نوستالجيا مع عبد الله الطيب

نوستالجيا مع عبد الله الطيب – د. نزار محمد عبده غانم أول ما عرفت اسم العلامة السوداني الراحل عبد الله الطيب المجذوب كان في طفولتي من خلال تطفلي على مكتبة والدي الشاعر البحاثة التربوي الراحل محمد عبده غانم الذي غادر دنيانا الفانية في أغسطس 1994م. و كانت تلك المكتبة غنية بالكتب التي محورها اليمن بالعربية و الإنجليزية و هناك عدد محدود من الكتب الفرنسية إذ كان الوالد قد بدأ يدرس الفرنسية و هو في عمر متقدم . و قد لاحظت أن كثيرًا من هذه الكتب قد أصبح مفقوداً

نوستالجيا مع عبد الله الطيب


نوستالجيا مع عبد الله الطيب –

د. نزار محمد عبده غانم

أول ما عرفت اسم العلامة السوداني الراحل عبد الله الطيب المجذوب كان في طفولتي من خلال تطفلي على مكتبة والدي الشاعر البحاثة التربوي الراحل محمد عبده غانم الذي غادر دنيانا الفانية في أغسطس 1994م. و كانت تلك المكتبة غنية بالكتب التي محورها اليمن بالعربية و الإنجليزية و هناك عدد محدود من الكتب الفرنسية إذ كان الوالد قد بدأ يدرس الفرنسية و هو في عمر متقدم . و قد لاحظت أن كثيرًا من هذه الكتب قد أصبح مفقوداً في المكتبات اليمنية ربما بسبب التغييب السياسي لها ،ففي تلك المكتبة استوقفني كتاب لأديب لبناني أذكر أن اسمه أحمد سعد…..،تناول فيه مجموعة شعراء من السودان ،و في الحيز المخصص لعبد الله الطيب شاعرا بدا لي أن الكاتب يأخذ على عبد الله الطيب بعضاً من مضامين شعره التي ينقل عنها أن فيها توبيخاً لأهله السودانيين فيعلق أحمد سعد بقوله : ( ما هكذا يكون عبيد الله الطيبون !) ..

كيف سمعت بعبد الله الطيب؟

ولأن العبارة كانت صارخة فقد وقرت في ذاكرتي و عبرها عرفت فيما بعد شيئاً من تجاذبات و تقاطعات المشهد الأدبي السوداني و الذي أسهم في صناعته في الخمسينيات الأديب الفلسطيني الراحل دكتور إحسان عباس. و في نفس تلك المكتبة اطلعت على إشارة إلى والدي في كتاب من تأليف عبد الله الطيب هو (المرشد إلى فهم أشعار العرب و صناعتها ) و هو مطبوع عام 1955م بالقاهرة . ففي ذلك الكتاب كانت الإشارة إلى والدي من خلال إفادته للمؤلف أن بعض أشعار العرب ترد على شاكلة و وزن يرد في الشعر ( الحميني ) اليمني و أظن أن النموذج كان ( وا مغرد بوادي الدور من فوق الأغصان ). و في مكان آخر من المكتبة وجدت دواوين لعبد الله الطيب كتب مقدمة أحدها الدكتور طه حسين ،و في ديوان له بعنوان ( بانات راما ) الصادر بالخرطوم عام 1970 قصيدة بعنوان ( وادي النيل البعيد ) فيها إشارة إلى مدينة عدن و زيارة قام بها الشاعر لها عبر البحر كما كان السفر في الخمسينيات و زار فيها والدي في منزلنا و تعرف على خالي الشاعر المسرحي الصحافي الراحل علي لقمان ،يقول فيها :-

ألا إن وادي النيل منك بعيد فهل أنت لما أن نأيت سعيد

و في (عدن) دار الأديب( ابن غانم) و حيث وراء البحر عاش هنود

ركبت إليها زورقا و سباحة و عطلة صيف و الطريق كئود

و منذ ذلك الحين رسمت في مخيلتي صورة للأستاذ عبد الله الطيب وقفت عند ذلك و أحسست وجدانياً أن وداً واحتراماً عميقاً يقوم بينه و بين والدي .

و حينما أرادت لي الأيام الاستقرار برهة من الزمان في مدرسة داخلية في مدينة عالية بلبنان في النصف الأول من سبعينيات القرن العشرين ،حيث زاملت الصديق فيصل أمين أبو رأس الذي هو اليوم سفير بلادنا في بيروت ،كان والدي يحضر إلى لبنان من جيبوتي لزيارتي و للعلاج الجراحي أيضا من ورم أصابه منذ قبل ذلك الحين في المثانة و لكنه صمد له و لم يجعله يضع حداً لإنتاجه الفكري أو عطائه الأكاديمي الذي استمر طويلا بعد ذلك. و في عام 1974م وصلت دعوة إلى الوالد من عبد الله الطيب الذي كان حينئذ مديراً لجامعة الخرطوم ليزور السودان و يبقى فيه عاما كأستاذ زائر بقسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة الخرطوم ،و قد قبلها والدي لا سيما أنه لم يجد ذاته في تجارة بيع الساعات ( سيكو ) في جيبوتي و إن كانت المرحلة الجيبوتية في شعره الفصيح و الحميني غنية و قد رفدت للأمانة مطربي جيبوتي من أصل يمني بنصوص ما زالت تعيش في وجدانهم كما لاحظ الفقيد المناضل محمد عبد الواسع حميد سفير بلادنا في جيبوتي في الثمانينيات.و كما لاحظ الصحافي اليمني بصحيفة (الجمهورية) عبد المغني القرشي في التسعينيات.

مع عبد الله الطيب في ملتقى النيلين :-

أما حينما قدر لي أن أعيش في السودان الشقيق و الحبيب عشرة أعوام كرة واحدة ما بين 1974م و 1984م فقد توثقت صلتي بعبد الله الطيب حتى أنه يذكرني في بعض أشعاره . و في الفترة الأولى من ذلك الزمان كنت مرافقا لوالدي و والدتي في مدينة الخرطوم حيث درست المرحلة الثانوية ،ثم حينما تمكن المرحوم الشاعر و المناضل عبد الله حمران و بعده الدكتور عبد الكريم الارياني من إقناع والدي بالتحول للعمل في قسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة صنعاء عام 1977م ،آثرت أن أبقى في السودان لأدرس الطب،و قد أحسن عبد الله الطيب رحمه الله وفادتنا في الخرطوم طوال فترة إقامتنا هناك و لعل شعر الوالد يساعدني في تذكر تلك الصلة الحميمة فذات يوم بمناسبة حصول عبد الله الطيب على درجة الأستاذية في جامعة الخرطوم دعانا عبد الله الطيب إلى سهرة في ليل رأس السنة الميلادية نستقبل فيها فجر يوم الأول من يناير عيد استقلال السودان و صادف أن تلك الليلة كانت أيضا ليلة عيد الأضحى المبارك . و أذكر أنها كانت بمنزل زميلهما الدكتور محمد علي الريح هاشم ،و كان أن كتب الوالد قصيدة بعنوان ( الأعياد الثلاثة ) بتاريخ 31 ديسمبر 1976م جاء فيها :-

يا نديمي بالمدامة جودا أنجز الفجر وعده أن يعودا

……….

بين قوم قد أدركوا قيمة الساعي إلى الخير همة و صمودا

كرموه و ليس يدري مقام الفضل إلا الكريم رأياً و جودا

و إذا الطيب المبجل عبد الله يزداد في المعالي صعودا

و ينادى به على الملأ الأستاذ علما ما أن يطيق حدودا

كم قضى في السنين أيامه بحثا و كم أرهق الليالي جهودا

في بيان أكرم به من بيان أمتع الكل سيدا و مسودا

دام للعلم كي يدوم به العلم فما يستطيع إلا خلودا

يا نديمي إنها ليلة العيد بها نستضيف عاما جديدا

فلنكرمه بالقيام إلى الفجر و نستقبل الضياء الوليدا

وكان في الليلة حضور الشاعر السوداني المرح محمد الواثق صاحب ديوان ( أمدرمان تحتضر ) ،و قد دأب هذا الشاعر على هجاء بعض المدن السودانية مثل هجائه لمدينة (كسلا ) و الطريف أن ينبري لمقارعته شعراً فيما بعد شاعر يمني عاش في السودان هو الدكتور محمد صالح الريمي أحد الأكاديميين البارزين في جامعة تعز اليوم ،بل يخبرني الأخ الريمي أن محمد الواثق كان الممتحن الخارجي عند حصوله على الدكتوراه من قسم اللغة العربية بجامعة الخرطوم عن موضوع ( محمد عبده غانم حياته و شعره ) و التي أشرف عليها بروفسور عز الدين الأمين و هو ممن زاملوا الوالد في فترة عمله بالجامعة بالسودان فتأمل أريحية السودانيين . و أذكر أن الدكتور الريمي قال لي أن د. عبد العزيز المقالح هنأه على اختيار الوالد كموضوع لدراسته.

و أذكر سهرة أخرى دعانا فيها عبد الله الطيب إلى حضور حفل زواج الممثلة المسرحية ثم السينمائية السودانية تحية زروق بمنزله برئاسة الجامعة ،و كانت قد اقترنت بالدكتور (باتريس) الفرنسي الذي يدرس اللغة الفرنسية بكلية الآداب بجامعة الخرطوم . و خلال تلك السهرة كان عبد الله الطيب يتحدث عن تمثل شكسبير في شعره للمعاني التي انفرد المتنبي بذكرها في الشعر العربي و كأنه يشير إلى احتمال تأثر شاعر الانجليز الأول بشاعر العربية الأول ،و لكن أحد الضيوف الأعاجم سأله : ” و من يكون المتنبي ؟” ،فأجابه عبد الله الطيب ببلاغة انجليزية :”إذا كنت لا تعرف من هو المتنبي فI am afraid I can not help you ”

و ذات يوم قرأت لعبد الله الطيب كتابه : ” مع أبي الطيب ” و هو كتاب ممتع تدرك من خلاله لماذا ملأ المتنبي الدنيا و شغل الناس كما يقال ،و في الكتاب يشير عبد الله الطيب إلى دور سوداني هام ساعد المتنبي على الفرار من قبضة كافور و هو الناقة ( البجاوية ) التي ذكرها المتنبي في قصيدته و البجة قوم يقيمون في شرق السودان :-

ألا كل ماشية الخيزلى

و فيها يفضل هذه الناقة على المرأة التي تتمشى بدلال وبطء

و ذات يوم كان إجازة مدرسية دعانا عبد الله الطيب إلى رحلة إلى منطقة ( بتري ) على الضفة الغربية للنيل الأزرق في ضاحية من ضواحي الخرطوم و كانت له في تلك المنطقة مزرعة مطلة على النيل . و رحت أتمشى فيها مع عبد الله الطيب فأراني ما يظنه أثرا لثعبان كبير و كنت و ما زلت أخشى الثعابين و سيرتهم . و كان حضورا معنا في تلك الرحلة صديق حميم لعبد الله الطيب هو الأستاذ في الهندسة دكتور دفع الله الترابي و هو كما قد يخمن القارئ فعلا شقيق السياسي السوداني دكتور حسن الترابي،و كانت بمعيته زوجته الأديبة السودانية الراحلة دكتورة زكية عوض ساتي . و كان حضورا أيضا أسرة فرنسية صاحبها دكتور برنارد ميليه أستاذ الفرنسية بالجامعة ،و قد دفع منظر النيل الساحر ابنتيه على السباحة فيه ،فما لبثت و أنا الوحيد في عمريهما أن لحقت بهما بالسباحة في النيل الأزرق الممتلئ ،و كان عبد الله الطيب في تلك الفترة قد أخذ يجيد اللغة الفرنسية بل أخذ يقول بطرافة : ( أجيد الانجليزية و الفرنسية و بعض العربية )، و أظنه كان يقصد بهذا أن اللغة العربية من الصعب جدا أن يدعي أحد أنه قد أحاط بها و بغرائبها. فصاح فينا بالفرنسية بينما كنا نسبح : (Attension a la crocodile! ) . و كان السودانيون فعلا يتحدثون عن تماسيح النيل لا سيما النيل الأزرق ،فظننا أن عبد الله الطيب قد شاهد تمساحاً يتجه إلينا فسارعنا بالخروج إلى الشاطئ و لكني تعثرت بسبب دوامة أمسكت بي بقوة و كادت لا تجدي معها عضلات فتى في السادسة عشرة من عمره ،و أخيراً تمكنت من الوصول إلى الشاطئ دون أن أحدث الجمع بالمحنة التي مرت بي . و أتذكر هاهنا أبياتا يصف فيها الشاعر عبد العزيز المقالح تجربة مشابهة بعض الشيء في السودان بتاريخ نوفمبر 1959م من قصيدة بعنوان ( عند ملتقى النيلين ) :-

هنا اقترن النيلان فالأفق اخضر و ماؤهما في النهر أشقر اسمر

و كنت أرى (توتي) أمامي يحفها من الأخضر الريان فجر مصور

و لولا أحاديث التماسيح كان لي على الشط نوم ناعم متحرر

و خلال فترة إقامتنا بالخرطوم داهم المرض والدي مرة أخرى فكان أن قرر أن تجرى له العملية المطلوبة في السودان في مستشفى (سوبا) الجامعي ،و كان أهم جراح للمسالك البولية يومئذ النطاس عمر بليل صاحب كتاب ( حياتان ) و هو كتاب يصف فيه بليل ما عاشه من تجربة هي زراعة كلية من شقيقه له في زمن كانت فيه زراعة الكلى في بداياتها. و قد كتب فيه والدي يقول بتاريخ 15 يناير 1977م في قصيدة بعنوان (نزيل سوبا):-

و في الخمس و الستين من يوم ميلادي و قد نال مني كرها الرائح الغادي

نزلت ب(سوبا) مستعينا بطبها على ألم قد أرهق الظهر جلاد

…….

فأضحى نطاسي المسالك كلما ألم بها ضر أتاها لإنجاد

فأنقذ مرضاها من الشر و الأذى فما منهم إلا بشكر له شادي

فيا (عمر) الخيرات لا زلت تجتبي ثمار مساعيك الكريمة في الوادي

و كذا جاءتنا أبيات من عبد الله الطيب تهنئ بسلامة العملية التي أجراها هذا الجراح لوالدي من جزائر سيشيل التي ذهب إليهاعبد الله الطيب في إجازة فكتب في يناير 1977م يقول:-

أخا النفر اليمانيين انه القريض به نشدو إليك مجودا

نطول به فوق الطوال و نعتلي على كل قرن حيثما كان أرفدا

لقد سرني لما ( بليل ) بكشفه تأكد أن لا شيء يخشى و أكدا

فدم في هناء لا يراع و صحة و وقيت أحداث الليالي و تفتدى

و لا تعفون دار بفرضة أبين بها سوف تلقى مثلما كنت سيدا

و خلال وجودنا في الخرطوم قامت مطبعة جامعة الخرطوم بطباعة مسرحيتين شعريتين للوالد هما ( الملكة أروى) و ( عامر بن عبد الوهاب) و كان إهداء المسرحيتين إلى عبد الله الطيب ،و قد كتب مقدمة لهما المسرحي السوداني د. خالد المبارك الذي هو الآن الملحق الإعلامي بسفارة السودان ببريطانيا ،كما كان القاص السوداني المرموق الطيب صالح قد أخرج مسرحية ( الملكة أروى ) إذاعيا من هيئة الإذاعة البريطانية بلندن.

و حتى عندما قرر والدي السفر من السودان إلى صنعاء للعمل بجامعتها ظل عبد الله الطيب في سريرته فهو يقول مودعا الخرطوم أو ملتقى النيلين كما كان يحلو له أن يناديها و القصيدة بتاريخ 27 سبتمبر 1977م بعنوان (وداع الملتقى) :-

ملتقى النيلين هل بعد التلاقي من مثيل

فلقد عشت و حولي فيك في البذل المنيل

من كريم الصحب ما طوق عنقي بالجميل

من ك(فتحي) و الفتى(الريح) في الخير الجزيل

أو (صلاح الدين ) و (الواثق) و (الحبر) الجليل

أو ك(عز الدين) أو (يوسف) ذي الفضل الفضيل

و لو أنصفت ما أغفلت ذكرا لزميل

حاضرا أو غائبا عن ظاهري لا عن دخيل

سيما ( الطيب عبد الله) ذي الباع الطويل

ذلك أن عبد الله الطيب كان قد ترك إدارة الجامعة و قد أوكلت إليه مهمة تأسيس جامعة جوبا في جنوب السودان ،ثم غادر السودان للعمل بجامعة فاس بالمملكة المغربية و كان الملك الحسن الثاني ممن يستعذبون دروسه الرمضانية.

و قد ظللت على صلة بعبد الله الطيب أزوره في بيته في منطقة بري كلما عاد في إجازته الصيفية من فاس إلى الخرطوم ،و قد سمعت منه أنه يعتقد أن قراءة نافع دخلت إلى السودان من اليمن ،و كان رحمة الله عليه شديد الإعجاب بمدائح الشاعر اليمني عبد الرحيم البرعي الذي تغنى له ضمن الغناء الصنعاني قصيدة ( قف بالخضوع) فهذه القصائد فعلا جزء رئيس من ديوان المديح النبوي في السودان ،و قد عن لي أن أقول له : ربما كان تسمية الصوفي صاحب الزريبة بغرب السودان بعبد الرحيم البرعي تيمنا بعبد الرحيم البرعي اليمني . فرد علي : ( ليه هل هناك عبد الرحيم البرعي آخر ؟) . قلت له و معي ابن أخته : نعم . قال : و فوق كل ذي علم عليم !

كذلك أذكر أنه أسمعني مطلع مرثية أثارت جدلاً سياسياً كتبها في الصوفي السوداني محمود محمد طه، يقول فيها :-

قد شجاني مصابه ( محمود )

مع عبد الله الطيب في اليمن :-

و ظل عبد الله الطيب في المغرب زمنا غير قصير ،و إلى هناك وصلته دعوة كريمة من مدير جامعة صنعاء الدكتور عبد العزيز المقالح ،و كنت قد أكملت دراستي في السودان و عدت إلى صنعاء لألحق بوالدي،و هكذا تسنى لي أن ألتقي عبد الله الطيب مرة أخرى ،و أذكر أنه كان يومئذ متحمسا لنظريته الجديدة عن أن الصحابة الذين هاجروا إلى الحبشة المرة الأولى إنما هاجروا إلى شرق السودان الذي نعرفه الآن و قد ساق الدليل تلو الدليل على ذلك ،و كانت المحاضرة في مقر النادي السوداني بصنعاء الذي كان يومها في موقع مدرسة أروى لتعليم قيادة السيارات في بئر الشائف . و أذكر أيضا مقيلا أدبيا لعبد الله الطيب مع الدكتور عبد العزيز المقالح في استراحة مركز الدراسات و البحوث اليمني ،و قد تحدث عبد الله الطيب يومها عن أنه لم يستصغ كتابة الشعر التفعيلي رغم أنه جربه ،فقال له المرحوم الشاعر أحمد حسين المروني : ( لماذا يا أستاذ ؟) ،و زادت حلاوة تلك الجلسة نكات الفقيد محمد عقلان الشيباني الكاكاوي اللون الذي قال عنه د. المقالح أنه رمز العلاقة اليمنية – السودانية ،و لولا هذا الإنسان الجميل الذي رحل مبكرا لما تعرفت على الفنان الإنسان محمد صالح شوقي .

ومرة أخرى خلال زيارة عبد الله الطيب تلك نظم الدكتور المقالح زيارة له و لزوجته جروزلدا التي اعتنقت الإسلام فيما بعد و أصبح اسمها الحاجة جوهرة ،إلى مدينة حجة ،و لان السيدة جروزلدا رسامة بالفطرة فقد رسمت مدينة حجة ،و أهدت هذه اللوحة لنا.

و من وحي هذه الزيارة كتب عبد الله الطيب قصيدة من فاس بتاريخ 9 مارس 1986م يقول فيها :-

أتاني من عبد العزيز المقالح كتاب كريم بالمودة مانحي

أرى بين أثناء السطور كأنه يلاحظني من طرف ظرف بلامح

وجدت لدى عبد العزيز طبيعة من الفضل فيها جد و هو كمازح

ولما تلقاني و رحب سرني بيسر لقاء في محياه واضح

يزينه صمت الرئيس و انه جميل بإنسان له جد صالح

وأكرم به من سيد و مدبر ومقتدر ذي حنكة و تسامح

وليس كمن يعيا بخطة وافد و لا بالذي يلفى له خد كالح

ولا بالذي لا تفتأ الحجب حوله كأن كثفت أستارها حول فاضح

ولكن جهير صارح متحمل لأعباء أمر ليس فيها براز

ولما أتت برقية من جنابه زهتني إلى صنعاء نشوة صادح

عجلت إلى صنعاء مني استجابة إليها بقلب مطمئن و فارح

صحبت إليها أسرتي و أضافني ندى في ندى منها لدى الجود فاسح

وعهدي بصنعا كرمتني و أحسنت و جادت و زادت و استحقت مدائحي

ولم ألف في أعلامها غير عالم ملم بأنباء الأمور الصحائح

وقد حفظت من منطقي و تضمنت صحائفها تلخيص متني وشارحي

و قد سرني حقا لقاء( ابن غانم) و هدك من خل إلى البر جانح

نمت منذ سني بضع و خمسين بيننا صلات وداد أصلها في القرائح

ومني له توقير شيخ عشيرة تراه أباها بين غاد و رائح

و هذا (نزار) منه يشبه شيمة تطول إلى العليا بهمة طامح

كما ل( أبي) بكر صفاء ابتسامة تشع على وزن من الحلم راجح

و أبوبكر المقصود هنا هو د. أبوبكر القربي نائب مدير جامعة صنعاء حينئذ

وفي عام 1987م اصدر عبد الله الطيب في الكويت كتابه ( ذكرى صديقين ) الذي تناول فيه بالإعجاب قصيدة والدي ( من وحي المهرجان ) و كان الوالد قد ألقاها في مهرجان حافظ و شوقي في مصر في 18 يناير 1982م .

مع عبد الله الطيب في لندن :-

ثم افترقت عن عبد الله الطيب عدة سنوات توفي خلالها والدي في 9 أغسطس 1994م ،و لم يصل الخبر فيما يبدو إلى صديقه الحميم عبد الله الطيب لذا عندما التقيت عبد الله الطيب بالصدفة في خريف ذلك العام في بريطانيا كان وقع الخبر عليه عظيما و رثى والدي بقصيدة ،نشرها فيما بعد في مجلة ( مجمع اللغة العربية ) بالخرطوم الذي كان رئيساً له لسنوات ، و يقول فيها :-

لقيت ( نزار ) ذات يوم بلندن فأسأله أن كيف خلي (محمد)

أبوه فينعاه فأحسست دمعة ترقرق لولا أنني أتجلد

على مثله يبكى صديقا و شاعرا أصيلا بديع النسج ليس يقلد

وكان أتى ( بخت الرضا ) و له بها بنو طلب يعنى بهم يتفقد

وكان أخا جد محبا لقومه و ذا دأب يسعى و لا يتردد

وأرسلهم في بعثة ليدربوا على طرق التدريس إذ هي معهد

وكان بها( نصر) و قد كان نائب العميد و نحو الحزم قد كان يعمد

وكان زميلا لابن غانم حقبة ببيروت إذ درس بها كان يحمد

وأنشدني من شعر صنعاء قطعة تضمنها في الجزء الأول مرشد

وفي عدن قد زرته و لداره بها كأن صرح لديها ممرد

وشاهدت حرصا منه ذلك دأبه على نهضة التعليم نعم الممهد

أبى أن يرى أبناء يعرب فوقهم بنو غيرهم و المجد بالعلم ينشد

عرفناه بالخرطوم حبرا و مثله بصنعا ألا إن ابن غانم سيد

له مسرحيات وددت لو أنها تمثل كم فيها من الفن مشهد

و أحزنني موت ابن لقمان قبله ألا انه كنز من الفكر يفقد

و بالفعل فإن علاقة والدي بالسودان قديمة إذ كان يذهب ليتفقد طلبة مستعمرة عدن في معهد ( بخت الرضا ) لتدريب المعلمين بالسودان و كان أول لقاء له بعبد الله الطيب هناك حوالي عام 1951م. أما نصر الذي ورد ذكره فهو التربوي نصر الحاج علي أول مدير لجامعة الخرطوم و الذي زامل والدي في الدراسة في الجامعة الأمريكية ببيروت و لوالدي قصيدة بعنوان ( فوق السحاب) كتبت في يناير 1956م يوم استقلال السودان يذكر فيها تلك الزمالة :-

بني السودان جارهم منيع و ضيفهم المحكم في الرقاب

و كم فيهم لنا خل وفي نبيل النفس سمح كالرباب

يذكرنا بعهد قد تولى بأثواب الشباب و بالشباب

ببيروت الجميلة حين كنا رفاق العلم ندأب في الطلاب

نقضي ليلنا جدا و عزما على سنن اليراعة و الكتاب

و بعض الناس قد أفنى الليالي هياما بالمدامة والكعاب

اللهم فارحم الفقيد عبد الله الطيب و الفقيد محمد عبده غانم وأبلغهما مرتبة الإحسان