فحولة الأنظمة في رواية الحسن محمد سعيد..

فحولة الأنظمة في رواية الحسن محمد سعيد.. للكاتب والروائي اليمني : محمد الغربي عمران ------ كم كانت سعادتي بالغة ،والروائي العربي الكبير ،الحسن محمد سعيد،يتكرم عليّ بنسخة من روايته حديثة الصدور ( الفحل) ،وهو صاحب العديد من الإصدارات الروائية المهمة ،منها ( صمت الافق ) ..( ثلوج على شمس الخرطوم)

فحولة الأنظمة في رواية الحسن محمد سعيد..

فحولة الأنظمة في رواية الحسن محمد سعيد..
للكاتب والروائي اليمني : محمد الغربي عمران

------

 

 


 كم كانت سعادتي بالغة ،والروائي العربي الكبير ،الحسن محمد سعيد،يتكرم عليّ بنسخة من روايته حديثة الصدور ( الفحل) ،وهو صاحب العديد من الإصدارات الروائية المهمة ،منها ( صمت الافق ) ..( ثلوج على شمس الخرطوم) ..( ابو جنزير ) ،وغيرها من الأعمال الروائية آلتي تستحق ان تقرأ..
الحسن محمد سعيد مقيم في وطنه اليمن ،وفي صنعاء بالتحديد ..ويسعد اصدقاءه بحضوره الأسبوعي،ومشاركته كعضو بنادي القصة في اليمن .. ولمن لا يعرف ، فقد وفد اديبنا وصديقنا العزيز على الأدب من باب الرواية ،واجاد فيها ، بعيدا" عن تخصصه الذي هو في مجال القانون ..وهو الذي يعمل فيه بأحد البنوك ،كمستشار قانوني ..وهذا ما يعطيه خصوصية وتميز ..مثله مثل من تميزوا شعرا" وسردا" ،وهم من غير تخصص الأدب..
أدب الحسن يتركز حول الهم الوطني السوداني ،وأجدني أرى اليمن ووضعه ..بل واوضاع أقطارنا العربية ،من خلال تلك الروايات الفارقة ،التي يتناول جمبع شخصياتها وتلتقي حول هم الإنسان في ( السودان ) كما هو هم صديقنا الحسن.. وفي رواية ( الفحل ) ،يوحي لنا الكاتب بأنه احد شخصياتها ..فقد ظهر ككائن شاهد على ما حوله ،ولذلك يروي من موقع الفاعل ،ولم يكتف بالراوي العليم غير المشارك..وكي بخفف على القارئ تلك النرجسية التي يقحمها بعض الكتاب ،لم يضع الراوي كشخصية محورية ،مما جعل منها رواية تحتفي بالقارئ تشويقا" ودهشة ..

 

 

 


قدم لنا الحسن في رواية ( الفحل) الشخصية المحورية ،والتي تحمل نفس الاسم ( الفحل ) ،كرمز للشخصية التي تعرف مسالك الأمور، أو ذلك الشخص الغير مبدئي في الحياة ..كما قدم لنا الخاصية الثانية صديقه ..واضعا" لكل شخصية طريقا" لها في الحياة.. ففي الوقت الذي يشعر القارئ بأنه أمام شخصيتين - الراوي وصديقه - منسجمتين في المبادئ والمثل بفعل تلك الحميمية في العلاقة منذ الصلر ،التي لونت الصفحات الأولى،حتى بكتشف تلك اللعبة،آلتي يلعبها الكاتب ..أو المتاهة الممتعة التي يجد نفسه فيها القارئ،ليكتشف بعد صفحات وأحداث أن الفحل على نقيض صديقه ..فالفحل يعيش على مبدأ الغابة تبرر الوسيلة  كما هي في كتاب الأمير..
أما الراوي فيعيش بمثالية لاحد لها ،حتى في صلاته بصديقه الفحل ..الحسن يقدم لنا انفسنا ،من خلال شخصياته ..يجعلنا نكتشف بأن هناك فينا الفحل ،وفينا صديق الفحل ..وقد يكون كل منا الإثنين.. فهل هي رواية هي روايتنا ..أوطاننا..مجتمعاتنا ..
هنا استطاع الكاتب أن يستمر محافطا" على عدم بروز الصديق الذي هو الراوي ..وكأن وظيفته محددة برواية شخص الفحل محمد عثمان ، بادئا" بأول كلماتها ( طال بعدي عنكم فزاد شوقي اليكم ولصديقي الفحل محمد عثمان ..ولأجلكم كان خلافي وتبابني مع صديق عمري ..قبلته ورفضته في آن ..والعجيب أن هذا التباين زاد من حبي له ) ..
يقدم الحسن هذه الشخصية كتوأم لروح صديقه ،رغم تناقض السخصيتين ..ومن خلالهما يقدم أوضاع السودان ومآسي حروبه ..وذلك الصراع بين قوى التسلط على السودان ،وتلك الملاحقات والسجون ، وشراء ذمم المعارضين ، والشقاء الذي يعيشه آلمجتمع،نتيجة للسياسات الخاطئة..يقول صديق الفحل ( العيش في السودان أضحى امرا" فوق طاقة البشر ) ،ناصحا" صديقه بالهرب من جحيم الحياة داخل الوطن ،بايدا" عن المطاردات والسجون..لكن الفحل الذي  يظهر بعد   اختفائة ،ليعرف الجميع بأنه كان في السجن  ، يتصالح مع النظام بعد رشوته بمنصب كبير ،ينجح في طريق يسلكه ،ليصبح الفحل ضمن شخصيات السلطة الأقوياء..ويجيد لعبة التكتلات والمحاور ..
الحسن يقدم شخصية الفحل في بداية الحكاية ،كشخصية سودانية بسيطة ..شخصية تؤمن بالقدر دون مبدأ،او هكذا يظهر ..لكن تلك الشخصية ،سرعان ما يدفعها اصرارها وقدرتها الخارقة على التماهي في تلك الحياة السياسية ،التي قادت البلاد إلى كوارث الحروب ،وانفصال الجنوب في حفل كبير ،لتنتهي حياته بسقوط طائرة( الفاشر ) مع عدد كبير من شخصيات النظام ..وتثار الأسئلة حول سقوط تلك الطائرة..

 

 

 


هذا ما قدمه لنا الكاتب في صفحات روايته حتى صغحة 16 ،ليظن القارئ بأن الحكابة قد انتهت ..فيكتشف بدءا" من صفحة17 أن الرواية في بدايتها .. حين عاد الراوي بذاكرته إلى أيام الطفولة الأولى،من لحظات نشوء الصداقة بين الصديقين ،معتمدا" الكاتب على تقنية العودة على بدء ماضي الأيام.. وهذا الأسلوب أو تكنيك الحكي بشكل تصاعدي للأحداث،ثم العودة باستخدام الذاكرة ،اسلوب يمنح القارئ الكثير من التشويق،للزيد من المعرفة.. وذلك باشراك الكاتب له بمساحة إدهاش بكر ، حين العودة إلى بواكير الحكاية..والعودة لربط ما حدث لاحقا" بسابق الأحداث وما أثير من أسئلة،بعد ان ظن القارئ بأن كل شيئ قد انتهى بعد سقوط الطائرة في الفاشر ومقتل الفحل،وهو الشخصية المحورية ..
ليبحر القارئ ابتداء" من ايام دراستهما الأولى،مرورا" بالدراسة الثانوية ثم الجامعية ،ليبرز الفحل بين أقرانه دون لون سياسي أو مبدأ وطني ..فقط يساير الجميع ،مقدما" نفسه شخصية محبة لكل الألوان والاطياف والاراء،..يسلك من باب الصحافة كنقلة مهمة في حياته العملية ،مظهرا" توقده الذهني لمن حوله ..
وأثناء تلك العلاقات بين الفحل والسلطة آلتي امتازت بالشدة والجذب حتى سقوطه في احضان السلطة بعد سجن واخفاء قسري ،ليعين في منصب مهم وحساس ..ويختلف الصديقان ،وبهاجر الراوي كلاجئ هربا" مة مصير أسود،ناصحا" صديقه بالهرب ( هناك في الغرب البعيد الذي يموت فيه البشر بلا معنى ولا سبب ) ليبقى الفحل صاعدا" يوما" بعد يوم في سلم السلطة كشربك وكأحد ادواتها  حتى أضحى المسئول من ملف دارفور .. دارفور الإبادة والحروب الغير مبررة ..
اغرقوه بالمال ..ويظل يتسلق حتى اصبح بوما" هو المتصرف في أمور تمس حاضر ومستقبل السودان .. وحين يلتقي بصديقه خارج الوطن ( بلندن ) في إحدى زياراته كمسئول ،يلتقيه معاتبا" على ما ينتهجه ،ومحاولا" إنقاذه من الانحدار ،مذكرا" إياه بالوطن والشعب والمثل العليا .. يرد عليه بعصبية ( أين هدا الوطن ? وأين الشعب ? واين كنتم حين زجوا بي وراء الشمس ? ..دفعت ثمنا" من عمري في المجهول والرعب والإهانات ) ..رواية ( الفحل ) تقدم السودان كما هو من خلال شخصياتها .. وفي الوقت نفسه تقدم لنا علاقات السلطة بالغرب ..تلك العلاقات الغير مرئية ،لكنها تتجلى في تحقيق سياسة الغرب في فصل الجنوب عن الشمال ..ذلك الانفصال تم باحتفال رسمي وتهليل من النظام،عكس ما يروج له النظام في السودان ،من استهداف للرئيس وللاقتصاد السوداني..
لم تتجاوز شخصيات الرواية أكثر من من خمس شخصيات ..وهذا ما أعطاني كقارئ متعة الاقتراب من شخصيات الرواية ..وبالذات من الفحل وصديقه الراوي ..وكذا من ( ألسا ) صديقة الفحل ..تلك الشخصية الإثيوبية،التي كنت أتمنى لو أعطت مساحة أوسع،كعنصر نسائي من خارج السودان ..وشخصية أخرى ذلك الإنجليزي الذي حضر إلى الخرطوم بعد سنوات من رحيله ليعتذر عما بدر منه في زمن الاحتلال البريطاني ..وتلك الشخصية ،شقيق الفحل المتماهي ..إضافة إلى شخصيات هلامية لم يكن لها أدوار قوية ..
لكنها سخصية الفحل - المتناقضة - بالطيبة والقسوة ،بالبساطة والتلقائية والعنف ،بالجشع والعفة ،بالتسلط واللين ،بالشهوة ..الخ تلك الخصائص التي اخذت من تراكيب الشخصية السودانية الكثير .. الراوي شخصية أراد لها الكاتب أن تكون مثالية وناقدة ،وإن اخفق في صنع شيئ غير الهروب ..فاحساسي كقارئ عمقه الكاتب كشخصية سلبية ..فبطول الرواية الذي تجاوز 160 صفحة ،اكتفى الراوي بالنقد ،والنصح ،ولم يكن له دور فاعل في تلك الأحداث غير الهروب ،واللجوء للإقامة في الخارج ..أما تلك الفتاة ( ألسا) المظلومة فنيا" ،فتمنيت لو أن الكاتب أعطاها دورا" اوسع كما ذكرت سلفا" ..
هي تحية لعمل روائي رائع..تحية لذلك الكم من الفن الذي استخدمه الحسن محمد سعيد في هذه الرواية ..فن اجاده في هذه الرواية،كما عودنا في رواياته السابقة ..الفحل قرأتها اثناء سفري للمغرب ،وكانت خير رفيق ..قرأتها وأنا أرى صوت الحسن يحدثني وملامح ابتسامته ترافقني ..
هذا الكاتب وتلك الرواية التي أتمنى أن تنشر عبر دور تجيد التوزيع ،حتى تصل الي يديّ القارئ العربي..وكم أتمنى ايضا" ان تترجم إلى لغات عالمية ،ليرى القارئ أوضاع مجتمع يعاني من تسلط حكامه ..إن هذه الرواية  وبقية اصدارات الحسن تحمل قضايا وهموم وطنية،غاية في الصدق والأهمية ..هي لا تخص السودان ،بل المجتمع العربي قاطبة ..وهو الفنان في صياغة تلك الأحداث،وتقديم تلك القضايا في قوالب شيقة ،تشد القارئ،ليمخر بمتعة فائقة ..