منمنمات

منمنمات ----------------------------------------------------- يحيي فضل الله --------------------------------------------------- الشاعر محمد محيي الدين ..  كرنفال العصافير وغابة من عبير البنات                               --------------------------------------------------- ( ما يجئ الحب إلا فجأة تهتز كل الدور ترتاح العصافير على الأبواب يمضي زمن الرعب وينمو في العبارات الوثوق )

منمنمات

منمنمات
-----------------------------------------------------

يحيي فضل الله
---------------------------------------------------

الشاعر محمد محيي الدين .. 
كرنفال العصافير وغابة من عبير البنات
                                                   
---------------------------------------------------

 

 

 

 

 

( ما يجئ الحب إلا فجأة
تهتز كل الدور
ترتاح العصافير
على الأبواب
يمضي زمن الرعب
وينمو في العبارات الوثوق )
إن البحث عن عبارة شعرية ينمو فيها الوثوق وتشهر ثقتها من خلال تفجُّرها الجمالي والفكري هو بحث عن تلك المفاتيح الضائعة والتي يلهث وراءها أولئك المسكونون بالإبداع، إنها مفاتيح لأبواب الوجود. والشاعر محمد محيي الدين أحد هؤلاء الذين يحرصون على البحث عن تلك المفاتيح الضائعة، عن تلك الأبواب المُشرعة نحو الجمال المُطلق، عن تلك النوافذ المفتوحة دوماً نحو فكرة الخلود أوخلود الفكرة.
إلتقينا في المعهد العالي للموسيقى والمسرح وكنت قد عرفته عن قرب حميم من خلال أشعاره تلك التي عادةً ما تتسلل وتنسرب إلى الدواخل وتبعث على التأمُّل، سألته وأنا أحاول الإقتراب أكثر نحو تلك العوالم التي تبحث عن امكانية نمو الثقة في العبارات، سألته: (محمد محيي الدين ، لماذا أنت شاعر)؟
( أنا شاعر لأن بي رغبة حارقة أن أقول ما أحس به وأنفعل به، أنا مصاب بمرض عضال هو شهوة إصلاح العالم وأعتقد أن الشعر هو الوسيلة لذلك، ألا ترى أنني اقترب متعمداً من فكرة - دون كيشوت - ، لا تتعجب ولكن، إنها تلك الحقيقة، حقيقة كوني شاعر ـ المهم ليس هنالك مهرب سوى أن أقول كلمتي، رأيي، تصوري لهذا العالم عبر وسيط جمالي هو الشعر ..)
( أيها المصلوب كالنجم
على الموجة
يكفيك ترجُّل
وأرفض الحزن
الذي ما اخترته
طوعاً
ستبقى نابضاً تشهد
ميلاد الرياح
وانتظر الساعة تأتيك .... تمهّل
أغنيات ما علاها الصدأ
المأفون
في قلب الزمان
كلمات
رفضت أن يأسر
الدافق في إيقاعها
برد المكان
وأهجر العشق
الذي لا يشعل
الساحة
أنهار صخب
ما يكون العشق
إلا في إتحاد البرق
بالأرض
التي تمنح القُبلة
في ليل التعب
ما يضئ الحب
إلا في عيون
عرفت سر الغضب
أيها القادم
من أنفاس
أعماق الحكايات
ومن رمل القرى
المهجورة السوح
تجدد
ما يموت النغم
المحفور في الذكرى
إذا إهتز الوتر
فانشد بالأغنية الأولى
وفي العشق تفرّد
أيّها القابض
جمر التوق
آلاف الشبابيك
تناديك
فلا ترحل. )
عن دار النشر- جامعة الخرطوم - صدرت المجموعة الأولى للشاعر محمد محيي الدين تحت عنوان شفيف وموحي هو (الرحيل على صوت فاطمة) ، كان ذلك في العام 1985م ، محمد محيي الدين شاعر له قدرة عالية على اختزال عوالم قصائده في عناوين كثيفة الشاعرية فلنتأمل معاً هذه العناوين التي إختارها لقصائد هذه المجموعة(المناديل ستأتي .. سفر أو مطر .. أتجدد فيك.. ذلك الطفل سوف يغني .. نجمة البحر .. الرحيل على صوت فاطمة .. التجول بين المزامير والموت في حديقة الذهول)

 

 

 


وتصدّرت هذه المجموعة مقدمة حول الخطاب الشعري السبعيني كتبها الأستاذ أسامة الخواض ، يقول أسامة الخواض عن (الرحيل على صوت فاطمة):
(حين نتحدث عن الرحيل على صوت فاطمة لمحمد محيي الدين نحاول إثارة قضايا وإبراز مفاتيح للخطاب الشعري السبعيني إذ أننا ننبِّه إلى التهميش النقدي الذي عاناه ذلك الخطاب إذ لا يتعدى حدود الإهتمام بمشروعه الإشارات المقتضبة في ثنايا الحوارات والمقالات إلى بعض الأسماء ومن هنا ضرورة ما أسمته (جوليا كريستيفا) باستكشاف الكهوف البلورية للنص، حيث يتداخل ما يهبط من السقف مع ما ينبت في الأرض)
( جاء فينا
زمان المحبة
عبر البنوك
وعبر الصكوك
مضى زمن الكلمات
البراءة
هذي مواقيت عرض البذاءة
فلتصمتي يا مزامير
وارتفعي يا حجارة
و اتسعي يا بنوك
الخيال جريمة
وأن القصيدة
في مهرجان الحديد
جريمة
وإعلان عشقي
لعينيك
يا خطفة البرق
عند الخريف الجديد
جريمة. )
يتداخل الشعر والمسرح في عالم محمد محيي الدين فبقدر ما يكون هو شاعراً متفجراً في اللغة والصورة الشعرية والبناء المعماري للقصيدة، يكون أيضاً كاتباً مسرحياً يسعى إلى ذلك مستفيداً من شاعريته. كما نلاحظ أن تجربة محمد محيي الدين المسرحية تجربة ثرّة دعمها بالدراسة في المعهد العالي للموسيقى والمسرح، كما له العديد من الدراسات عن المسرح نُشرت بالملاحق الثقافية بالصحف ومجلة الثقافة السودانية وهو إبان وجوده بالمعهد كان عضواً فعالاً في جماعة السديم المسرحية التي عرضت له مسرحية (مطر الليل، ومسرحية الرجل الذي صمت)، كما مارس محمد محي  الدين تجربة الإخراج المسرحي داخل جماعة السديم عبر إخراجه لمسرحيته (هبوط الجراد)، وله من المسرحيات (الرحلة)، (موت بالجملة)، وهذا النص سودنة لمسرحية الكاتب العبثي الفرنسي (يوجين يونسكو) (ليلة القتلة) ومسرحية (اللغز) وهي إعادة كتابة للمسرحية المعروفة (أوديب ملكاً) كتبها الكاتب المصري علي سالم وقام محمد محيي الدين بسودنتها (العيش)، مسرحية عن الشيخ فرح ودتكتوك ، قدم محمد محيي الدين نموذجاً متميزاً عن الإعداد المسرحي للرواية وذلك من خلال مسرحية (ضو البيت) عن رواية الطيب صالح عرضتها جماعة السديم المسرحية في قاعة الصداقة بعد إنتفاضة أبريل 1985م، من إخراج قاسم أبو زيد. يقول محمد محيي الدين عن علاقة الشعر بالمسرح، (يمكن الإستفادة من الشعر في تطوُّر شكل الكتابة المسرحية ولكن يجب أن يتم ذلك بدون تعمُّد، أي لايمكن لمجرد أنك شاعر أن تكتب مسرحية. فالعملية الفنية هنا تخضع في المقام الأول لمعرفتك بفن المسرح معرفةً توازي معرفة أن تكتب قصيدة، كما أني أرى أنه يمكن أن يتطور شكل القصيدة بالإستفادة من المسرح، بل من الموروث من الأشكال الفنية الأخرى من (كولاج، فلاش باك، طرق ووسائل المونتاج الزماني والمكاني). )
إن ميزة محمد محيي الدين ككاتب مسرحي تتجلى في قدراته على خلق لغة هي خليط بين الشعر والنثر وذلك من خلال العامية السودانية، لغة لها القدرة على إمتصاص الحدث الدرامي.
دائماً ما يمايز محمد محيي الدين بين شخصياته المسرحية من خلال مستوى اللغة ( نثراً، أو شعراً)، وكنموذج لذلك شخصية - (شيخ البشارة)، في مسرحيته (مطر الليل)
(( شيخ البشارة :- (وقت الليل يطول ويقسى
على شُفّع صغار وكُتار
000
حاضنين العذاب والجوع
وباكين بي قلب مقطوع
دموع زي المطر
نازل شديد مسموع
ده ما سمعتو؟!
(الوكيل) :- (قلت ليك يا شيخنا ....
(البشارة ):-( وقت الحر يخنق الناس
وتبقى الأرض نار وسموم
خدار الحِلة نشفان تَّبْ
وبِرْق الرحمة كملان تَّبْ
وناس الحِلة ودرانين
كبار وصغار
بنات ورجال
دموع بالحُرقة
تنزف دم
تسيل
تسقي التراب
وتشيل
مطر من الصباح لي الليل
ده ما عرفتو؟!) ،))
يقول محمد محيي الدين (تجدني أمزج بين المسرح والشعر وأحيانا القصة، ولي مجموعة قصصية بعنوان «الرجوع إلى ضاحية المطر» فقدتها ، على كل ، إنها وسائلي وأدواتي في تعرية القبح وجعل هذا العالم أجمل ما أمكن ذلك).
( فاجأتني الخناجر ذات قمر
كان أهلي البريئون يرتحلون
على ناقة
شربت من مياه التعاويذ
والتمتمات
وينتظرون على ربوة سكنتها
الخيول المجنّحة
الجن والساحرات
فاجأتني الخناجر
ذات نهار
كنت أسرق نار
لقافلتي ولأهلي
وسنبلة
آهـ.. عصفورة
فاجأتني الخناجر
لكن أهلي البريئين قد شنقوا
كلمات العصافير
في عمق ربابتي. )
يتحدث الأستاذ الناقد أحمد طه أمفريب في الحلقة الإذاعية المخصصة للشاعر محمد محي الدين في برنامج (فضاءات) من إعدادي وإخراج الأستاذ خطاب حسن أحمد في البرنامج الثاني الذي كان مخصصاً للثقافة ، يقول أمفريب (إن القول الشعري عند محمد محيي الدين لهو قول ينهض في الداخل المضئ مقابل إقامة علاقات مع عالم الخارج المظلم وهذه الثنائية، الداخل المضئ ، الخارج المظلم ، تشكِّل معظم بنية قصائد ديوان «الرحيل على صوت فاطمة» ، ينهض صوت الشاعر، صوت الداخل في علاقات تضاد مع قيم مؤسسة الخارج المسكون بالفجيعة، لذلك يتحالف صوت الداخل مع العناصر المكونة لعالم القهر، مؤسسة الخارج المأساوي، ومركز الرؤية التي يتحرك فيها القول الشعري لمحمد محيي الدين هو الإنكفاء على الداخل باعتباره الحقل الوحيد الصالح في خضم الخارج المتهالك، هذه السياحة في الداخل حددت حركة الصوت الشعري كصوت واحد ، إلا أنها لم تؤثر على ثراء اللغة المكتوبة، وفي قصيدته «التجول بين المزامير والموت في حديقة الذهول» يتحرك النص في موضوع أساسي وهو فجيعة موت الشاعر إدريس جماع وينطلق بعدها إلى حقول أخرى وثراءات صوتية ومشاهد مرئية متفاوتة أثرت المركزية الأساسية للنص دون تخطي المحورية الرئيسة التي يتحرك فيها القول الشعري).
( كان الذهول
بنفسجة
في جحيم المكان
وكان التجوّل بين المزامير
و اللون
نافذة في
جدار الزمان
فيا لحظة الخلق
عودي - تعالي
إلى النبض عودي
إلى النبع في داخلي
مزقيني
فوحدي إنطلقت
إنقسمت، إحترقت
فلا تهجريني، )
يعتير محمد محيي الدين من أدباء جيل السبعينيات البارزين الذين حاولوا التمرد على قيود وبناء قصيدة الستينيات، يقول محمد محي الدين عن شعراء جيله (أعتقد أن شعراء هذا الجيل، جيل السبعينيات، رغم الإحساس بالمأساة والفجيعة، ورغماً عن الحصار الثقافي المضروب خارجاً وداخلاً، قد تجاوزوا قصيدة الستينيات مبنى ومعنى. ويتمثل ذلك في أشعار عالم عباس ومحمد نجيب محمد علي وأسامة الخواض).
( فيا غابة
من عبير البنات
وصفصافة تتأرحج
بين زماني السجين
ونافذتي الفتحتها
يدان من الغيم
والإخضرار
أنزلي
واسكني في عروقي
أو انتفضي
بين أوتار قلبي
ولا ترحلي
واشهدي
كرنڤال العصافير
وهو يضئ المكان )
يضج العالم في أشعار محمد محيي الدين ، تهجره الظلال الشفيفة والعصافير، تتبعثر لغته في دروب المدينة، يغافل الموت، يأتي من رماد الرياح سارقاً نار لأهله، تهتز كل الدور، القرى تسكن في جداولها زمناً، يهرب طير الشواطئ حين يجئ القراصنة، السفائن ترحل ثم تجئ ، الحنين يقود أجنحة العاشقين إلى الوطن، تسقط الأغنيات وتسحقها الأحذية، يسقط الشعراء وتنمو العمارات الطوابق فوق الطوابق، المذلة تقبع في دروب المدينة، عصر الثلوج يغطي الشبابيك بالبرد، يستحيل العشق في زمن الجاهلية، الأهل البريئون يشنقون كلمات العصافير ولكن برغم قتامة هذا العالم ستأتي المناديل الوضيئة ويمضي زمن الرعب وينمو في العبارات الوثوق، وينشر الفجر ضياء الأمن ونشهد كرنڤال العصافير الذي يضئ الزمان، فينبت العشب في الليلة التالية ويسافر طير الشواطئ ثم يعود ولفاطمة القروية أن ترقص الآن..
(عشر لوحات للمدينة وهي تخرج من النهر) آخر ديوان لمحمد محيي الدين ضاع بين مخازن دار النشر جامعة الخرطوم وذلك بعد أن تمّ ابتذال دورها المميز في الطباعة والنشر وهذا الديوان يعتبر نقلة نوعية في قصيدة محمد محيي الدين إذ أنه اتحه نحو القصيدة السيناريو إذا صح التعبير.
قلت لمحمد محيي الدين وكان ذلك من ضمن حوارات كثيرة وحميمة معه حول الشعر:(هل يقلقك هاجس أن تتجاوز نصك المنجز)؟
(أنا قلق بطبعي، لا أحب السكون، أحب الحركة وكل ما هو متفجر ومُضاء، لا أحب العتمة ولكني أستطيع أن أرى خلالها، لكل ذلك أفكر كثيراً قبل وبعد أن أكتب)
هل ترى أنك خرجت على ما كتبت سابقا؟
(يتعبني كثيراً أن أكرر نفسي، لذلك أقول إنه هاجس كبير، هاجس أن تتجاوز نصك المنجز.)
- لذلك أتساءل، لماذا يصمت شاعر متميز مثل محمد محي الدين؟
- هل أضعت التميمة يا محمد؟، تلك التميمة التي تحرض على الشعر؟
- هل أصابتك لعنة النثر المترهل وأنت تجابِه عالماً يومياً مكروراً وخالياً من الشاعرية؟
- أتمني أن يخرج محمد محيي الدين عن صمته الشعري وأقول له:
( أهجر الحضن
الذي لا يحتويك
واترك الوعد
الذي لا يشتهيك
وانظر الساحة ليلاً
فجأة
يندفق الشوق
ويهتز الوتر
يصطفيك العشق
صدقاً
تحتوي نجمك
تأتيك
المناديل الوضيئة)