قصة قصيرة
قصة قصيرة عيسى الحلو شمس منتصف الليل تكورت البنت والتفت حول نفسها، كما لو كانت تستولد دفئاً ذاتياً، تستعيض به، عن ذاك الدفء الذي يدثرها به الولد فؤاد. فهي تتكور مثل عاصفة ترابية، تدور متدحرجة حول نفسها، ثم تنفجر وسط سماء الصيف الليلي
قصة قصيرة
عيسى الحلو
شمس منتصف الليل
تكورت البنت والتفت حول نفسها، كما لو كانت تستولد دفئاً ذاتياً، تستعيض به، عن ذاك الدفء الذي يدثرها به الولد فؤاد. فهي تتكور مثل عاصفة ترابية، تدور متدحرجة حول نفسها، ثم تنفجر وسط سماء الصيف الليلي الساخن. وتنشر جسدها المعتم فوق الهامات والقمم. وتلتف دائرة حول الاشجار والبيوت والوجوه والطرقات، فتغطي كل هذه الأشياء بغبار الشك الليلي الكابوسي الناعم. ووقتذاك تتملك الدهشة فتكاد لا تعرف هذا الشئ الراقد والممدود على طول السرير. لا تعرف هذا الجسد الراقد على السرير المواجه لباب الغرفة التي يفتح بدوره على الشارع مباشرة. أهي فتاة!!.. أم ربما هي فتى!!؟ ولكن الوجه الذي يكسوه النوم الزائف، كان مغطى بقناع من النعاس، وبقناع من الليل البهيم، والبرد والغبار، وبشئ من الأنوثة..!! لا.. ربما.. هي فتاة في السابعة عشر من عمرها. إذ تكتسي ملامحها بجمال خفي. ينفذ إلى حواسك جميعها. دون ان يترك لك الفرصة في معرفة كنهه. فأنت أمام الغموض الساحر وجهاً لوجه، مغموراً بشئ ناعم ومضمخ بالأريج. هو شئ لا يشبه شيئاً آخر في العالم. ينفذ داخلك عذباً.. سهلاً واضحاً، وقاطعاً كالسكين وكاليقين. هي إذاً صبية ذات صدر عريض وناهد، يتفجر بأنوثة طاغية، رغم الوجه الطفولي البرئ، والذي يعبر.. حتى في النوم.. عن عدم الخبرة بالحياة. تمددت البنت فوق السرير.. وضعت رأسها على الوسادة، وتعب ثقيل يضغط على مفاصلها، وعلى العنق والكتفين. أمتلأت عيناها بالوسن. وقليلاً قليلاً أخذت تحلم حلماً متقطعاً. ثم يتحول الحلم إلى تقلصات وتوترات.. وكان » الصبية في هذا، هو شأن صغار السن عادة، الذين تحرجهم الظروف والمواقف الحادة، حينما تواجههم على حين غرة، وبسبب الفزع ، فهم ينفصلون هذا الانفصال المتوتر حتى وهم يحلمون. فيتأرجح حلمهم بين الأطمئنان وبين مواجهة الخطر. مما يؤدي للشعور باللا مبالاة، كما لو كان ينقصهم الذكاء في قدرتهم على تقدير نتائج الموقف. استسلمت البنت لهذا الأمان الزائف. نامت رغم الأخطار اللا مرئية التي تحيط بها.. من كل الجهات..! في هذا الحي «العباسية» غرب أم درمان.. في هذا البيت المكون من أب أرمل وبنتين وولدين. في هذا البيت حيث تفتح غرفته الرئىسية بابها على الشارع الذي يضاء أضاءة ساطعة في كل ليلة. رقدت البنت على السرير. جمعت نفسها. تقرفصت في شكل قوس. فردت جسدها، كله ونشرته على طول السرير واستبدلت العالم بطيوف الأحلام. وقف الرجل فوق رأس البنت، وهو يكاد يسقط بسبب غرابة الموقف. لم يستطع ان يستوعب شيئاً. وأخذ يتساءل في صمت.. من هي هذه الفتاة؟ وما الذي أتى بها إلى هنا؟.. ولكن ربما هي ليست فتاة!!.. ربما هو فتى من أصدقاء ابنه فؤاد!؟ .. ولكن كيف دخل هنا!! ولكن أيضاً.. ربما هي فتاة!! من بنات الهوى.. تسللت في الخفاء!!.. ربما هي على موعد مع فؤاد!! تمددت البنت.. نشرت جسدها على طول السرير، وهي تلبس بلوزة رمادية مخططة بخطوط طويلة.. تبدو البلوزة تحت هذه الأنارة الخافتة كقميص رجالي من النوع الرخيص. أما الاسكيرت فهو من الصوف الأسود، وبسبب امتلاء الفخذين، واستقامة الساقين الطويلتين، كان الاسكيرت يأخذ شكل البنطلون الرجالي. أمام هذا الجسد الممدود.. كانت شكوك الرجل تدور مثل الرحى، فهو فتى إذاً.. صديق من أصدقاء أبنه فؤاد.. فهي مسألة عادية.. لا تستلزم كل هذه الهواجس والمخاوف.. فهو لم ير في سلوك ابنه منذ ان بلغ مبلغ الرجولة انحرافاً ما. وكان الرجل يثق في أبنه كثيراً. وكانت عاطفته الأبوية تجعله يبعد أي احتمال لأن يكون أبنه فؤاد قد احضر هذه البنت إلى هنا. وان يضع كل الأسرة أمام هذا الحرج. لقد وضع هذا الموقف الأسرة كلها أمام فكرة الانتماء العاطفي والأخلاقي ينفجر في كثير من الحالات في حياة الأسرة على مستوى التجريد العقلاني. .. إذاً.. فإن فؤاد على علاقة قديمة بهذه البنت!!.. ربما هي عشيقة سرية!.. أو ربما هو زواج ميسار؟!.. ربما هو زواج عرفي!!.. ربما هو لا هذا ولا ذاك!.. انها فقط بنت هوى! أمام باب هذه الغرفة التي ترقد فيها هذه الزائرة الغريبة.. فسحة عريضة هي جزء من الشارع حيث تنتصب أشجار كثيفة الأغصان.. وكان الأب يراقب هذا الشبح الذي يختبئ خلف هذه الأشجار، ولكن الأب في ذات الوقت الذي يراقب فيه الشارع، كان يراقب حركة البيت الداخلية.. حينما كانت بنتاه الأِثنتان تقومان بغسيل الملابس الأسبوعي. فكانت حركة الرجل موزعة بين حركة البيت والحركة الخفية والشبحية خلف أشجار الشارع. ووقتذاك كانت الغرفة مسدلة الستائر يغمرها صمت عميق . وتتدفق في كل زواياها أضاءة خافتة.. تجعلك لا تستبين شيئاً محدداً وأضح المعالم.. فهي مشمولة بروح ما.. روح مضطربة ومشوشة.. كما لو كانت قد اقترفت ذنباً ما..!!.. ذنب يغوص عميقاً فيأكل الضمير، ويعضه عضات حادة كما لو كانت عضات أنياب مفترسة. في لحظة ما.. تسلل الشبح من بين الأغصان السوداء، وعلى أطراف الأصابع مشى.. دخل الغرفة.. جلس على طرف السرير.. وشعرت البنت بتعب يطحن عظمها حتى النخاع.. فقد تجولت في أزقة هذا الحي تجوالاً طويلاً، حتى وصلت إلى ها هنا!.. فهي لم تعرف عنوان البيت بسهولة، لان من تكلم معها عبر الهاتف لم يصف لها المكان وصفاً دقيقاً. وهي لا تستطيع ان تحدد.. ان كان ذاك الصوت هو صوت فتى صغير السن، ام صوت رجل كبير وناضج!! لقد أضاع صراخه كل ملامح الصوت. بعينين مثقلتين بالنعاس، كانت البنت تتلفت هنا وهناك. تجول عيناها في أنحاء الغرفة.. كراسي الجلوس ذات الطلاء اللماع البني، المكسوة بقماش صوفي أًصغر مخطط باللون الأزرق. لوحة زيتية لرجل تعدى السبعين. صورة فوتغرافية حديثة لولد في العشرين من عمره، تشبه لحد كبير تلك الصورة التي تحملها داخل قلب مصنوع من الفضة تعلقها بسلسلة حول عنقها. ونظرت البنت إلى الرجل ولم تستطع ان تجد كبير اختلاف بين صورته وبين اللوحة الزيتية. همس الرجل في صوت وآجف، يحمل خوفاً عميقاً وشعوراً بالذنب.. «لا بد ان تذهبي.. هيا أذهبي.. قبل ان يراك أحد ما». وكان الرجل يهز كتف البنت النائمة في اضطراب كبير. أخذت البنت حقيبة اليد السوداء التي كانت ملقاة على الكرسي. خرجت.. اختفت في الظلام وذابت بين ازقة حي العباسية وضاعت في المتاهة. في الصباح.. هم الرجل بالسؤال.. وكانت عيناه مسمرتين في وجه أبنه فؤاد.. أراد ان يقول «هل انت من أحضر تلك البنت ليلة البارحة؟».. «أتربطك بها علاقة ما؟» ولكن خوفاً عظيماً كان قد أصابه بالشلل، خاصة وان الولدين والبنتين كانوا كلهم ينظرون إليه على غير المعتاد!!.. ينتظرون تفسيراً!! نظر الرجل إلى شفتي أبنه فؤاد.. تقلص ظهره تقلصات حادة موجعة.. وارتجفت يداه.. ومرت الثواني بطيئة ثقيلة.. ولم تتحرك شفتا الولد، وفي ذات اللحظة كان فؤاد ينظر إلى شفتي أبيه المزمومتين، وهو يتوقع لهما ان تنفرجا.. وان تقولا ما يمكن ان يفسر الموقف. أما الولد الأكبر والبنتان فقد كانوا واجمين.. ينتظرون أحداً يفسر ما حدث منتصف ليلة البارحة.. ويطول الصمت.. ويصبح ما حدث وقائع قابلة لتأويلات كثيرة، يتحاشى كل منهم الخوض فيها. ويظل الأب والابن متواجهين.. ينتظر كل منهما الآخر القيام بمخاطرة التفسير!!