صورة الآخر في نصوص حامد جمعة:
صورة الآخر في نصوص حامد جمعة: أبوطالب محمد اتخذ الراحل حامد جمعة آدم الكاتب/ القاص والشاعر مِعرَاجاً للتحليق في فضاء الأدب تحليقاً مُدهشاً. صانعاً علاقات استمرار بين موضوعات مختلفة
صورة الآخر في نصوص حامد جمعة:
أبوطالب محمد
اتخذ الراحل حامد جمعة آدم الكاتب/ القاص والشاعر مِعرَاجاً للتحليق في فضاء الأدب تحليقاً مُدهشاً. صانعاً علاقات استمرار بين موضوعات مختلفة في إنتاجه المسرحي الذي تمثل في القهر، السلطة، التهميش، الحرب، الاستغلال، الحب، الكراهية والمرض، تأكيداً منه على تعرية غطاء السلطة السياسية في شتى مستويات استبدادها تجاه المجتمعات السودانية.
تركت الأحداث الدّموية في تاريخ السودان الحديث بصمتها الواضحة على كِتاباته المسرحية، مما حفز موضوعات مسرحياته بقضايا عِدَّة، لذلك من الطبيعي أنَّ يزداد طرح هذه المُشكلات في تجربته المسرحية بصورة أشمل، فقد تضاعف حِرص الذات السودانية داخل بنية أعماله المسرحية على تأكيد مناقشة أزماتها، والتصدي إلى مواجهة السلطات المُستّبِدة.
تأتي من هُنا أهمية مسرحياته في سِياق تاريخ المسرح السوداني، لأنَّ نُصوصه المسرحية كُتبت في فترات متقاربة أي في الثمانينيات والتسعينيات والألفية الثالثة، وهي ذات الفترة التي نهض فيها خِطاب المسرح السوداني الحديث مُتصدياً لقضايا المقموعين والمهمشين والمُستبَدين. ومن إنجازات هذه الفترة وسعت مفاهيم الأُطر الاجتماعية في الحقل المسرحي. إذ لم تعد مُقتصرة على تجربة مسرحية بعينها بل انفتحت وشملت مثل تجربة" الفاضل سعيد، جمال حسن سعيد، مجدي النور وغيرهم"، فلفتت النظر إلى أنَّ ثمة قضايا اجتماعية تعاشر خِطاب المسرح.وتُشكل جزء أساسياً في بنائه، فبدأت مؤثرة في تفكيرهم.
والسؤال الذي يجب أنَّ يُطرح من هو المقموع أو المهمش الأكثر حضوراً في خِطاب المسرح في تلك الفترة هل هو إنسان دارفور؟ أم جبال النوبة؟ أم الغرب؟ أم الشرق؟ أم الوسط؟ أم المدني؟، لأنَّ هذا الإنسان أصبح في موقع أشبه بموقع الضحية نسبةً إلى التناحرات الحزبية والجهوية. لابُدّ هُنا أيضاً أنَّ يُطرح سؤالٌ جوهريٌ آخر لِمَ ابتعد المسرح السوداني في العقد الحالي عن تلك القضايا؟ واكتفى بتسليط الأضواء على موضوعات فنية في غاية الانفصال عن مجتمعاتها.
هل اتسعت الفجوة بين الأجيال؟ أم دخلنا في مرحلة جدّيدة من مراحل العجز وغياب الوعي بواقعنا المعيش وجسدنا خِطاباً مسرحياً خاطئاً.
برز من هُنا حامد جمعة عبر محاولات نقدية في الكتابة متعدّدة شملت مجال القصة، الشعر، التمثيل والكتابة المسرحية، فاضحاً أوهام الذوات السلطوية وانحرافاتها الأخلاقية، خصوصاً في نصوصه المسرحية حين كتب مسرحية " الألف باء، رجل وامرأة، الأنا والآخر ولا نعم".
إنحاز فيها بشكل كبير إلى إنسان الهامش المنسي وتغلغل في أعماق خلفيات مشاكله، بارزاً أهمية وجوده في الحياة ونابذاً سياسات التفرقة التي ميّزت بين فئة وأخرى وولجَ إلى عوالم رحبة في المجتمع منادياً بتحرره من سلطات الإكراه التي نشأ عليها. ومن سلطة الحاكم الذي ألهب نسيج المجتمع تعذيباً وأورث أجياله فقراً واشعل في أرضه حروباً وبدل حريته قهراً حتىَّ هجر موطنه.
وعندئذ يُمكن للقارئ المُبصر أنَّ يعايش تجربة حامد جمعة المسرحية الأصيلة التي جمعت بين توليف منظومة الطبقات الاجتماعية التي أسس عليها مسرحاً اجتماعياً جامعاً ومنفتحاً على كافة الفئات وخصوصاً حين أدرج وشائج الثنائيات " إفريقي وعربي"، وبثّ الحيوية في ترابطهما عبر حقب خلت وقارئاً في الآن نفسه تفكك نسيجهما.
رسم صورة للسلطة في مسرحيته" لا و نعم"، فأشاع فيها ثقافة الكراهية التي شبت عليها وأتى بنتيجة تدمير الذات السلطوية نسبةً لنبذه إلى ثقافة العنف. إنّ تجربة حامد جمعة عبر "الألف باء ورجل وامرأة والآنا والآخر"، اتاحت فهماً لخصوصية الذات السودانية التي شُوهت من قبل مُستّبِد عظّم ذاته وارتهن لنظرة واحدة اقصائية احتقرت كلَّ من لم ينتمِ إليها واستمر في ممارسته قاهراً المختلف عنه.
إنّ ما يسجل في هذه النّصوص أنَّها اهتمت بمناقشة مشكلات اجتماعية في إطارٍ كبيرٍ مع مواجهة السلطة المُستبِّدة بمسمياتها المختلفة. وارتكزت على بنيات درامية متباينة في الشكل والمواضيع.
ويلاحظ أنَّ مسرحية" الألف باء"، نهضت على بنية درامية خبرية أي هيمن الخبر على بناء النّص بصورة طغت على الحوار الدرامي بين الشخصيات، حيث تمظهر الخبر في مُقدّمات أي حوار إضافةً إلى عتبات المشاهِد مثل (رجل يقتل سبعة من أبنائه وزوجته. عجائب)
صمت
(امرأة تذبح بنتها وتطهوها لتقدّمها كوجبة.غرائب)
صمت
(ثلاثة رجال يقتصبون طفلة في الثالثة من عمرها ويقتلونها...وحوش)
صمت
عرضت هذه المسرحية وغيرها من المسرحيات قضايا اجتماعية معاصرة تشابكت فيما بينها وتعقدت أبعادها الناتجة عن القهر الاجتماعي والسياسي وبدورهما أباحا فعل الاضطهاد العنصري. مما جعل النّصوص غنية بأفكارها وأطروحاتها وتفرعاتها وأساليبها وتقنياتها البنائية التي لعب فيها المصدر الخبري دوراً رئيساً في حدوث أمر تكاثرت وقائعه حديثاً في المجتمع. لأنَّ بنائها اعتمد على أحداث مركزية، مثل( الحرب، القهر، الفقر وغيرها) ، كما أنَّها راهنت على بناء درامي متداخل فنياً في مشاهده وحواراته الخبرية. فلو تأملتَ عناوين النّصوص لوجدتَ أنَّ الكلمات أو الأحرف تشير إلى إحداثيات وقائع حدثت، مثل نعم لفعل القهر ومقابله لا للقهر داخل جسد النّص وقس على هذه المتقابلات في النّصوص الأخرى أي تلاحظ المسمى الحرفي ونقيضه في داخل أبنيتها موجود بصورة تدل على متقابلات أخرى، وهي أحرف مجردة من الدلائل الواضحة، لكنّ غموضها تكشّف على لسان الشخصيات وأفعالها المتباينة، ولكنّها أحرف تمّ تفسيرها بصورة تشير إلى تحوّلات الراهن الاجتماعي إلى راهن مُشين بكل مستويات أفعاله.
صورت النّصوص عالماً اجتماعياً حافلاً بالإضطرابات والانفعالات المتنوعة مقابل التناحرات المتناقضة، ونرى في مسرحية " لا و نعم، و رجل وامرأة"، تغير هذه الانفعالات بتداول عواطف وأمال وطموحات ولقاءات تبادل مشاعرية تكثّف رصيد العواطف الكامنة وتحتم توليد المفارقات بطرق أوسع.
إتضح مما تقدم إنّ همّ حامد جمعة الأساس تراوح في ابراز صُور مرئية مُستقاة من واقع الاضطهاد السياسي الناتج عن سلطة مُستبِد جعل من هذا ممكنا.
وحظيت مسرحيات الراحل بشهرة ظافرة في خشبات المسارح وصارت ملاذ طلاب التخرج في كلية الموسيقي والدراما وكلية التربية جامعة النيلين وقصر الشباب والأطفال لأنه ترك إرثا مسرحيا عامرا بالمعرفة ووضع بصمة واضحة لموضوعات مستبصرة تحولات المجتمع السوداني.