منصور خالد.. عمارة العقل

منصور خالد.. عمارة العقل * الخرطوم -كليك توبرس -عامر محمد أحمد انطوت اليوم حياة المفكر السياسي ووزير خارجية السودان الأسبق الدكتور منصور خالد عن عمر ناهز (89) عاما قضاها متبتلا في محراب الفكر والسياسة والبحث في اوجه الحياة المتعددة

منصور خالد.. عمارة العقل

منصور خالد.. عمارة العقل *
الخرطوم -كليك توبرس -عامر محمد أحمد

 


انطوت اليوم حياة المفكر السياسي ووزير خارجية السودان الأسبق الدكتور منصور خالد عن عمر ناهز (89) عاما قضاها متبتلا في محراب الفكر والسياسة والبحث في اوجه الحياة المتعددة، تنقيب في الفكر والتاريخ والسياسة وقراءة متعمقة للشان العام. . ولد الدكتور منصور خالد في العام 1931م. وهو عام شهد بداية التغيير في نظرة الصفوة المتعلمة للاستعمار البريطاني،وهو اضراب   طلاب كلية غردون، أول تحدى للاستعمار بعد ثورة 1924م. نشأ منصور في اسرة عريقة توقر العلم والعلماء، وتستمد من التصوف المدد واليقين. دخل منصور خالد معركة السياسة مبكرا وعمل بالسياسة والمحاماة. وكانت فترة نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات، فترة بداية التأسيس للدولة الوطنية وخروج الاستعمار، وشهدت هذه الفترة المهمة في تاريخ السودان، حراكا سياسيا، ومعارك صحفية وسجالات فكرية، ألقت بظلالها السالبة والموجبة على مجمل الحياة السياسية والفكرية والثقافية والاجتماعية إلى يوم الناس هذا. وكان نصيب منصور في هذا السجال السياسي والصحفي كبيرا وإن توارت هذه الفترة من تاريخه الشخصي والسياسي مع بداية انخراطه  في حكم الرئيس الراحل جعفر النميري ومحاولات نقل التجربة التى اكتسبها في الدراسة في الخارج مابين أمريكا وفرنسا، حيث كان قد نال إجازة الماجستير من جامعة بنسلفانيا بأمريكا، واجازة الدكتوراه من جامعة باريس. انخرط الدكتور منصور خالد في الحكم المايوي منذ البداية  إلا أنها  لم تخلو،  من صراعات بين تيارات تتعدد توجهاتها،  وكانت وجهات النظر المختلفة هذه بداية تبلورت فيها رؤية منصور خالد الفكرية وكيفية الخروج بثوابت يتم  الارتكاز عليها في بناء الدولة.
حوار مع الصفوة
صدرت الطبعة الأولى من كتاب "حوار مع الصفوة" في العام 1974م. وتحت عنوان"استدراك" كتب الدكتور منصور خالد، في الغلاف الداخلى للكتاب "كتبت المجموعة الأولى من هذه المقالات عقب انتفاضة اكتوبر في السودان، عام 1964، عندما كان الكاتب يعمل مندوبا للأمم المتحدة في الجزائر. وكتبت مجموعتها الثانية خلال فترات التيه والضياع السياسي التى أعقبت ذلك، حينها كان يعمل الكاتب في اليونسكو بباريس وكان مقدرا لهذا الكتاب أن يصدر حينها، وبالفعل قدم له الأستاذ جمال محمد أحمد مرتين في عامي 1965و1968، لكنها ظلت حبيسة حقيبة سفر لاترتاح"

 


يقول الدكتور منصور خالد في كتابه حوار مع الصفوة -تحت عنوان  (الكيان الاقتصادى بين التوجيه المتردد والاشتراكية الهادفة )-صحيفة الأيام :28/فبراير /1965"في العالم بلاد كالسودان عاشت سنى استقلالها الجديد تمزقها الحيرة لانعدام الهدف البين ويقعد بها الركود لفقدان القيادة الجسورة.. ونتاج هذين العاملين -عدم وضوح الرؤيا وفقدان القيادة -هو هذا  القلق المستبهم الذى نحياه في السنوات التسع الأخيرة والعالم حولنا قد حدد هدفه وأخذ يعدو نحوها كالمهر الأرن.. وكان لهذه الحيرة أن تصيب الكيان الاقتصادي للبلاد.. أن تصيبه بغير قليل من الجمود وغير قليل من الاتباعية العمياء للمخططات الموروثة من الحكم الأجنبي الغابر -فالتوجيه الاقتصادي يقتضي أول مايقتضي  تحديد الهدف، وابانة الطريق وتقرير الوسيلة.. وهى أمور تقع في نطاق مسئولية السياسيين لا الموظفين المنفذين، فكان، ولابد، وقد أبى على الساسة الحاكمين تبطلهم الفكري تحديد الهدف والوسيلة أن يلجأ المنفذون إلى أسلوب دعم الوضع الراهن في إطاره القائم " وعقب خروج منصور خالد من دائرة حكم النميري، شغل منصب نائب رئيس اللجنة الدولية للبيئة والتنمية التى أنشأتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1982 م، إلا إنه في تلك الفترة لم يكن بعيدا عن الشان السوداني وكانت حادثة إعدام زعيم الحزب الجمهوري السوداني محمود محمد طه، على يد النميري في 18/يناير /1985، هى نقطة انطلاق جديدة في تكريس منصور دراساته للاسلام السياسي وكتابه الأشهر "الفجر الكاذب -نميري وتحريف الشريعة " وكان منصور، قد عاد إلى السودان عقب الإطاحة بالنميري إلا أنه سرعان ما غادر السودان لأسباب من بينها عزم بعضهم فتح بلاغ ضده بتهمة الاشتراك في حكومة مايو وشغله مناصب في الخارجية والتربية والتعليم والشباب والرياضة.

 


منصور ومشكلة الجنوب
كانت مفاجأة كبيرة للاوساط السياسية السودانية، انضمام الدكتور منصور خالد إلى الحركة الشعبية بزعامة الدكتور جون قرنق. ، إلا أن وجود منصور خالد في منصب المستشار، لعب دورا كبيرا في وضع مأساة الجنوب في قلب الأزمة السياسية السودانية، ولولا انقلاب الجبهة الإسلامية القومية على الديمقراطية الثالثة في 30/يونيو 1989م، لكانت اتفاقية الميرغني /قرنق ، قد أنهت الصراع الأهلى ووضعت السودان في خارطة الدول المستقرة والمستمرة في بناء الدولة على أسس المواطنة والقانون والتبادل السلمي للسلطة واحترام حقوق الإنسان. ساهم منصور خالد، تأسيس التجمع الوطنى الديمقراطي، وكانت له مساهمات قيمة في كل انشطته في مواجهة نظام البطش والجبروت. يعد كتاب "النخبة السودانية وادمان الفشل "من أشهر كتب منصور خالد وأكثرها انتشارا، إذ تحول العنوان إلى صفة تلازم النخبة عند كل محنة تصيب البلاد. وكاتب النخبة السودانية، يمثل سياحة فكرية وعقلية وسياسية في التاريخ السياسي السوداني المعاصر. اهتمام دكتور منصور بمشكلة الجنوب أخذ حيزا مقدرا في كتابته ورؤيته الفكرية، وكانت الحرب واهوالها وكيفية تحقيق الوحدة والعلاقات الطبيعية الخالية من الرفض المتبادل، كانت تمثل خط  سير هذه الكتابة ويقول الدكتور منصور خالد"ماهو موقف تلك الأحزاب من قضية الوحدة؟  بعد عامين من بدء الحكم البرلماني توصل السيد الميرغني إلى اتفاق مشهود في نوفمبر 1988 مع قائد الحركة الشعبية الدكتور قرنق يؤكد مبادئ الوحدة واعلاء رابطة المواطنة على أية رابطة أخرى ويجمد كل القوانين المنسوبة للإسلام إلى حين البت في أمرها في مؤتمر قومى دستوري تشارك فيه كل القوى السياسية والاجتماعية والعسكرية؟  وهو ماظل يعرف بمبادرة السلام السودانية تشير بوجه خاص إلى ذلك الاتفاق لأن صانعه الشمالي  (الميرغني ) ملك من الشجاعة ماجعله يقول لمنتقدى الإتفاق من أنصاره "لو لم أوقع هذا الإتفاق لمابقى السودان ولا كان هناك إسلام " وحول مشاركته في مايو، أوضح الدكتور منصور الآتى :"شاركنا في مايو لسبب وخرجنا بعد تسع أعوام لأكثر من سبب. لم ننتظر سقوط "الصنم"لنخرج على الناس ب"الصامتون يتكلمون "بل قلنا مانريد قوله في الخرطوم  في  كتاب قرأه الناس كثيرا "لاخير فينا إن لم نقلها (1980). وكان ذلك في وقت نعم فيه رئيس مايو بدفع جديد من أنصار جدد عقب المصالحة الوطنية مع أهل الحكم الديمقراطي الذى انقلب عليه"

 


وفي كتاب حوار مع الصفوة يشير دكتور منصور خالد إلى "المبادئ السياسية ليست افكارا تجريدية وليس شعارات خالية من المحتوى وإنما هى-قبل كل شئ - منهج والتزام، وأسلوب حياة،، فالمبادئ السياسية التى لاتخرج عن إطار الميتافيزيقا والجدلية العقيمة لاتعدو أن تكون ضربا من التهريج أو في أحسن حالاتها ثوبا من ألوان الترف الفكري الذى يمارسه المثقفون واشباه المثقفين، وقد ظلت شعوب عديدة من العالم الثالث ترزح في الأعوام الأخيرة تحت اسار قيادات سياسية تغذيها بالشعارات التى لاتخرج عن إطار التجريدات ولاتمس حيوات الناس وواقعهم المعاش"
اصدر الدكتور منصور خالد العديد من الكتب من أشهرها، النخبة السودانية وإدمان الفشل، الفجر الكاذب :نميري وتحريف الشريعة. حوار مع الصفوة، الصورة الزائفة والقمع التاريخي -جنوب السودان في المخيلة العربية، لاخير فينا إن لم نقلها، وكتاب صدر باللغتين العربية والانجليزية  (السودان في النفق المظلم )برحيل الدكتور منصور خالد، تنطوي حقبة سياسية من تاريخ السودان، كان منصور من نجومها اللوامع ومن الأذكياء الذين ارتادوا ساحات الفكر والسياسة بيقين ثابت، ونفس وثابة وذاكرة متقدة.
* الإشارة إلى ندوة عقدت بمناسبة تكريم منصور خالد تحت عنوان، منصور خالد: عمارة  العقل وجزالة المواهب بتاريخ 12/مارس/2016-قاعة الصداقة.