من الوزارة لسجن كوبر للعالمية

من الوزارة لسجن كوبر للعالمية التشكيلي السوداني العالمي ابراهيم الصلحي : لا فرق بين المحلية والعالمية في زمن العولمة حوار - محمد نجيب محمد على شارك في تنفيذ الحوار هشام محمد على بلندن عام 2007 يعتبر إبراهيم الصلحي من أعمدة الفن التشكيلي العربي الأفريقي الحديث في العالم, و تحتفي اشهر متاحف الفنون العالمية بلوحاته التى زاوجت ما بين التراث والمعاصرة.

من الوزارة لسجن كوبر للعالمية

من الوزارة لسجن كوبر للعالمية

التشكيلي السوداني  العالمي ابراهيم الصلحي :

 لا فرق بين المحلية والعالمية في زمن العولمة

حوار - محمد نجيب محمد على

شارك في تنفيذ الحوار هشام محمد على بلندن عام 2007

 

 

يعتبر إبراهيم الصلحي من أعمدة الفن التشكيلي العربي الأفريقي الحديث في العالم, و تحتفي اشهر متاحف الفنون العالمية بلوحاته التى زاوجت ما بين التراث والمعاصرة. كان ميلاده في شهر سبتمبر/أيلول من عام 1930 بمدينة أم درمان, حيث أكمل مراحل تعليمه الأساسية كلها بمدارس السودان بدءا من الخلوة، حتى كلية غردون التذكارية ومعهد الخرطوم الفني، لتستمر رحلة حياته وإبداعه بين عدة عواصم عربية ليستقربه المقام في عاصمة الضباب. إحتشدت حياته بتجارب عديدة ساقته عام 1975 حين كان يعمل وكيلا لوزارة الثقافة والإعلام لسجن كوبر إثر إنقلاب حسن حسين والذي أمضي فيه ( ستة أشهر وثمانية أيام حسوما ) حسب قوله .. وكان لهذه التجربة أثر كبير في حياته ..

 

-الأستاذ الصلحي أنت من أسرة إكتسبت شهرتها من الفنون ، إبراهيم الصلحي ، سعدية الصلحي ، وعربي الصلحي .كيف تفسر ذلك ؟

يقال أن لكل مجتهد نصيب، والتوفيق بيد الله

-نلج إليك من باب السيرة الذاتية والأسرة ؟

قصة السيرة الذاتية هذه يا استاذ قصتها طويلة لكونها مشوار حياة لم ينتهي بعد، وقد شرعت في تدوين أجزاء منها على مراحل كأوراق ذكريات، وكان ذلك مباشرة عقب الافراج عني من سجن كوبر في السادس عشر من شهر مارس عام 1976م. بعد قضاء ستة أشهر وثمانية أيام حسوماً. فبدأت التدوين عظة للنفس حتى لا تنسى، والذكرى تنفع المؤمنين، وآمل إن مد الله في الأجل أن أواصل الكتابة فيها كلما اتيحت لي فرصة من مشاغل الدنيا الفارغة أم قدود، وما اكثر ما فيها من قدود فارغة مقعدة، لا يقدر على سدّها إلاّ صاحب الوداعة يوم يإذن باسترداد وديعته، واليك صوة موجزة عنها:-
- ولدت بمدينة أم درمان في الخامس من شهر سبتمبر سنة 1930م.
- اكملت مراحل تعليمي الاساسية كلها بمدارس السودان، بدءاً بالخلوة، فمدرسة الأحفاد الأولية وأم درمان الأميرية، ثم الوسطى بالاهلية ، والثانوية أخيراً بوادي سيدنا.
- التحقت بمدرسة التصميم بكلية غردون التذكارية وبمعهد الخرطوم الفني.
- عملت لبعض الوقت مدرساً للفنون بمدرسة وادي سيدنا الثانوية، ثم بالمعهد الفني.
- ابتعثت للدراسة بمدرسة الاسليد بجامعة لندن، عدت بعدها للتدريس بكلية الفنون.
- اتيحت لي خلال فترة التدريس بكلية الفنون فرصتان لزيارة الولايات المتحدة الأمريكية من خلال منحتين دراسيتين من قبل منظمة اليونسكو أولاً، وأخرى من مؤسسة روكفلر الامريكية عام 1962م . و64-1965م. على التوالي.
- انتدبت في نهاية سنة 1969م، للعمل كمساعد للملحق الثقافي بسفارة السودان بلندن.
- استدعيت عند منتصف 1972م. لشغل وظيفة مدير لمصلحة الثقافة بوزارة الاعلام، إلى جانب القيام بادارة مهام المجلس القومي لرعاية الآداب والفنون.
- تم تكليفي للقيام بتحمل اعباء وظيفة الوكيل الدائم لوزارة الثقافة والاعلام.
- جرى وضعي في ضيافة الدولة بكوبر خلال الفترة:8/5/1975-16/3/1976م.
- عملت كخبير استشاري بوزارة الاعلام في دولة قطر من سنة 1977م الى سنة 1982م.
- تم تكليفي من قبل منظمة اليونسكو للقيام باعادة تنظيم وزارة الاعلام بالصومال سنة 1984م.
- تم استدعائي للعمل مرة أخرى بدولة قطر، بدءاً بوزارة الإعلام، ثم بالديوان الاميري وذلك خلال الفترة 86 - 1998م.
- بدأت في أغسطس عام 1998م. التفرغ التام للعمل التشكيلي بمدينة أوكسفود بالمملكة المتحدة.
- ارتبطت منذ منتصف سنة 2005م. ببرنامج تبادل خارجي كاستاذ زائر بجامعة كورنيل بالولايات المتحدة الأمريكية، ولمدة عامين، يختص بأرشفة كافة أعمالي التشكيلية إعداداً لاقامة معرض استعادي يتنقل بعدد من المتاحف الأمريكية بدءاً بمتحف الفن الافريقي بمدينة نيويورك في سنة 2010م.

 

 


أما بشأن الأسرة، حيث يتجذّر الإنسان وتمتد فروعه، فلي والحمد والشكر لله من الأبناء خمسة هم: محمد سامي، وعثمان، وعمرو، وزكريا، وزين العابدين، ولي من البنات ثلاثة هن: ليزا وريّا وشامة، وقد تنوّعت وتباينت تخصصاتهم العلمية والعملية، كما اختلفت اهتماماتهم الفردية بين علوم النفس، والاجتماع، والاقتصاد، والعلاقات الدولية إلى جانب فنون الرسم والتصوير، والطباعة الملونة، والموسيقى، ويقيم اغلبهم في بريطانيا، أما بلندن أو معي بمدينة اوكسفورد، فيما عدا ابنتي الكبرى ليزا التي تقيم مع افراد اسرتها بمدينة نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية.
ولي من الاحفاد حالياً سبعة، خمسة منهم ذكوراً، وحفيدتان ظهر لهما نبوغاً مبكراً في مجال الرسم والتلوين ونظم الشعر الغنائي، كما برز من بين الاحفاد لاعب كرة قدم موهوب، وبرع آخر في علم الحساب والرياضيات، وقد اختير ضمن فريق من الصبية الموهوبين البريطانيين لزيارة مركز ناسا بالولايات المتحدة، واصغر احفادي لازال طفلاً رضيعاً في حجر أمه.

-لماذا كان إختيارك لندن وأنت من مدرسة الخرطوم ؟


تسألني ببساطة لماذا اخترت لندن، وأنا من مدرسة الخرطوم؟!!، هذا يا صاحبي سؤال مركب، ليتني استطيع الاجابة عليه بسهولة وقد أثار في نفسي كوامن شجن بمسدار قديم يقول مطلعه:
(الليلة الصعيد جاب الهبوب مقلوبة
 طرّاني الأهل والجلسة في الراكوبة)
 ويا حليل أيام زمان، لكن ما باليد حيلة، وقد تغيّر المكان والحال والزمان، وأتت الرياح بما لا تشتهي السفن.
أتدري اني كنت قد قرّرت عقب خروجي من مجلس كوبر أن لا اغادر السودان مهما حدث لي فيه، ولا يخفي عليك أن العمل التشكيلي لا سوق ولا رواج له حينذاك في السودان، ولعله كذلك حتى حينه، فسعيت بطبيعة الحال لايجاد وسيلة اتدبّر بها أسباب معيشتي في البلاد، فقمت بتأسيس شركة تجارية محدودة، ولم يكن لي أدنى سابق معرفة بالعمل التجاري أو خبرة عملية باساليب التعامل في السوق، الظاهر منها والخفي، فنصحني صديق بقوله لي(يازول حاسب، ومالك ومال المرمطة دي، تماسيح السوق بتبلعك، وما بتدّيك فرقة) . وفعلاً وجدت في محك العمل نمور شجر ضارية، همها التهام لقمة العطاء المطروح قبل أن يعلن عنه، فنفضت يدي وطرفي حتى لا أجد نفسي في جوف تمساح لا يشبع من جوع دائم، وغادرت البلاد هرولة فور استلامي لدعوة كريمة وصلتني من الخارج، وكان للظروف كما تعلم احكامها.
ومن ناحية أخرى فإن الأرض كلها، وبما رحبت فهي أرض الله، واسعة، وأن علينا أن نسعى في مناكبها، ولهذا فلا أرى فرقاً بين مكان وآخر إلا بقدر ما يوفره هذا المكان أو ذاك للفرد منا، من امكانات وبراحات انسانية، وحقوق مصونة لا يعتدى عليها، وحريّة في التحرك والتعبير، والأمر في هذا كله متروك لاقرار الفرد، وفق اختياره وحسب مدى طاقاته واهدافه في الحياة، وكلنا يعلم أن الذاكرة البشرية تختزن في طيّات ذاتها تراثاً انسانياً زاخراً بصور الحياة، ولها بعون الله من القدرة ما يعينها على تفجير طاقات ذاك التراث، اينما سار به الانسان أو توجّه.
ومع ذلك فللوطن الأم، حيث رأي الواحد منا النور لأول مرة، وأنس في ربوعه حنان وعطف الوالدين، وقرب رفاق الصبا والجيرة والأهل ، ودفيء العشيرة ، وطيب قيمها الموروثة، مذاق خاص لن ينسى طعمه، مذاق يثير في نفس المحب لواعج الشوق كلما مرّت بالخاطر نسمة من هبوب الصعيد، وبالعين دمعة تترقرق.

-فى مدرسة الخرطوم عملتم على المحلية كيف تعيد قراءتها وكتابتها فى زمن العولمة ؟


المحلية في نظر هي ما تتميز به فئة ما عن غيرها من الناس، بما لها من قيم وخبرات انسانية معينة، كما أن استقراء التراث ما هو إلا بحث فاحص بنظرة ثاقبة يرمي إلى استقصاء القيم والخبرات الانسانية المتراكمة عبر الزمن، ويهدف اساساً إلى استنباط الجديد الذي هو من قديمها، بحيث يواكب الحاضر، ويفي بالحاجة الراهنة.
ولهذا فاني لا اعتقد أن الاهتمام بالمحلية أو الرجوع إليها كمسند عملي أو مرتكز ثقافي، أنه نكوص وردّة وتقوقع متحجّر في زمن العولمة، التي تعني بانفتاح العالم على بعضه بعضاً، علماً بأن المسألة كلها ما هي إلا مجال أخذ وعطاء، اثراءً لحصيلة البشرية من العلم والمعرفة، دون تكرار مميت.
ولدينا بالسودان أمثلة حيّة لهذا المنحى، خذ مثلاً كاتبنا الكبير/ الطيب صالح، إنه قد مزج بين العربية الفصحى والدارجة السودانية، مما اكسب كتاباته في رواياته العديدة روعة ونكهة منعشة، لم تقلل من شأنه ككاتب يشار اليه بالبنان، لا في العالم العبي فحسب، بل على نطاق العالم أجمع، وترجمت اعماله إلى العديد من اللغات العالمية.
وكاتب آخر على سبيل المثال لا الحصر، كابراهيم اسحق، وكتابه (حدث في القرية)الذي اعتمد فيه اساساً على لهجة محلية بحتة من غرب السودان، ظهر من خلالها عظم فكره وخبرته كقاص مبدع.
وفي مجال الفنون التشكيلية هنالك الفنان الكبير الاستاذ/ أحمد محمد شبرين الذي يعود إليه الفضل الأكبر في تغيير مفهوم الصورة البصرية في إطار مدرسة الخرطوم، في اوائل الستينات، حيث ركّز على الحرف العربي كخامة تشكيلية شيّد بها تقنياً صرحاً ابداعياً لا يضارع في مجال التعبير الحروفي، عرف باسمه في محك الفن العالمي.
دعني أقول بنهاية الحديث أن لا فرق في الاصل بين المحلية والعالمية في زمن العولمة، إذ كلاهما وجهان لعملة واحدة، اساسها وديدنها الفنان المبدع.

-ماذا تقول عن الجيل الذي أتى من بعدكم ،والموجودين حاليا فى اوروبا ،إسلام زين العابدين مثلا ، هل من إضافة تراها ؟


ماذا يمكنني أن اقول سوى كان الله في عون الجيل الذي أتي من بعدنا من المؤمنين بقضية الفن، وبضرورة العمل على اثبات وجودهم كمبدعين بعيداً عن ارض الوطن، وهم بين نارين يكتوون بهما في آن واحد، غربة أولى وجدوها بالسودان، حيث لا مكان فيه لرسالة الفن في بناء وتطوير المجتمع ، وبين أخرى بعيداً عنه في جو بارد ورطب لا يرحم. وما لهم من مخرج إلا بالصبر إلا أن يأتي الفرج. لكن هنالك ميزة توفرها قوانين الدولة للمغترب المقيم باوربا، وهي أنه لا يموت جوعاً، ولا يفتقد دواءً اذا مرض، ولا يعدم سقفاً فوق رأسه يأويه.

-كيف يرسم الأستاذ إبراهيم الصلحي السودان الآن ؟


كنت أشير اليه فيما سبق بلون تراب الأرض ، وبلون المغر الأصفر والأحمر، ومنذ سنين مضت ، وإلى حينه، فقد ركّزت على فكرة شجرة الحرازة، التي يحكي أنها قد حاربت المطر، رمزاً منى لانسان تتمثل فيه قوة الشكيمة، والاصرار على الحياة رغم فظاعة الظروف وقسوة الطبيعة والجفاف والتصحر، واستخدم بدل الداكن من الوان التراب، ألواناً برّاقة تحاكي في رونقها نضارة نوّار البرم، وأزاهير اللوبيا على ضفاف نهر النيل، بشارة بروح الأمل.

-حين كنت وكيلا لوزارة الثقافة ، يروى الكثير عن الذي جرى لك على أيام النميري وإنقلاب الشهيد حسن حسين . ماتفاصيل ماجرى ؟


ما جرى لي حينما كنت وكيلاً لوزاة الثقافة والاعلام كثير، وأحمد الله على أن مكنني من التخلص بمرور الزمن مما ألمّ بي في أواخر عهدي بتلك الوزارة من مزلة ومهانة، فعفا الله عما سلف، وهو قد قدّر ولطف.
أتذكر انني كنت طوال فترة قيامي بتحمل أعباء تلك الوزارة أهتم كثيراً بالتنظيم الإداري، ونظراً لضخامة الأعباء الملقاة على عاتقي، كنت أحضر مبكراً صباح كل يوم إلى الوزارة، قبل وصول العمال والفراشين المكلفين بتنظيف المكاتب، وكثيراً ما كنت أقضي ليالي الخميس ونهار الجمعة بالمكتب حتى انظر في الأمور العاجلة بالملفات العديدة التي كانت ترفع إلى من قبل الادارة العامة بالوزارة. وانقطع بذلك حبل نشاطي الفني. وما كان لي من نشاط آخر سوى قيامي باعداد وتقديم برنامج( بيت الجاك ) بالتلفزيون وذلك دون وجود فريق عمل استعين به على اجراء البحوث والاستقصاءات اللازمة والجري بين المراكز الثقافية الاجنبية لاستلاف المواد اللازمة للعرض، الأمر الذي استنفد قواي الجسدية، وحملت يوماً مغشياً علىّ من المكتب إلى المستشفى الخرطوم لاسعافي واجراء العلاج اللازم لي.
واتذكر أن الشيء الوحيد الذي استفدته طوال فترة عملي كوكيل للوزارة، كان انتظامي في دوة تدريبية اعدّتها اكاديمية العلوم الاداية السودانية للكوادر القيادية العليا، دعى إليها كافة وكلاء الوزارات المختلفة، ومن كان على درجتهم من رجال القوات النظامية والمؤسسات العامة، افدت منها كثيراً إذ كشفت لنا بجلاء عيوبنا كقيادات ادارية عليا في البلاد، وقد تبيّن لنا بالتجربة الفعلية أننا نعاني من عدة نواقص اساسية في نفوسنا، مفادها بداءة أننا أناس غير متعاونين، وثانية أننا مدمرون للذات، وأخيراً وليس آخراً أن لا ادراك لدينا لأهمية عامل الاستمرار في مواصلة البناء بالاستناد إلى تجارب النجاح السابقة. وذلك ما دعاني إلى القيام باعادة تنظيم الوزارة على نسق جديد: يتحقق بموجبه التعاون التام بين الوحدات العاملة مع  الاستفادة القصوى من الموارد والامكانات المتاحة، كثرت أم قل معينها، ورأيت تبعاً لذلك تعديل مسمى الوزارة إلى الثقافة والإعلام، على إعتبار الثقافة كأصل ، والإعلام وسيلة لها فاعلة.
كما أشرفت ، مستعينا بكوادر الوزارة الإدارية، إضافة إلى خبير من وزارة الخدمة العامة والإصلاح الإداري، على إعداد هيكل تنظيمي متكامل ، مع توصيف وظيفي مفصّل لجميع مصالح وإدارة وأقسام ووحدات الوزارة المختلفة.، وما فرغنا من ذلك كله، وكنا على وشك تقديم مشروع إعادة التنظيم، بخطاب تغطية أعددناه بإسم الوزير لرفعه إلى رئاسة مجلس الوزراء حتى وقعت الواقعة، صبيحة يوم الجمعة الخامس من شهر سبتمبر عام 1975م. يوم كان بغريب الصدف، يطابق تاريخ يوم ميلادي، وبلوغي الخامسة والاربعين من عمري.
يومها كان معي ضيوف من أصدقائي يقيمون معي بالمنزل، اصرّوا على في الليلة السابقة، ورغماً عن أني كنت أعاني من انفلونزا حادة، بأن أصحبهم إلى حفل موسيقي تقيمه فرقة شرحبيل على سطح عوّامة بالنيل الازرق، عدنا منه قبل الفجر بقليل. وفي السابعة صباحاً أيقظني أحد ضيوفي قائلاً لي أن انقلاباً عسكرياً قد وقع، فلبست ملابسي على عجل، وتوجهت كالمعتاد إلى مكتبي بالوزارة، رغماً عن حالتي الصحية، وظناً خاطئاً مني بأن الوضع (بزينس آز بوزوال) ولم أك أدري أن الحال يستدعي الاختفاء تماماً عن الأنظار، كما إعتاد أن يفعل كبار موظفي الدولة إلى حين انجلاء الموقف، بينما كان الأمر بالنسبة لي سيان ، جمعة يومها كان أم لا جمعة، بحكم عادتي في العمل.
وفور وصولي إلى الوزارة جاء إلى مكتبي بضع شبّان طلبوا مني السماح لهم بأخذ عربات المخاطبة الجماهيرية، وإنصرفوا حين أخبرتهم بأن ذلك من إختصاص الوزير، ثم جاءني فوج آخر، علمت لاحقاً أنهم من اتحاد شباب السودان، طلبوا نفس الشيء، ورددت عليهم بمثل ما ذكرته من قبل، علماً بأن العربات موجودة بساحة حوش الإذاعة بام درمان، والتي كانت في قبضة الانقلابيين، فانصرفوا عني ثم عادوا مرة أخرى حينما فشلت الحركة الإنقلابية وبصحبتهم أستاذ من جامعة أم درمان الاسلامية، إعتدوا علىّ بالضرب وتمزيق ملابسي، وحاولوا أخذي إلى السجن، وشهر واحد منهم مسدساً في وجهي قائلاً لي أنه سيطلق النار علىّ في مكتبي ويرديني قتيلاً إن قاومتهم، ما أنقذني من زمرتهم إلاّ حضور الوزير السابق بصحبة نائب الرئيس، اللذين طلبا إليهم عدم التعرض إلى بسوء. ولكنهم ظلوا معي بالمكتب بعد إنصراف الوزير السابق ونائب الرئيس، وبعد حين من صمت حائر.، طلب إلىّ استاذ الجامعة الاسلامية ورئيس اتحاد الشباب مرافقتهما إلى رئاسة الاتحاد الاشتراكي السوداني، فقلت ، لنجد الدار خاوية وقاعاً صفصفاً، لا بوّاب ولا حارس يحرسها. عندها لن أنسى ما حييت ما إرتسم على صفحة وجه أستاذ الجامعة من حيرة وضياع، رثيت لحاله، وهو يسير بلا هدف ظاهر متجهاً شرقاًعلى طريق الجامعة، لا يلوي على شيء، بينما إتجه شاب الإتحاد منطلقاً جنوباً نحو سوق الخرطوم، وكلاهما قد نسيا أمري، فعدت أدراجي إلى مكتبي بالوزارة، رأسي يطن، يكاد ينفخر، وبعيني اليمني فص أحمر يحجب عني الرؤية، تبيّن لاحقاً أنه من أثر ما أصبت به صبحاً في حرم الوزارة من خبط على أم رأسي بعود غليظ من شجر النيم كان يحمله أحد من إعتدى عليّ.
بعد ثلاثة أيام من ذلك جاء إلى الوزارة من يطلبني لمقابلة رئيس جهاز الأمن العام فحاولت الإعتذار متذرعاً بإنشغالي حينها في إعداد تقرير لازم رفعه إلى الوزير، فقيل لي أن الوزير على علم مسبق بطلب الإستدعاء، وكلها دقيقتان وأعود إلى عملي، فذهبت لأجد نفسي، وأنا صائم ، قد زج بي في زنزانة قذرة تفوح منها روائح نتنة من بول وإستفراغ. وعند الرابعة عصراً أخذت في عربة مغلقة بلا نوافذ إلى سجن كوبر، حيث مررت بداءة عبر بوابة كتب بأعلى واجهتها: (ادخلوها بسلام آمنين)وتحتها عبارة أخرى تقول(ولا تقنطن من رحمة الله) بعدها مررت بعدّة بوابات أخر. أوصلتني إلي الزنازين الشرقية، حيث رحّب بي من سبقني اليها بقولهم لي(الحمد لله لك على السلامة، يا الصلحي). فاحترت، أي سلامة بعنون؟!! وأنا معتقل . تبيّنت من جملتهم استاذاً للفلسفة بجامعة الخرطوم، وواحداً من كبار المحامين في السودان، وإعلامياً مقتدراً أعرفه بالوزارة، وغيرهم من معتقلين آخرين، كانوا جلوساً على بروش مدّت في ظل زنازين مظلمة داكنة يغطي الطحلب أرضياتها الرطبة، ومجرى ماء آسن يمتد على طول صف زنازين عشر بكل جانب، وهم في أمان يقرأون القرآن.
قضيت يومين بأرض تلك الزنازين الشرقية إلى حين فراغ سلطات الأمن من إجراء الفحوصات اللازمة للمعتقلين، نقلت بعدهما إلى زنزانة الكرنتينة (أ)، حيث بقيت إلى يوم أن أفرج عني، وكان ملؤها عشر معتقلين، نومنا فيها أرضاً على بلاط أسمنت وحول أجسادنا نمل وبعوض السجن، وما من أثاث بها سوى جردل دائم الطفح وزير للماء.
لن أنسى يوم مجيء مدير عام السجون لتفقد أحوال المعتقلين، وقد إعتاد زيارتنا مرة كل شهر، وكان علىّ الدور لطلب شيء من البصل، والبصل في المعتقل بمكانة إكسير للحياة، والشفاء من كل سأم وداء، علماً بأن لا قدرة للواحد منا على إبتلاع لقمة من طعام تعافه النفس، يقدّم لنا بالسجن أيامها، إلاّ أن كانت رائحة شيء من بصل لصق الأنف. وحينما كرّر مدير عام السجون قبل إختتام زيارته، إن كنا نريد شيئاً؟ صعب علىّ أن أطلب بصلاً بدلاً عن أن أطالب بحقوق الانسان، فلكزني من سبقني في الطلب، حتى قلت بصوت لم أصدق أنه خارج من حنجرتي(سعادتك، نريد شيئاً من بصل)فجيء لنا ببضع بصلات، أخذت شقفة من واحدة منها، وزرعتها تحت زير الماء لأرى شيئاً أخضر، وحينما نمت، أسماها رفاق المعتقل (جنينة الصلحي).
هذا يا صاحبي نذر يسير مما جرى لي كوكيل دائم، والدائم هو الله، ناهيك عن كثير من كثير لحالات القلق والإكتئاب والدبرسة التي أصبت بها وقتذاك من جرّاء التعذيب النفسي وتحقيق مستمر معي برئاسة الأمن طوال شهر بحاله عند بدء إعتقالي، إذ كنت استدعي يومياً قبل موعد الإفطار بقليل وأساق إلى رئاسة الأمن بالخرطوم ، حيث أبقى بزنزانة ، لا اعاد منها إلى كوبر إلا قرابة وقت السحور، وأسئلة رجال الأمن لعلمك رتيبة تتكرر، ولا أحد منهم يريد ان يصدّق أن لا دخل لي بما حدث في حركة انقلاب 75 وأني ما كنت أدري على الإطلاق أن إبن عم لي هو الذي قاد تلك الحركة إلا لاحقاً عقب افشالها.
وأكثر يوم قلقت فيه بحق وحقيقة كان حين رأي رفيق لي بالزنزانة إكثاري من التساؤل عما أودي بي إلى ذاك الوضع فقال لي(يا فلان أراك قد أكثرت من أو ولو ، فدعني أنصحك لوجه الله، دع عنك هذه اللولوة، وأعلم أنك فلان إبن فلان إبن فلانة، قد كتب لك في اللوح المحفوظ، قبل أن تولد، وقبل أن يخلق هذا العالم الذي نحن فيه، بأنك ستدخل كوبر وستبقى فيه إلى أن يأذن الله لك بالإفراج )وذكرني بما حدث لسيدنا يوسف في السجن، ولسيدنا موسى بأربعين سنة في وادي التيه، ثم أردف قائلاً لي (ولتعلم أن هذه هي إرادة الخالق، مدبّر الإمور، فهل تقبلها أم لا؟!!). وتركني بذاك السؤال في حيرة من أمرى، وفي قلق ممض، علماً بأن عقلنا البشري القاصر لا يستوعب غي المرئي الملموس المحسوس، ولا يدرك ما غاب عن العين وعن الذهن بسهولة. فقضيت يومين في قلق قاتل أتفكر، حلّت بعدهما الطمأنينة في قلبي، ورضيت.
وقد تألمت كثيراً حين تكشفت لي حقيقة أفراد كانوا يعملون معي بالوزارة، كنت أظنهم من الأخيار ، أفادني بعض رجال الأمن من خلال التحقيق بما أشاعوه عني ، وأدلوا به من أكاذيب إفتروا فيها بأني كنت في دار استأجرتها بإمتداد ناصر، أخليتها قبل عام مضي، أختزن دبابات، ومدافع بازوكا وأسلحة وذخيرة لا حصر لها، كما زعم آخرون مؤكدين بأني كنت في اجتماع مع قادة الإنقلاب ليلة وقوعه، وزعم بعض آخر أنني لست اصلاً بسوداني، وغير هذا كثير.
من المدهش حقاً في هذه الحياة أن ليس هنالك من وضع ما، مرغوباً كان أم غير مرغوب فيه، إلا وله جوانب أخرى طريفة حقاً، وأتذكر بهذا الخصوص ما جرى بعد الإفراج عني، وتبيّن لي أني كنت موضوعاً تحت مراقبة منزلية، إذ كان هنالك من يصعد على عمود تلفون أمام باب بيتي ويظل معلقاً فيه صباح كل يوم، متظاهراً بإصلاح أسلاك التلفون، وعينه على داخل بيتي وعند منتصف النهار يخلفه آخر بعربة فولسواجن، يرقد تحتها وكأنه يصلح عطباً في أسفلها، وعينه كذلك على البيت، وبمرور الأيام صرت اترك باب البيت مفتوحاً حتي لا أحرمه من أداء مهمته الرسمية بمراقبة الداخل والخارج من الدار. وخطر لي يوماً، وقد إزداد حر الصيف أن أدعوهما الى داخل البيت حتى أعد لهما قدحاً من ليمون بارد: او كوباً من شاي، فاعتذرا بلطف قائلين لي (والله يا عم، انت عارف لو الدورية جات، وما لقتنا في مواقعنا ، بعدين ما بحصل خير)فكنت أعد اللازم وأقدمه لهما خلسة بعد التأكد من خلو الطريق من الغاشي والماشي.
ومرّت اشهر، طلب إلىّ بعدها إخلاء المنزل الحكومي الذي سبق أن استولت عليه الدولة لسبب ما من أصحابه، فاستأجرت بيتاً بشرق حي بانت بام درمان، لم يكن أمام بابه الخارجي وللأسف عمود تلفون أو كهرباء ، وبذلك صرف النظر عن صاحبي مهندس أسلاك التلفونات، بينما واظب ميكانيك الفولسواجن الهميم على الحضور يومياً في موعده المعتاد، ولكنه إضطر مع شدّة إنحدار الطريق أمام بيتي إلى إيقاف عربته على الجانب الآخر منه، والشارع كان عبارة عن خور عريض منحدر الجانبين، فخفت على عربته من أن تنقلب على صفحتها اليسرى في المطرح الذي إختاره لايقافها فكنت أخرج للإطمئنان عليه وعلى عربته الرسمية، وللونسة قتلاً للوقت، وإفتقدته كثيراً يوم يئس رؤساؤه من جدوي مراقبتي، ولعلهم أحالوه بعدم الجدوى إلى مراقبة جهة أخرى، الله أعلم بموقعها. .
وآخر لم أعرفه من قبل، جاء ذات يوم يجري خلفي حتى لحق بي، وأنا بمحطة الخرطوم الوسطى وكنت في طريقي إلى سفارة دولة قطر بإمتداد الخرطوم، لإستخراج تأشيرة دخول لازمة لسفري إلى الدوحة، سمعته يناديني بالاسم(يا فلان، يا فلان، سمعنا انك مسافر، أحسن ما تسافر يا أستاذ. الرئيس ناوي يعمل تعديل وزاري، وعاوز يعيّنك كذا وكذا) فقلت له(ابعد كوبر ومراقبتي يومياً بالمنزل؟!!). فقال(لا ، دي كلها كانت في صالحك، ما ضدّك يا استاذ)عندها جاهدت نفسي حتى لا أنفجر ضاحكاً في وسط الخرطوم، وقد خطرت في ذهني ساعتها فكرة خلع العمة من رأسي لأريه خلو الهامة من قنبور نديهة. المهم شكرته على تعبه، وطمأنته بأن فترة غيابي قصيرة لن تطول. وهكذا كانت الأمور تسير يوماً أمر، ويوماً آخر نضحك على الزقون.

 

 


-نميرى يحتفل بأعياد مايو وهو خارج السلطة . ماذا تقول ؟


أقول، إيماناً مني بمبدأ حقوق الإنسان . أن له كامل الحق كما لغيره، في أن يعبّر عن نفسه بالطريقة التي يراها، ولأن يحتفل بما شاء، وكيفما شاء ، علماً بأن تلك حريّة لابد تكفل للجميع دون اي حظر كان. فليحتفل ، أكان في سلطة ما، أم كان خارجها، بما مضى ولا زال يراه إنجازاً تحقق في زمانه، وأنا، رغماً عما أصابني في عهده من ظلم وهوان ومزلة. فلا أحمل له في قلبي مثقال ذرّة من حقد أو ضغينة، بل لازلت أراه، والرجل ود أم درمان، قد سعى جاداً للإصلاح، ولم يكتب له في نهاية الأمر التوفيق ، وهو بيد الله.

-(بيت الجاك )برنامج كنت تعده وتقدمه بتلفزيون السودان ، كان البرنامج متميزا حتى فى تقديمه ألا يمكن أن يعود ؟ وكيف تنظر لشاشة تلفزيون السودان الآن ؟


في ظني ان عودة برنامج بيت الجاك غير ممكنة، والأسباب كثيرة وقد طال العهد بين مرحلة التمهيد الذي كنت أجريه، وبين ما كنت أرمي اليه من خلال ذلك البرنامج والذي كان بمثابة (قيدومة)لمشروع بحث إستكشافي على الهواء مباشرة، أتعرف به على مدى إستعداد جمهور مشاهدي التلفزيون على التفكر الموضوعي بالقاء نظة فاحصة ومنقبة داخل ذواتنا بشمال السودان على وجه الخصوص، آملاً في كشف الغطاء.
أما بخصوص شاشة تلفزيون السودان، فهي حسب ظني بخير، رغماً عن كونها جهازاً حكومياً تحكمه بالطبع ضوابط حرمته من حرية التعبير، ومعالجة الإمور، العام منها والخاص، بالصوة اللازمة والعاملون به معذورون.

-لك  إسهامات فى ( دومة ودحامد )و(نار المجاذيب )تشكيلية ، الآن لم يعد التشكيل يشكل حضورا فى كتبنا السودانية . لماذا ؟


لا أدري حقيقة أبعاد عدم حضور العمل التشكيلي في كتاباتنا السودانية، كما تقول.. والذي كنت أعلمه فيما سبق أن مفهوم النشر عندنا كان قاصراً على عمليات الضبط التحريري وتصحيح النص والإشراف على عمليات طباعته، ومن ثم التوزيع، وكثيرا ما كانت المطبوعة ، والأدبية منها على وجه الخصوص، تصدر (يابسة كرو) خالية من أي اثر لإمتدادات تشكيلية موازية ،وما بها من تصميم فني يذكر الا على واجهة الغلاف، إن وجد. فهل يرجع السبب في ذلك أساساً الى الناشر الذي يتحكم وحده في حجم المطبوعة ، وفي عدد صفحاتها وما تحويه، وتقدير نفقات الإنتاج، مع إحتمال عدم إدراك منه لقيمة العمل الفني، أم أن مرد ذلك يرجع الى عزوف الفنان المصمم عن تبديد جهده هباءً منثوراً ، دون عائد مادي، كما كان ولازال الحال مستمراً، أم أن هنالك أسباباً أخرى؟!! لا أدري.


-ماهو سر إهتمامكم بشجرة الدوم ؟

(شجرة الدوم،) و(دومة ود حامد) من إهتمامات أخي الصديق الراحل الكاتب الاستاذ/ الطيب صالح، أمد الله فى عمره ، وابقاه ذخراً لنا، فلا دخل لي بتلك الشجرة لا من قريب أو بعيد إلا رسماً، بينما تجدني أهتم كثيراً بشجرة الحرازة التي يروى عنها أنها حاربت المطر، والتي إتخذها في أعمالي الراهنة رمزاً للانسان السوداني البدوي الرعوي الأغبش، الزارع المتوكل على الله الحاصد، الصامد الصابر، عفيف النفس القنوع المتفرد.

-عثمان وقيع الله زميل الشتات ، وكتابة الحرف العربي في التشكيل ، كيف هي العلاقة بين الذكريات والروي ؟


طيّب الله ثرى أستاذي وصديقي الحميم/عثمان الخطاط المتميز كاتب القرآن. وفقده لا يعوّض. أسكنه الله فسيح جناته ، وجعل مقامه الفردوس الأعلى، فقد أثرى حياة العديدين منا، أستاذاً معلماً، وزميلاً في العمل وفياً ، فتح بصائرنا على روعة الخط وسلامة الذوق. وجماليات الحرف العربي وجدوى توظيفها كعنصر أساسي في بناء العمل الفني، وإليه يرجع الفضل الأكبر في كثير مما توصّلت إليه الحركة التشكيلية في السودان منذ أواخر النصف الأول من القرن الماضي، وإلى حينه.
أملي أن تحظي أعماله يوماً قريباً بمتحف عام يفتتح باسمه في السودان ، حفاظاً منا جميعاً على تراث مجيد وثروة نادرة لا تقدر بثمن، لدرر أبدعها قلم عثمان الفنان وإني لأغتنم هذه الفرصة مناشداً وداعياً لوزارة الثقافة والقائمين على أمرها بالسودان إلى توفير ما يلزم عداً ونقداً لإقتناء كافة أعماله الفنية المنتجة، قياماً منهم بالدور الواجب عليهم نحو تحقيق هذا الحلم الكبير، فهل من مجيب؟!!

-ماذا حصدت من إغترابك ؟هل تفكر في العودة ؟ متى ؟


حصدت من إغترابي بحمد الله وشكره على كثير لا يحصى: عافية في بدني، وراحة في بالي وتقديراً لعملي، ويقيناً ملتزماً بما أمر به ربي. ومجتنباً لما حرّم ونهى عنه، وأقوم بزيارة أهلي والأحباب كلما سنحت لي فرصة. وهنا في الغربة قرّة عيني: أولادي وبناتي وأحفادي. ورغماً عن شوق متزايد في نفسي لا أعلم حتى اللحظة يوماً آمل ان تتحقق لي فيه العودة، والأمر بيد الله.


-الأستاذ الصلحي معارض السودان للوحات التشكيلية غير مثمرة ماديا رغم كثرتها ماذا تقول ؟


قولك بأن معارض الاعمال التشكيلية رغم كثرتها في السودان غير مثمرة مادياً صحيح، وهي حقيقة ماثلة تحز في النفس ولكنها متوقعة نظراً لتفشي  الأمية الجمالية فيما يتعلق بالفنون التشكيلية على وجه الخصوص، بحسب إعتبارها ترفاً ذهنياً، لا يتفق أصلاً ودافع حالنا ثقافيا وإجتماعياً، ولربما إقتصادياً كذلك، ولهذا فان مسألة الإهتمام بها والإقدام على إقتنائها أمر غير وارد اللهم إلا من قبل قلّة نادرة حظيت بشيء من تربية وممارسة فنية.


-ماهو أقصى تجسيد يمكن أن تصل إليه اللوحة ؟


اللوحة حسب تسميتها ، ما هي إلا رسم لتشكيل بصري على سطح ما. كما أن تجسيد اشكال وأحجام المرئيات فيها، وفق ما يضفيه قانون النظر عليها من بعد متخيل، ما هو في حقيقة الأمر إلا مجرد إيهام للعين، بحيث يرى تقارب المسطح ذي البعدين مع المرئي المتمثل الذي له في الواقع بعد ثالث، يشار إليه في الصورة بالعمق.
وفي إعتقادي أن أقصي ما يمكن أن تصل إليه اللوحة من تجسيد، هو ما يوصلها عن طريق دقة الملاحظة وتجويد الصنعة إلى مرحلة إثبات الحق لصاحبه الأول والآخر وبحيث يحث المشاهد على التأمل والتفكر في مخلوقات المعبود الواحد الأحد، الذي لا شريك له.

-النحت والتجسيد ومايروى عن تعارضهما مع الشرع وأنت فنان إسلامي النزعة ماذا تقول ؟ وماهو البديل للفن التطبيقي كرسم الأواني والخزف ؟


رجعت مراراً وتكراراً الى القرآن الكريم لتفهم ما جاء فيه بشأن تحريم تجسيد أشكال وكتل أحجام الكائنات الحية من ذوات الروح، وفيه أساساً بهذا الصدد قصة سيدنا موسى عليه السلام حين ترك أخاه هارون في بني إسرائيل، الذين طالبوه باله يعبدونه، ولم يستطع ردهم، فصنع لهم السامري من حليهم عجلاً جسداً له خوار، فصار العجل صنما عبدوه إلى أن عاد موسى فحرقه ورماه في اليم حتى يصرف قومه عن الشرك. وهنا كانت الإشارة الى التحريم بسبب عبادة غير الله.
كما ورد في الأثر أن سيدتنا عائشة، رضوان الله وسلامه عليها، كانت في صغرها تلعب بدمية (بت ام لعاب) ، والدمية تمثال، فيروي ان سيدنا رسول الله ، صلوات الله وسلامه عليه، لم ينهها عن اللعب بتلك الدمية، طالما أن الغرض كان بطبيعة الحال لعباً بهدف التدريب على الإمومة، والأعمال بالنيات. وبالمثل فعلينا أن ننظر الى نيّة المثال المسلم والذي ما كان يوماً يسعى لخلق صنم يعبد، او لصرف الناس عن عبادة الله، بل كان سعيه من باب التأمل والتفكر في قيم الجمال، والله جميل يحب الجمال، وهو القائل(إن في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الالباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكون في خلق السموات والارض!!!) اما يتوجب علنيا أن نتذكر بهذا المعنى حين نرى أعمال المثال، ونحن نعلم حق العلم أن الفنان المسلم لا يشيد بعمله صنماً، وقد ولّى عهد عبادة الوثن والسجود لغير الله؟!!
اما بشأن البدائل التطبيقية من رسم لأشكال النبات، وزخرف، وخزف وسجاد وغيرها مما يشمله فن العمارة والبناء فمرحباً بها جميعاً، وليت دورنا الخاصة والعامة من منازل سكنية ودور عامة تنال حظاً من ذلك بدلاً من ان تبقى موحشة عابسة خالية من أي اثر لقيم جمالية تفتح شهية ساكنيها ومرتاديها للحياة، علماً بأننا لا نعيش بالرغيف ولا للرغيف وحده.


-أستاذ الصلحي الآن كيف تفكر ؟ كيف يمضي يومك وماذا ترسم ؟


أفكر بالتركيز على شيء واحد في آن واحد، وأحيا يومي على قدر المستطاع بالتفكر في الماضي والحاضر، وأرسم بعضاً مختاراً مما يمر بخاطري من رؤي وأحلام ، وبعضاً آخر أرسمه عفوياً دون إرادة، يأتيني من مصدر لا أدري كنهه.


-ماذا يكون دورك الآن لو عدت لكلية الفنون الجميلة ؟


لعل من الافضل أن لا اجيب على سؤالك هذا، وقد صرت ديناصوراً كان يحلو لطلاب كلية الفنون بالسودان أن ينعتوا به كل أستاذ طوّل في موقعه من تدريس متواصل وقد أديت واجبي بهذا الخصوص، ورحم الله امرءاً عرف قدر نفسه.


-مدرسة الواحد لأحمد عبد العال ما رأيك فيها ؟


الدكتور احمد اباهيم عبد العال فنان مقتدر غزير الإنتاج متواصلة. مبدع ومتصوف سبق أن أعد بياناً فصّل فيه أسس مدرسة الواحد وما يرمي إليه، وتضافر معه في منحاه التشكيلي آخرون، منهم الفنان المصور والشاعر/ ابراهيم العوّام. وبما أني لست بناقد فني أو أدبي، وأهل مكة أدري بشعابها، فلعل من الأفضل أن إجعل إستفسارك إليه شخصياً، ودكتور أحمد صاحب قلم متمكن، وكما يقول المثل السوداني (الحديث حلو في خشم سيده)


-ماذا تقول عن علاقة الفنان التشكيلي بالتمرد الذي يلوح حتى فى المظهر (الشعر والملابس )؟

.
في إعتباري أن ترك العادة ومخالفة المعتاد دليل صحة وعافية ، وهو من حق الفرد على القطيع، علماً بأن المسألة كلها من تقليد واتباع فيما يتعلق بالوضع الشخصي ما هي إلا مسألة مزاج، لا ضرر منه لآخر، أن كان باطلاق اللجية أو تربية الشعفة قجة أو تفّة أم حدثت صلعة، أو كان بزيّ يخالف ما اعتاد عليه الآخر لبساً ما خرجت عن كونها من باب التميز والانعتاق البريء للخروج عن المألوف، مهما كانت الدواعي إليه. المهم في الأمر أنه مجرد مظهر خارجي، وشتان ما بين الظاهر والباطن، وعليه أقول خلوا الناس في حالها، وانشغلوا عنه بالناتج ، وفي الناتج خير.


-هل من إمكانية لإستخدام الفنون الجميلة في تزيين العاصمة وكيف ترى ذلك ؟


سؤالك عن امكانية تزيين العاصمة بإستخدام الفنون الجميلة يذكرني بإجتماع رسمي سبق أن دعيت إليه قبل عدة سنوات مضت، ذهبت إليه برفقة زميلي البروفيسور شبرين، وكان بذات الغرض نفسه، فتحدثنا في الإجتماع عن الأساسيات اللازمة، بينما كان جل المجتمعين، يريد العاجل منها تجميلاً للعاصمة بمجسمات تقام عند تقاطع الطرقات، تحدد أمرها سلفاً، مع ترك حال العاصمة على حاله وانظر ما تركوا فيها من أطلال خربة عفا عليها الزمن.
في إعتقادي أن الأمر يستدعي النظر بجدية، بدءاً بتكوين هيئة قومية مؤتمنة من ذوي الإختصاصات الفنية في مجالات تخطيط وتجميل المدن. يعهد إليها بمهمة النظر الشامل، وبالإشراف الفعلي على تنفيذ المشروع بكامله، وأن يكفل لها من الصلاحيات والدعم المادي ما يفي بالغرض.
وبالمثل ، فان مسألة التفكير في تزيين العاصمة بما لا يتجاوز حد اقامة مجسمات، او إصطناع لوحات ما، تعلق في الطرقات بين مناسبة وأخرى ، ما هي في نظري الا إضاعة للوقت وللمال غاشمة لا يرجي من ورائها ثمة فائدة جمالية تذكر، ولن يستقيم لها ظل وعود العاصمة أعوج.
المسألة حسب إعتقادي تتطلب في المقام الأول إعادة تخطيط شامل ومتكامل يؤمن بدءاً نظافة المدينة بصورة صحية ثابتة، والنظافة من الايمان.


-كم يبلغ سعر لوحة الصلحي فى بلاد الفرنجة ؟


يتراوح سعر اللوحة حالياً ما بين اربعة إلى خمسة ارقام.

-ماهي فلسفتك فى الحياة ؟


أن لا ضرر ولا ضرار

-ماهي اللوحة التي غلبت أصابعك ولم تستطع أن تدفع بها من منطقة الحلم إلى منطقة الواقع ؟


غلبتني لمحة ذات كنه مبهم، ظلت تبرق بين حين وآخر في مخيلتي وتختفي ولم استطع مع سرعة برقها الخاطف التمكن من تبيانها حتى اخرجها إلى حيز الوجود البصري.


-هناك لوحة العشاء الأخير لدافنشي هل يمكن لفنان أن يرسم عودة المسيح ؟


من الممكن بالطبع لفنان مسيحي أن يرسم لوحة يتخيل فيها عودة سيدنا عيسي المسيح ابن مريم عليهما السلام، علماً بأن ليس لدي النصاري ما يحول دون ذلك أو يمنع من تجسيد صوة إبن الإنسان، وفق عقيدتهم في التثليث القائم على مفهوم وحدة الرب بثالوث الأب والإبن والروح والقدس.
هذا وقد حدث خلال فترة القرون الأولى للعهد المسيحي ، تحريم وضع التماثيل بالصوامع والكنائس ، نظراً لقرب العهد بأيام الرومان الوثنية، وكان ذلك بسبب تخوف رجال الدين على من تنصر، من أن يتلبس عليه الأمر، فيرتد. واستعيض في تلك الفترة التي يشار اليها بـ(الكارولينية) عن التمثال المجسد بالرسم والتصوير المسطح في الكتب وعلى جدران الكنائس والأديرة، كأسلوب عام للتربية الدينية، يهدف عن طريق التمثيل البصري إلى تعميم مفاهيم الدين المسيحي، في وقت كان فيه أكثر الناس غير ملمين بالقراءة والكتابة.
وتلت تلك الفترة حركة تعرف بـ(الايكونوكلاست) قامت بها جماعة من الكهنة والرهبان، إستنكرت فيها إستعمال التصاوير والرسومات . فقاموا بمحوها من على جدران الكنائس ، واستمر الحال على ذلك إلى حين تعيين أحد البابوات، ولعله كان جريجوري الخامس على ما أتذكر، والذي أوقف حركة الايكونوكلاست، مبيحاً الرسم والتصوير وسمح بتوظيف المنحوتات المجسدة  في حرم الكنائس، موضحاً بأن الصورة والتمثال ما هي إلا مجرد تذكار ديني، وأن ليس هنالك من يتخذ الأيقونة المصورة او قطعة من رخام منحوتة على هيئة إنسان أو حيوان ، صنماً يعبده، وقد ولّى عهد الوثنية وإنقضي.
أما بخصوص لوحة العشاء الاخير التي أشرت إليها كمثال، فهي وأنت العارف نتاج نهضة فنية عارمة، دعم ركائزها عدد مستنير من كبار رجال الكنائس ، وثراة القوم من حكام المدن، ممن كانوا على علم بقيمة وقوة أثر الفنون في إستنهاض الهمم، دينية كانت أم دنيوية، فكانوا يتبارون ويتباهون فيما بينهم باستقطاب من قام بإنجاز تلك الأعمال الخالدة، التي بقيت على مرّ العصور ذخراً إنسانياً يعتز به، وبه تزينت ساحات وجدران معابدهم من اديرة وكنائس وكندرائيات، كما ازدانت به الدور والقصور وما بينها من ميادين وساحات عامة، تراثاً بشرياً خالداً.
الحديث عن الجمال والتجميل يثير في نفسي كثيرا من الحسرة والشجن، والسودان في بالي على الدوام. والبكاء على اطلال اندلسنا المفقود لا يجدي فتيلا، وأنا استعيد في ذاكرتي ما كان عليه الحال بالدور والساحات وحتى بالنسبة الى مساجدنا، وهي تشكو لطوب الارض قسوة وحشتها، فلعل وعسى ان يأتي الفرج على اقدام تخطيط يعاد وغداً لناظره قريب.

أجري الحوار فى مدينة أكسفورد 23/6/2007