عن الشعر وثورة ديسمبر

عن الشعر وثورة ديسمبر د.هاشم ميرغني  من العسيرِ الفصلُ بين الثورة السودانية والأدب؛بل إنَّ الناقدَ النابه عبد الماجد الحبوب يذهب في مستهلِّ مقالٍ نشره في مجلة "كتابات سودانية" عن "اللغة والثورة: تجليات وديناميات ديسمبر" إلى أنَّه: "لا يمكن التفكير في عظمة ثورة ديسمبر وعبقريتها دون أن تقفز

عن الشعر وثورة ديسمبر

عن الشعر وثورة ديسمبر
د.هاشم ميرغني 

 

 

 

 

 


من العسيرِ الفصلُ بين الثورة السودانية والأدب؛بل إنَّ الناقدَ النابه عبد الماجد الحبوب يذهب في مستهلِّ مقالٍ نشره في مجلة "كتابات سودانية" عن "اللغة والثورة: تجليات وديناميات ديسمبر" إلى أنَّه: "لا يمكن التفكير في عظمة ثورة ديسمبر وعبقريتها دون أن تقفز إلى الذهن مباشرةً تجلياتها وإبداعاتها اللغوية.بل إنَّ تجلياتها اللغوية هذه هي جزءٌ لا يتجزأ منها، هي الثورة ذاتها.لا تكاد تتشكَّل ديسمبر،وليس لا تكتمل فحسب دون لغتها وبغير اجتراحاتها اللغوية المدهشة،دون شعاراتها وأهازيجها،أراجيزها،أشعارِها،وغنائها...". أ.هـ.
هي دائرةٌ واسعة إذن ربما مثَّلت الشعارات الموقَّعة التي سارت على كل لسان، بل وعبرَت حدودَنا إلى الخارج  - لتنخرط في صنع ثورات عديدة - وجهَها الأجلى، وهي شعاراتٌ مكثَّفة غنية تستقطر ملاحمَ شعبيةً عميقةَ الغور، وتستنفر جُندَ الإيقاع، وتحاور لهجات ولغات شعبية لا حدَّ لثرائها وسعة معجمها في مقابل اللغة الإعلامية المتخشِّبة المحدودة التي تشيعها أجهزة إعلام السلطة في كل مكان، ولكن هذه الدائرة تمتدُّ لتشمل كافةَ الأجناس الكتابية والقولية.

 

 

 


 ولأنَّ دائرةَ السؤال عن جدلية الثورة/الأدب مفتوحة فسنرجئ الحديثَ عن العلاقة الوثيقة للرواية، والقصة القصيرة، والدراما بالثورة السودانية إلى وقت آخر سِيَّما أن رواية التسعينيات وما بعدها مثلا، والذي كان من قدرها أن تولد من رحم كابوس سنوات الإنقاذ، قد أشعلت ثورتها ضد النظام قبل ديسمبر 2018 بوقت طويل ؛ فمن يستطيع أن ينسى مثلا روايات مثل:"الطريق إلى المدن المستحيلة" 2000، و"الضفة الأخرى" 2000 لأبكر آدم إسماعيل ،و"الجنقو مسامير الأرض" 2009 لعبد العزيز بركة ساكن، و"طائر الشؤم" 1996، و"بذرة الخلاص"1996 لفرنسيس دينق، و"الغنيمة والإياب"1995، و"مندكورو"2001 لمروان حامد الرشيد، و"مسار الأسراب "2005 لمحمد الطيب سليم، و"ذاكرة شرير"2007 لمنصور الصويم، و"باب الحياة "2007 لمحمد بدوي حجازي، وهي روايات صنعت ثورتها قبل ديسمبر بوقت طويل، بل مَنْ يستطيع أن ينسى زغرودةَ سلامة في "عرس الزين" للطيب صالح ، سلامة "التي تزغرد لأنها تحبُّ الحياة"؟  لقد عادت ذات الزغرودة بعد أكثر من نصف قرن لتصدح في مقدمة المواكب الجسورة وهي تواجه آلة قمع أعداء الحياة، وتمضي فوقها قُدُمًا لتصنع سودانًا جديدًا.

 

 

 


لكن لنرجئْ الحديثَ عن ذلك لوقت آخر، ولنقتصر هنا على هذه الإشارة المختزلة إلى الشعر:
لم  تكن ثورة ديسمبر طفرةً اندلعت فجأة لتسقط الدكتاتوريةَ الأسوأ في تاريخ السودان بقدر ما كانت ثمرةً لتراكُمٍ طبيعيٍّ وإرث ثوريٍّ طويل هلَّت طلائعُ فجره الأولى منذ لحظة الانقلاب المشؤوم في الثلاثين من يونيو 1989؛ ولذا فإنها عندما انفجرت في التاسع عشر من ديسمبر 2018 لم تكن في يومها الأول بل في عامها الثلاثين، بل كانت مثلَ أكتوبر "في أمتنا منذ الأزل".

 

 


 والأدب السوداني على مدى ثلاثين عاما وأكثر لم يكن ممهِّدًا لهذه الثورة أو صانعًا لها فحسب؛ بل إنه قد صنع ثورته على الورق، وفي وعي  الناس ووجدانهم قبل أن يحوِّلها لثورة على الأرض،؛ ولهذا لم تكن مفارقةً أن تهُبَّ أصوات شعرية رحلت منذ سنوات لتجدلَ ضفيرةَ الثورة مع قصائد كُتِبَتْ توَّاً؛ فقصائد شعراء راحلين أمثال حميِّد ومحجوب شريف والدوش، بل قصائد شعراء تعود إلى أزمنة سودانية بعيدة تتآزر كلُّها مع قصائد محمد المكي إبراهيم،،وعالم عباس، وأزهري محمد علي، ومحمد طه القدَّال، وهاشم صديق، ويحيى فضل الله، وقاسم أبو زيد، ومحمد بادي، وبابكر الوسيلة، وعصام عيسى، وعثمان بشرى، وعاطف خيري، وعمر عبد المجيد، وعشرات الأسماء التي لا يمكن الاستمرار في حصرها دون خطأ في العد  - وأغلب أعمالها كُتِبَتْ قبلَ ثورة ديسمبر بسنوات أو عقود ،كما تتآزر، في ذات الوقت، مع قصائد الشباب الذي أشعلوا الثورة واشتعلوا كمروة بابكر ومعد شيخون وأبي بكر الجنيد وعشرات الأصوات المدهشة التي اندلعت عبر الميديا وفي شوارع الثورة،وفي ميدان اعتصامها.  بل إنَّ بعضَ قصائد محجوب شريف ـ الذي رحلَ قبل أن تكتحل عيناه برؤية سودان حلم به، وعمل من أجل تحقيقه طويلا ـ كانت تتطابق بشكل مدهش مع يوميات الثورة السودانية؛ فعندما كان المجلس العسكري ـ اللجنة الأمنية للنظام المباد يماطل في تسليم السلطة لحكومة مدنية كان لسان حال الثورة هو صوت محجوب شريف :
يا جلوسًا فوقَ الأرائكْ
والمسدَّسْ تحتَ الحزامْ
نحن شعبًا للفجرِ حايكْ
درَّبَتْنا أيادي الصِّدامْ
..............
سوف نصمُدْ مهْمَا حِزنَّا
لو نلاقي الموت ِسِنَّة ِسِنَّةْ
وكلُّ قطرة دمْ تبقَى حِنَّةْ
الليالي لكي تمتحنَّا
علَّمَتْنَا مسَكْنا الأعنَّةْ
مافي حُراً حُريِّتو مِنَّةْ
والببايع قَطْ ليسَ مِنَّا
 والبيخونْ الشُهَدا الكرامْ
قدلة يا مولاي حافي حالقْ 
في الطريق الشاقي الكلامْ
     بل إن عبارة "البيخونْ الشهدا الكرام" ما زالت تمتلك حضورها الساطع ، ودلالاتها الفاجعة الآن بعد عامين من اندلاع الثورة؛ والأدهى أن يحدث ذلك من قِبَل سلطة دُفِعَ مهرُها من دماء الشهداء الأكرم منا جميعا، ولكنَّ ذاكرة السياسين قصيرة الأمد مثلما ذممهم شديدة الاتساع. 

 

 

 


    ومن نبوءاتِ شعرِ ما قبل الثورة أيضًا ماكان يراه الشاعر محجوب شريف رأي العين: الشوارع وهي تستجمع شتاتها، وتهب هبَّتها الباسلةَ لتطيحَ بالزمرة الباغية التي تربعت على قلب الوطن ثلاثين عاما: 
وتطلعْ من شقوق الأرض آلاف المدن قاماتْ
ويطلع حتى من قلب الحجرْ والصىْ
شجرْ متشابكْ الهامات
وجيل جايي حلو الشهد
صبايا وفتية يمرحوا في صباح الغد
عيونُم برقهن لمَّاح، سؤالم رد،
خُفاف ولُطاف؛ وثّابين أوانَ الجد
دفاعًا عن حياض السلم والإفصاح
سلِّموا لي عليهم جُمْلَة
حتى اللسّة قبل الخلق والتكوين
صُنَّاع الحياة اليوماتي ملح الأرض
نبض الشعر والموسيقى والتلوين
هدَّامين قلاع الخوف
نقَّاشين جدارَ الصمت
نسَّاجين خيوطَ الشمس
 كهربجية الظلمات
وأجمل ما تكون الدنيا
رسَّامين حفَّارين مجارى العصر، نصرًا نصر.
وهو الجيل الذي ما زال يحلم بصنع ثورته كاملةً؛ فمن أطاح بهم وخرجوا من الباب؛ تسللوا بالنافذة ليتحالفوا مع بقاياهم هنا أو هناك؛ وما زالَ دمُ الشهيدِ صارخًا في البريَّةكدمِ هابيل. 
ختاما؛ 
يمكن القول باستحالة الفصل بين الشعر والثورة ؛ فالشعر نفسه هو فعل ثوري بالأساس :ثورةٌ ضد اللغة في سكونها وثباتها ومعانيها المحدَّدة سلفا؛ ورهانٌ على قوة الكلمة لتغيير الواقع، وصوتُ الضمير الصافي في وجه كدَرِ السلطة و"كجرِها"،  أمَّا إيقاعُه فهو لِلَمْلمة ما تناثرَ منا في فوضَى هذا العالمِ، وبعثرتهِ التي لا تُطاق.