مركز عبد الكريم ميرغني

مركز عبد الكريم ميرغني دلالات استخدام التاريخ في روايتي  ""رحلة العسكري الاخيرة"" لجمال محمد ابراهيم و"الطاحونة" لعلي أحمد الرفاعي  تقديم د. نعمات كرم الله حامد مقدمة تهدف الورقة إلى عرض نموذجين مختلفين لدلالات استخدام التاريخ في الرواية السودانية. وأخذتا كنموذج أول رواية "رحلة العسكري الأخيرة" وكنموذج ثانٍ رواية "الطاحونة" لأن أستخدام التاريخ فيهما بتجاوز فكرة التوثيق للأحداث والوقائع والشخصيات ليوظف لخدمة أفكار الكاتبين ومضامينهما المستهدفة بصورة حوارية جدلية.

مركز عبد الكريم ميرغني

مركز عبد الكريم ميرغني
دلالات استخدام التاريخ في روايتي  ""رحلة العسكري الاخيرة"" لجمال محمد ابراهيم
و"الطاحونة" لعلي أحمد الرفاعي 
تقديم د. نعمات كرم الله حامد

 

 


مقدمة
تهدف الورقة إلى عرض نموذجين مختلفين لدلالات استخدام التاريخ في الرواية السودانية. وأخذتا كنموذج أول رواية "رحلة العسكري الأخيرة" وكنموذج ثانٍ رواية "الطاحونة" لأن أستخدام التاريخ فيهما بتجاوز فكرة التوثيق للأحداث والوقائع والشخصيات ليوظف لخدمة أفكار الكاتبين ومضامينهما المستهدفة بصورة حوارية جدلية.
كلمات مفتاحية: الرواية والتاريخ – توظيف التاريخ –  الخطاب المنقول – الحجاج.
دلالات إستخدام التاريخ في رواية "رحلة العسكري الأخيرة
يبدو للقارئ العادي ومن الوهلة الاولى أنّ ""رحلة العسكري الأخيرة"" رواية تاريخية بامتياز، أي أنها تحكي وقائع تاريخية بعينها كما هي من غير زيادة أو نقصان. ولكن الحقيقة، من وجهة نظري، خلاف ذلك فاستخدام التاريخ في هذه الرواية هو استخدام متجاوز في اطار التجريب. فمنذ الصفحة الأولى يكشف لنا السارد صديق الشقيلي وقبله، في صفحة الاهداء، الكاتب نفسه بعض الموشرات وهي:
في صفحة الاهداء يصرّح الكاتب جمال محمد إبراهيم بهذه الجملة ""الرواية ليست تاريخاً ولكنها رواية..." ويتبع جملته بنقاط حذف لها دلالات محددة لأنها تترك الفرصة للمتلقي حتى يتفاعل مع النص ليدلو بدلوه فيما يقرأ ويخرج برؤيته وتفسيره.

 

 


منذ الصفحة الأولى لبداية الرواية (ص9) يورّط السارد صديق الشقيلي القارئ في علاقة تفاعلية مع النص بقوله ""بين يديّ ويديك ما ترك وراء ظهره صديقي (سامي جوهر)". فالقارئ هنا مطالب بالتوافق مع ما هو مكتوب على أساس أنّ التاريخ اتفاقي. فكل ما يكتب في التاريخ يتم التوافق عليه وهذه النزعة الاتفاقية أو التوافقية تبعد الحدث من تاريخيانته.
في هذه الفقرة التانية نفسها يعلن (صديق الشقيلي) أنّ صديقه (سامي جوهر) قد كتب يومياته ""بتفاصيل مذهلة وبنفس حميم وعاطفة صادقة، جردها من طغيان الميول الطامحة وغلواء الانطباعات المعجلة" ثمّ يتبع هذه الجملة بقوله "فكانت آية في الكتابة الرصينة" مما يعني أنّ اللغة منتقاة، أختيرت بقدرٍ وبعناية وهذا يشكك في مصداقية خبريتها بما يؤكد أنّ استخدام التاريخ في سرد يومياته هو استخدام فنتازي.
وفي الفقرة الأخيرة من نفس الصفحة يصرّح السارد (صديق الشقيلي)  أيضاً بأنّ (سامي جوهر) ""أوصى أن تؤول أليّ هذه اليوميات ولن أخون أمانة الوصية" ولكنّه في الجملة التي تليها يواصل ""ولربما لا يغفر لي صديقي كوني نشرتها على الملأ"". وهنا أيضاً نجد خرقاً للوصية والعهد، وأبعد من ذلك هو أنّه أكمل الفقرة بقوله "لن أقول شيئاً عن صديقي (سامي جوهر) وسأترك القصة كما أرادها هو ان تكتب او كما تصورتها أنا أن تكتب. و كما يريدها هو أن تقرأ أو كما تصورتها أنا أن تقرأ"". مما ينفي عن التاريخ المذكور خبريته بل يؤكد تورّط (صديق الشقيلي) نفسه ليس فقط في كيفية كتابة اليوميات أو كيفية قراءتها وانما في كيفية قبولها واستلامها من جانب القارئ، مما ينبئ ببراقماتية عالية لها مقاصدها وتوجهاتها.

 

 


وعليه يتضح من كل هذا أنّ خطاب الرواية يقتطع جزءاً من التاريخ على لسان الراوي والمروى عنه أو شخصيات الرواية الأخرى بطريقة توحي بوضع أحداثها في سياق تاريخي مرجعي. ويظهر ذلك جلياً من خلال تواريخ بعينها ترتبط بحياة بعض الشخوص في الرواية لفهم مجرياتها مثال 1924 وكذلك من خلال أماكن محددة وموجودة مثال (أمدرمان، أبو سعد، بانت). وأعتقد أنّ ولوج الكاتب في هذه التواريخ البعيدة هو محاولة للغوص فيها وبعثها من جديد، فهو اقتطاع في الزمن الانساني لمرحلة من المراحل تحفل بخصوصيتها الفكرية والاجتماعية ويجعل منها بالتالي فترة مميزة تضبط وتوجه، دون أدنى شك، الموضوعات المراد طرحها وتناولها في سياق هذه الحقبة الزمنية، على أنّ هذه الاحداث لايمكن أن تتحول الى واقع حقيقي يحكى عنه إذ تظل محكومة بعالم متخيل.
إذن ما هي دلالات استخدام التاريخ بهذه الطريقة؟ للاجابة عن هذا السؤال أبدأ أولاً بالحديث عن التقنيات.
لقد استخدم الكاتب جمال محمد إبراهيم تقنية رئيسة وهي تقنية الخطاب المنقول وأكملها بتقنية التعددية الصوتية.
إنّ تقنية الخطاب المنقول هي من الصيغ السردية التي تشكّل الخطاب الروائي ويستخدمها كل كاتب حسب الطريقة التي يريد أن تعطيها تفردها وتميزها في اطار التجريب المبدع. وبهذا يستند هذا التوظيف للخطاب التاريخي على استخدام كثيف جداً للحوارية الجدلية التي تزيد من مقصدية الشك عند المتلقي وبالتالي تعرض عليه الدخول في علاقة تفاعلية مع النص حتى يستجلي ويستفهم مكنوناته ومضامينه مثال أدوات التوكيد، أدوات الربط، والجمل الشرطية التي لا تجعل الحجج تنسجم مقدماتها مع نتائجها كما هو متعارف عليه في القاعدة النحوية للجملة الشرطية ولكن تقابل بين وجهات النظر المختلفة وتفتح الأبواب مشرعة أمام المتلقي من أجل أن يقرأ الخطابات فيتبع أحسنها.
بناءً على ما قيل يمكن الجزم بأن استخدام الخطاب المنقول، من بين الصيغ السردية، ليس له علاقة بالاستخدام المتعارف عليه في فقه الاسناد أو في التراث كما هو الحال في ألف ليلة وليلة حيث يخدم غرض الاخبار التقريري لبيان صحة القاعدة أو المعلومة أو الخبر.
والصيغة السردية كما عرّفها تودوروف هي حديث عن "الكيفية التي يعرض لنا بها السارد القصة ويقدمها".
ولفظة (الصيغة) مأخوذة في الأصل من مجال النحو، وبصفة خاصة نحو الأفعال وهو ما أشار اليه جيرار جنيت عند دراسة الخطاب السردي، إذ يمكن للحكاية أن تزود القارئ بتفاصيل كثيرة أو قليلة وبوجهات نظر مختلفة ومتنوعة يتم عرضها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بالقدر الذي يحدد بعد أو قرب المسافة من المحكي عنه أو المروى له وتوجهات الخطابات ومقاصدها ودلالاتها.
وتبعاً لهذه التقنية تعرض الخطابات بطرق مختلفة:
نجد ما يقوله أو ينقله السارد أو الراوي من أحداث ومعلومات.
وهناك ما يخبر به الشخوص على اختلاف أدوارهم.
وهذه التقنيات في العرض والحكي هي تشكيل ابداعي يحاول الراوي من خلالها المزاوجة بينهما فقد يتخفى أحياناً وراء شخوصه تاركاً لها المقام مباشرة للتعبير وقد يسيطر على الأحداث تماماً كراوٍ عليم.
وهكذا يتضح لنا أنّ المقصود (بالصيغة) طريقة معينة يعمد من خلالها الراوي الى بناء عالم قصته من خلال هذا التنوع والثراء الذي تتمتع بها اللغة في جوهرها الحجاجي بالقدر الذي يجعل خطابات الكاتب أكثر تعتيماً حيث يدمجها في خطاب الآخرين وبذلك يفتح مسارب كثيرة ومتعددة للقارئ للتأويل والتفسير.
فيما يتعلق برواية (رحلة العسكري الأخيرة) أعتقد أنّ الكاتب جمال محمد أبراهيم استخدم الصيغ الآتية:
الخطاب المحوّل بالأسلوب غير المباشر وفيه يعرض ويقدم السارد شخوصه بطريقة غير مباشرة أي أنّه يعبر عنها كما يريد هو تشكيلها، وعليه فإنّ هذا الخطاب لا يعطي للقارئ عموماً احساساً بأمانة حرفية ما يقولون لانه يخضع لتصرف الراوي فيها.
يندرج ضمن هذا الخطاب المحوّل نوع آخر، وإن كان يختلف عنه، ويسمى بالأسلوب غير المباشر الذي يغيب فيه الفعل التصريحي بمعنى أنّه قد يحدث خلطاً مزدوجاً إذ قد تعبر الجملة عن أفكار السارد أو ضمنياً عن أفكار الكاتب أو المروى عنه، أي المراوحة بين الخطاب الصريح والضمني من جهة وخطاب السارد من جهةٍ أخرى.
الخطاب المنقول وفيه يسمح السارد لشخوصه التعبير عن نفسها مباشرة، والسارد أو الراوي هو المتحكم والمؤطر العام لهذه الصيغ السردية ولطريقة عرضه لها ضمن الخطاب العام ومضامينه.
وباسقاط هذا الاستخدام للصيغ على الرواية موضوع الدراسة نجد أنّ استخدام الخطاب المنقول كان أداة للكاتب جمال محمد إبراهيم لاستدعاء الشخصيات التاريخية لتكون وسيلة تواصل بينه وبين المتلقي من خلال اسقاط ملامحها على الواقع اسقاطاً ذا قدرة على التأثير. وقد كان استخدام التاريخ محوراً وضاءً وملهماً ذا شأن نقل من خلاله المبدع جمال محمد إبراهيم دلالاته الشمولية وأفصح عن موقفه من تزاحم الانكسارات والهزائم على مجتمعه. إنّ استخدام التاريخ العريق مثّل الجذر الذي قام عليه عمله الفني القيم هذا  حيث غاص فيه ليستمد منه نبضه وقِوامه حتى يستطيع الحديث عن الواقع وتحدياته.

أنّ تقنية الخطاب المنقول والمحوّل بطريقة غير مباشرة، إضافة للتعددية الصوتية التي نتجت عنها، مكّنت الكاتب جمال محمد إبراهيم من بناء قصته سردياً بقصدٍ وبنيةٍ سمحا له بالتعبير عن وجهة نظره من خلال تبنيه وجهات نظر وآراء السارد و الرواة الضمنيين في آنٍ واحد. وكل ذلك تمّ لتحقيق هدفين أساسيين:
إثارة ومقابلة مستويات من الوعي: وعي تاريخي، وعي قومي، وعي ذاتي، وعي سياسي، ووعي اجتماعي.
تعميق بعض المفاهيم الانسانية مثل المحبة والتسامح والمساواة والاحترام...
وسأسوق في الفقرات القادمة بعض النماذج من مستويات الوعي هذه بحسب ما وردت في الرواية.
الوعي التاريخي:
يظهر ذلك جلياً في عدة مواقف من الحوارات بين شخوص الرواية مثال لذلك في الفصل الثاني عشر الذي تمّت فيه زيارة غرفة (عبد الفضيل جوهر) الخاصة من قبل (سامي جوهر) وصديقه (صديق الشقيلي) برفقة العجوز (عبد الجبار) حيث ختم الأخير الزيارة بقوله "هو تاريخ انطوت سنواته يا أبنائي، لا ود الشقيلي أنجب من (حواء) بنت العمدة ولا حليمة) بنت الجنوب الفقيرة. حتى العمدة لم يعمّر بعد ذلك. فقد مات في ظروف غريبة وغامضة. مضوا جميعاً ولم يتركوا أثراً وراءهم، ألا هذه القصص القديمة التي بقيت عالقة بذاكرتي، وذاكرة من بقي ممن شهد تلك الأيام المجيدة. لكن واحسرتاه...حتى الدار آلت بعد وفاة (ود الشقيلي) الى مشترٍ غريب! اندثرت القصة ولم يبق إلا هذه الأطلال والخرائب عارية حتى من ذكريلت من أقاموا فيها وحاولوا أن يصنعوا مجداً لم يتم وقدسية لم تكتمل".
هنا جاء تعليق المروى عنه (سامي جوهر): "أراحتني الطريقة التي أنهى بها العجوز قصته. بالفعل لا أثر لجدي (عبد الفضيل) هنا...لا أثر لمجد هنا ولا اثر لقدسية هنا...في أماكن أخرى وأزمان أخرى يصنعون من بيوت الابطال متاحف تخلد سيرهم، لا أنصبة تذكارية من حديد صدئ، لا ذكر له".
هكذا يلفت نظرنا جمال محمد إبراهيم بلسان (سامي جوهر) لأهمية  حفظ تاريخ الأبطال الاجتماعي بالكتابة وبفتح منازلهم لتكون قبلة للزوار حتى يستفيد ويتعرف ويتعلم منها الجميع. كما يركز على ضرورة التأريخ للمكان لأنه لا يمكن الحديث عن تاريخ بدون الأمكنة.

الوعي الذاتي:
لم يفتر الكاتب عن الحديث عن هذا الوعي الذاتي من بداية الرواية وحتى نهايتها، ومثال لذلك ما جاء في الفصل السادس عشر حيث يحدث (سامي جوهر) عن هواجسه وهمومه فيما يتعلق  بعدة أمور أهمها جده الكولونيل (جوهر بك) وتاريخ نضاله وبطولاته فيقول في صفحة 137 من هذا الفصل "الجرح الذي عاد به جدي الكولونيل (جوهر بك) أدمى ضميره  ورده هو وجنده محض مرتزقة، تحيط ببطولاتهم شكوك، وتلوح من وراء النياشين والأوسمة التي منحوها لهم، تجليات الخديعة وزيف التاريخ. هل أدرك الكولونيل (جوهر بك) مدى الخسران الذي حاق بهم في المكسيك؟ ومدى عبثية القتال الذي تورّط فيه في أرضٍ غريبة، هو وجنوده السودانيون؟ غرباء الوجه واليد واللسان على قول الشاعر المتنبي" [...] اي صورة وأي تذكار وأي احتفالات وأي أوسمة قد تعوّض الكبرياء الذي أهانته الخديعة في المكسيك؟ "عاد جدي من المكسيك قبل أن يعرف خاتمة القصة، ولكنّه أدرك كنه الخديعة في المكسيك. عاد وقد عرف أنّ الخديعة كان لابد أن تغطى بالأوسمة والفضيحة أن تتخفى في النياشين".
يتحدث هكذا الكاتب جمال متخفياً وراء أحد شخوص الرواية عن قيمة الوعي بالذات وبقيمتها وقيمها ومبادئها وما تتخذه من قرارات وما تقوم به من تصرفات. نلاحظ كيف أنّ (سامي جوهر) عبّر بجدية وحسم عن قيمة هذا الوعي بالذات وذلك حين طرح سؤاله: "هل ادرك الكولونيل (جوهر بك) معنى الخديعة؟"، وهذه أول مرة لم يقل فيها جدي وانّما خاطبه بمسؤوليته تجاه عمله وتصرفاته. أضف الى ذلك، في هذا المقام، الاشارة غير المجانية للمتنبي فهو نموذج للرجل الواعي والثابت على مواقفه ومبادئه دفاعاً عنها حتى قتل وهو معتز بنفسه، وقد أصبح شعره ونضاله فلسفة حياة.
يتحدث الكاتب جمال محمد إبراهيم في مقامٍ آخر عن وعي الذات هذا وذلك في الصفحة 120 من الفصل الرابع عشر، حيث يتحدث عن (حليمة) الزوجة الثانية ل(ود الشقيلي) فيقول "حليمة هي زوجته الثانية، برغم ما نالها من نهش في سيرتها إذ يشيع كثيرون منهم (مصطفى الجموعي) أنها أمة مسترقة يتسرى بها (ود الشقيلي) [...] غير أنّ أصدقاء الرجل شهدوا أنه كان يعاملها معاملة الزوجات، وذلك ما أوعز صدر زوجته الأولى عليها. في حزنها تتلقى حليمة المكلومة العزاء لا تزل من نسوة سمعن بنبأ مقتل ابن أختها (عبد الفضيل) فجئن من أقاصي البلدة حذر اللوم، إذ حليمة لا تقف مجاملاتها عند حدود الجيرة القريبة بل تتعداها الى أسر في أطراف البلدة مقيمين ونازحين، بيض وسمر وسود، لا فرق في مقياس مجاملاتها بين لونٍ ولون، بين سيّدٍ ووضيع".
نلاحظ مدى وعي (حليمة) بذاتها ولربما بسبب هذا الوعي الذاتي المتقدم بانسانية الانسان وآدميته قد تزوجها (ود الشقيلي).
أختم بالقول أنّ ما يعجب في هذا العمل المبدع هو القيمة الانسانية في هذا السرد التاريخي وليس ما تورطت الآيدلوجيا  فيه من أسئلة مع أم ضد؟ هو الحديث عن (عبد الفضيل الماظ) المثقف، الوطني، الأنيق والذي يتمتع بقيم التكافل والتعاون وغيرها.
إنّ هذا الاستخدام الفني والجمالي للتاريخ في السرد هل هو مصدر قيم بالنسبة لنا أم هو شئ آخر؟ لأن التاريخ لا يتحدث عادة عن كيف عاش هؤلاء الأبطال، وكيف كانت حياتهم،...، كل هذه الرؤى تشكلّت في الرواية عبر حوارات متداولة أثبتت قدرة الكاتب جمال محمد إبراهيم الفنية وامتلاكه لأدوات الخطاب المؤثرة التي صيغت في هذه الرواية ومن ثمّ انطلقت بإرادة وسلاح الوعي، كل ذلك بلغة الأديب الملتزم التي حققت الغايات الجمالية وعكست فكر الكاتب.
دلالات استخدام التاريخ في رواية "الطاحونة"
في هذه الرواية يتناول الكاتب علي الرفاعي أشكال الحوار مع الغرب التي تبناها العرب عموماَ على مر التاريخ وهل تغيرت أو اختلفت، وكيف أنه قدم، من وجهة نظرنا، رؤية مختلفة  للحوار من خلال شخصية بروفيسور (حسون ود النعمان) التي بناها وشبعها بالقيم والأخلاق وحب الوطن والعلم والمعرفة الحقّة. ولكي يصل إلى تحقيق أهدافه، عرض الكاتب أولاً شكل الحوار الديني التقليدي الأكثر شيوعاً. وذلك من خلال البرلمان الشعبي المصغر (أبناء المنطقة) قوز قرافي. نلاحظ هنا تجسيداً للحوار الديني المنبعث من مشاعر تتصف بعمق جذورها الاسلامية، واندفاع وجدانها المسلم. ولا ننسى أنّ هذه الرؤية فد فُدمت على لسان شخوص بسيطين باعتبار أنها رؤية بسيطة، ولا دور للعقل فيها بتقديم حجج قابلة للنقاش.
ولكننا نلاحظ أن هناك رؤية جديدة وتطوير في مستوى الحوار من خلال المحاور التي تناولها بروفيسور(حسون ود النعمان). إليكم هذا النموذج الأول من خطابه داخل حديقة هايد بارك:    
"أَیها الأُوروبیون: ِلقد جْئنـا إلـیكم مـن القـارة العاشـرة .. أَنـتم لا تعرفونهـا، ولكــن ســلوا عنهــا أَجــدادكم وآبــاءكم؛ فقــد كــانوا فیهــا. َّلقــد ادعــى أَجــدادكم وآباؤكم أَنهم اكتـشفوا القـارة العاشـرة، أَو كمـا تـَّدعْون الآن أَنهـم كـشُفوا لأَهـل القارة العاشرة أَنَّ هنالك مخلوقـات أَنبـل مـنهم تـشاركهم العـیش علـى الأَرض." (رواية الطاحونة: ص28).
يشير هنا إلى تعنتهم وتحيزهم لأصلهم وثفافتهم وجغرافيتهم. يضاف إلى ذلك عزلهم جغرافياً. كما أنّ استخدام الفعل (يدعي) له دلالاته التشكيكية في رصد التاريخ. ثم يواصل خطابه محَدِثا إياهم عن جانب آخر: 
أَجـدادي وأَجـدادكم كـانوا كالـديك والحـْدأَة .. الديك یخـاف الحـدأَة لأَنهـا أَقنعتـه بالخوف منها منذ أَن كان كتكوتًا. ِ لكنَّ أَبي دفن أَحـد آبـائكم فـي طـین جـدول بقریة نائیة بمركز مرِوي .. أَتعرفون موقع مـرِوي مـن القـارة العاشـرة؟ أَنـتم لا تعرفون شیئا عنها، لكنَّ أَجدادكم وآباءكم یعرفونها، تماما كما نعـرف بنـاتكم بوصة بوصة .. َّبناتكم اللاِئي یعرفن أَسعار البتـرول العربـي أَكثـر ممـا یعرفهـا  المواطن العربي .. یا أَسفي على المواطن العرِبي!" (الطاحونة: ص25/26).
في هذا الجزء من خطابه، يضيف (حسون) بعداً جديداً في الحوار وهو الحديث عن التخويف وإرهاب المستعمِر في إشارة إلى ضرورة مراجعة المواقف لأن المستعمِر يقول أنّه أخاف أجدادهم ولكن (حسون)
وهو يمثل الأجيال الجديدة، يقدم حادثة دفن أبيه لأحد آبائهم. ثم يثير جانباً مهماً وهو التأكيد على عدم معرفتهم بالقارة العاشرة جيداً، وفي هذا تدليل على عدم المعرفة الثقافية الكاملة بالشرق.
ثمّ يتحدث عن ضرورة مراجعة المواقف من جانب الشرق والغرب معاً، تفادياً للتجني والتحامل من طرفٍ واحدٍ. وفي كل هذا نجد طرح الكاتب الجديد المستند على الحوار بعقلانية وبحرية تعبر عن إحترام النفس واحترام الآخر والتعبير عن وجهات النظر المختلفة بمسؤؤلية.
يمكننا أن نستشف  من أشكال الحوار التي عرضت أنّ الأول منها يتسم بالسطحية لتركيزه فقط على المحتوى الديني ولم يستند على معرفة بالآخر وثقافته. وتعتبر هذه، من وجهة نظرنا المحللة لهذه الحوارات، تلميحة ذكية من الكاتب علي الرفاعي للإخفاق في فهم أعمال المستشرقين من جاانب بعض النقاد العرب الذين ربما تنقصهم المعرفة التامة بالغربيين، وبالتالي لم يعرفوا ثقافتهم. فجاءت الاحكام سريعة ومتعجلة. 
في الشكل الثاني للحوار، نعتقد أن الإشارة إليه تفيد أنّ الغربي يدّعي معرفته بثقافة الآخر غير أن الحقيقة تثبت غير ذلك وهو أن معرفته بالشرقي تتم في الحدود التي تحقق مصالحه وهي معرفة غير مكتملة لأنها لا تصب في معرفة الآخر بعمق، وبالتالي لا تقود لحوار يقارب بين الثقافات.    
وبناءً على قراءتنا لخطابات الحوار بشكله الأول والثاني، نقول بأنّ الرفاعي قصد الإشارة إلى أنّ الكتّاب العرب حاولوا دراسة الإستشراق من زاوية واحدة وهي نظرتهم لما يكتبه الغربي عنهم وعن ماضيهم وحاضرهم.
لذلك جاء نموذج شكل حواره الثالث ليستكمل هذه النظرة القاصرة من خلال حثه، عبر جيل حسون الثالث في الترتيب بعد جيل الأجداد والآباء، على ضرورة مراجعة المواقف والأخطاء، ومعرفة ثقافة الآخر باستفاضة ومقارنتها، والمحاسبة تجاه التحيزات والتقوقع... ويجب أن يتم ذلك من الجانبين. 
وبهذا النهج المقترح يتم استكمال بناء أشكال الحوار وتحقيق التماثل الكامل في مستوى الخطاب بندية وليس بخطاب مستعمِرِ_مستعمَر. وهكذا يتم التقارب والإلتقاء بين الحضارات.
نلفت النظر إلى أنّ تقديم الشكل الأول من الحوار فيه استعراض لتاريخ الكتابة عن عدائية الغرب للشرق من بُعدها الديني، ونذكر على سبيل المثال وليس الحصر، من هؤلاء الكتاب الشيخ جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده... إلى أن تحول المفهوم مع إدوارد سعيد إلى الإستشراق،  حيث تمّ التركيز أكثر على البعد السياسى الحضاري. وذلك باعتبار أنّ إدوارد سعيد علمانياً وبالتالي جاءت نظرته للإسلام سياسية حضارية في المقام الأول.
وبالتالي جاءت المعالجة، من خلال خطابات البروفيسور (حسون ود النعمان)، شاملة وذلك بالجمع بين الثقافتين المختلفتين من خلال مقارنتهما ومقاربتهما.
  وهذه القراءة والإستنطاق لخطابات الكاتب علي الرفاعي تفضي إلى القول بأنّ المشكلة الأساسية في موضوع الإستشراق هو أنّ سوء الفهم والتجني عملية متبادلة يشترك فيها الطرفان معاً، وعليه لا بد من إجراء هذه المقارنات والمقاربات حتى تتاح فرصة فهم أوسع من خلال منظور الإختلاف.
ونختم بما أورده إدوارد سعيد عن موقفه من الإستشراق مما يسهل فهم المعالجة الشاملة التي اقترحناها في الفقرة السابقة والتي فيها حل لإشكالية تمترس كل فريق حول مواقفه " الاستشراق ليس مجرد موضوع سياسي للبحث، أو ميدان تعكسه  الثقافة أو الدراسة أو المؤسسات الأكاديمية بطريقة سلبية، كما أنَّه ليس مجموعة النصوص الضخمة أو المتنوعة عن الشرق، ولا هو يُمثِّل أو يُعبر عن مؤامرة إمبريالية غربية لعينة من أجل إخضاع العالم الشرقي. بل إنه توزيع للوعي الجيوبوليتيكي على نصوص جمالية وأكاديمية واقتصادية وسوسيولوجية وتاريخية وفيلولوجية، وهو توسيع لتمييز جغرافي أساسي هو تقسيم العالم إلى جزأين غير متساويَين،(الشرق والغرب) ولسلسلة كاملة من المصالح يخلُقها الاستشراق ويُحافظ عليها من خلال الكشف العلمي والتحقيق الفيلولوجي والتحليل النفساني والوصف الجغرافي والاجتماعي … والواقع أن الفكرة الحقيقية التي أدافع عنها هي أن الاستشراق هو ذاته بُعد هام من أبعاد الثقافة الحديثة السياسية والعقلية، وليس مجرد ممثِّل لهذه الثقافة، ومن ثَم فإنه يَتعلق (بعالمنا) أكثر مما يَتعلق بالشرق." 
المراجع والمصادر 
1. تودوروف، تزفتيان: مفاهيم سردية، ترجمة عبد الرحمن مزيان، ط1، منشورات الإختلاف، 2005.
2. جنيت، جيرار: خطاب الحكاية: بحث في المنهج، ترجمة محمد معتصم وآخرون، ط2، المركز القومي للترجمة، 1997.
3. النجار، شكري: "لِمَ الاهتمام بالإستشراق؟"، مقال في مجلة الفكر العربي، 1983.
4. سلامة، غسان: "عصب الأستشراق"، المستقبل العربي، 1981.
5. سعيد، إدوارد: الثقافة والإمبريالية، ترجمة كمال أبو ديب، ط4، 2014، دار الآداب للنشر والتوزيع، بيروت-لبنان.
6. سعيد، إدوارد: الإستشراق- المعرفة-السلطة-الإنشاء، ترجمة كمال أبو ديب، 1980، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت-لبنان