاجر الباردة. الوالد استشهد أيضا مخلفا وراءه خمسة أطفال وسادس في الرحم المجروح، وأرملة لم تعرف من الحياة سوى ابناءها وتربيتهم بما يليق بزمن يقع خارج حيطان القرية. وعندما استقرت الحياة وشعرت أخيرا أن الدنيا استقامت وأصبحت بخير، اندلعت حرب عمياء. الأخ يقتل أخاه بلا رحمة وبطريقة لم يمارسها الذين سبقوه في الجريمة وفي حرفة القتل. كل صباح رؤوس مقطوعة وجثث معلقة في فراغات المدن والقرى. حرب الإخوة الأعداء. عشر سنوات من الدم توقفت فيها حياة البلاد وتغيرت يومياتنا. كان علي أن أحذر في كل ثانيةمن قاتل افتراضي حقيقي، ربما يكون مدسوسا في كأس القهوة المرة، او خلف الخزانة، أو في محرك السيارة. وخرجت بصدفة الأقدار والبركات الغامضة ودعوات أمي التي منذ أن وضعت التميمة النحاسية على صدري صار يقينها أن الرصاص لن يمسني وسينحرف بمجرد الاقتراب مني بفعل التميمة. كنت أضحك وأمي تضعها على عنقي، لكني كنت أحبها ولا أناقشها في يقين قلبها. وخرجت سالما بعد محاولتين فاشلتين من قاتل ظل يترقبني في زوايا الحي الشعبي الذي أقمت فيه في العاصمة (باب الزوار) قبل أن أعيش المنفى داخل حيي ثم داخل أرضي. جمعت أغراضي في الحقيبة الحديدية الزرقاء وغادرت البيت في يدي باسم وريما وبرفقتي زوجتي زينب. جبنا البلاد بحثا عن مأوى سالم لابني, وذات صباح وكانت السبل قد انغلقت، وجدتني فجأة في الجهة الأخرى، كل شهر أتخطى المتوسط باتجاه الضفة المقابلة وكأن البحر لم يكن إلا واديا صغيرا. كان الخطر قاتلا رمزيا وماديا. أكثر من عشر سنوات بين الهنا والهناك في مساحة تشبه البحر كما تشبه اللاشيء. لم يكن طلبة الدراسات العليا في الجامعة المركزية الذين كنت أزورهم على حين غفلة بتواطئ مع نزر قليل من أصدقائي في الجامعة، يعرفون أن هذا الرجل الذين لم يقصروا في حبه، والذي لم يقصر في تعليمهم، كان يموت كل يوم قليلا دون أن يعرف حلا لمحنته، لكنه كان يسير نحوهم ونحو المخاطر المتربصة، كلما حدثه قلبه بضرورة فعل ذلك، ولم تكن له من حماية إلا التميمة التي وضعتها أمه على صدره وقلبه. وانتهى الخوف الثاني، خوف الحرب الغريبة، حرب الإخوة، ولم ينته، لأنه يعرف أن نفس الحرب يتم التحضير لها اليوم في غفلة من الجميع، وبعلم من الكثير منهم. وها هو الخوف الثالث الذي اشتركنا فيه لمدة قاربت السنيتن، فقدنا فيه الكثير ممن نحبهم. لهذا أضحك: متى ارتحنا من الخوف ومن المخاطر؟ لهذا لابد من أن أكون سعيدا ومنتشيا، لأني مازلت هنا، حتى ولو أصبحت أحسب الحياة والأفراح بالأيام وليس بالشهور والسنوات كما كنت أفعل. كلما أظلمت الدنيا نمت على الحرف الحي، والكتابة. الكتابة التي تمنح الحياة الجرأة على اكتشاف المعنى داخل الشطط المغلق. شكرا على هذا اللطف الكبير منكم بأن منحتموني احتفالية لم أحلم بها، وحضورا جميلا أحسد عليه. تقبلوا حبي الكبير. هذا ردي لكل فرد منكم عبر من هنا أو عرج على الصفحات، فكان قلبه مرافقي وما يزال، يمنحني طاقة جبارة لحب الحياة والاستمرار فيها والكتابة عنها. شكرا لكم جميعا.

في الحياة متسع معطر بشيء آخر غير أخبار الموت.

 

واسيني/ 09-08-2021