سكوت ..إنّي أحترق

سكوت ..إنّي أحترق. اسيا رحاحلية.. الجزائر الكتابة فعل احتراق " سمر يزبك

سكوت ..إنّي أحترق

سكوت ..إنّي أحترق.

اسيا رحاحلية.. الجزائر

 

 

 الكتابة فعل احتراق " سمر يزبك
-  لماذا تكتب ؟
فاجأني سؤاله و كنت ساهما , شارد الذهن , أتابع بعين قلقة رواد المقهى الداخل منهم و الجالس , بين أناملي سيجارة شارفت على الموت و روايتي الجديدة تقضّ تفكيري , سطورها تسبح بضبابية في أفق خيالي .
أسحقُ بقايا السيجارة في المنفضة , أقول باقتضاب :
- لا أدري . لمَ تسأل الآن ؟
- لأن كل أفعالنا و تصرّفاتنا لها أسبابٌ و دوافع . و بصراحة كلما رأيتك مهووسا بالكتابة احترت في دوافعك .
قال ذلك و أصابعه تعبث في دفتر صغير أمامي على الطاولة , أحمله معي في كل مكان كأنّه وثيقة هويّة , أدوّن فيه فكرة تهدّد بالهروب أو عبارة تتمنّع عن حضن الذاكرة .
هكذا شأنه معي دائما . تعوّدتُ مشاغبته و أسئلته كلما التقينا لبعض الوقت هنا في مقهى الحي لشرب الشاي . لم يمض وقت طويل منذ انتقل بعائلته للسّكن بالجوار , و أصبحنا أصدقاء , في زمن قياسي . أحببتُ الرجلَ فعلا . مدرّس رياضيات في العقد الثالث من العمر . لا يعنيه الأدب و لا يفهم في الإبداع و لكنه طيبٌ و ظريف , دائم المرح و ذكيّ جدا .أجد في صحبته راحةً و متعة وكثيرا ما ينقذني بحديثه و نكاته من كآبة الحاضر . و الأجمل أنه يتحمّل تقلّب مزاجي و يغفر لي شرودي و صمتي .
قال و قد يئس من الحصول على إجابة :
-انظر .أترى ذلك الرجل هناك ؟ نعم .. صاحب ربطة العنق المخطّطة . انظر إلى ملامحه العابسة و كرشه الكبيرة ..أكاد أجزم أنه إداريّ متورط في قضيّة رشوة..و زوجته اكتشفت أنه يخونها مع السكرتيرة . ما رأيك أن تكتب قصته ؟
واصل و هو يتمطّى في كرسيه بثقة كأنّه أسدى لي خدمة لا تُقدّر بثمن :
-ها أنا أعطيتك الفكرة و يمكنك أن تتخيّل البقيّة .
يا للسذاجة ‼ كأنّما الأفكار هي الإشكالية ..كل هؤلاء قصص ..السّمين و النادل و صاحب المقهى و أنت و هذا الكرسي ّ و تلك المتسوّلة الجالسة على الرصيف المقابل طيلة فصول السنة تستجدي الحياة من المارة ..كلهم قصص ..كلهم....
- شكرا لك يا صديقي ...سأفكّر في ذلك .
يرتشف الشاي الساخن محدثا صوتا :
-أحيانا أحتار في أمرك وأود لو أسألك كيف استطعت كتابة كل أعمالك .. لا تقل لي أنك أفقتَ يوما من النوم فوجدت نفسك كاتبا ..؟
أرمق الرجل السّمين . ألتقط له صورة أدسّها بين صفحات الذاكرة . قد أجعله يوما يتحرّك على رقعة حكاية وهمية .
_ الأمر معقّدٌ قليلا , كيف يمكنني أن أشرحه لك ؟
ترى , أيّ مفردات سأنتقي لأحدثه عن الموهبة و الهاجس الإبداعي و حمّى الكلمة و الممارسة اللّغويّة اللذيذة ..عن فوضى المكان و الزمان , عن متعة التشرّد في أزقّة اللّغة , عن الغربة وسط الناس و الأنس بالأبجدية ؟ .
هل أقول له أني أكتب فرارا من غطرسة الواقع و بلادة الزمن ؟ أأحدثه عن حالة البؤس التي تعتريني حين يعاندني القلم أم عن الفرحة التي تكاد تفجّر القلب بولادة النصوص ؟ كيف أصف له بهجة روحي بأول نص نُشر لي في الصحف , غبطتي بالمعجبين , حبّي لأبطالي الوهميين الذين أستطيع بجرّة قلم أن أبعث فيهم الحياة أو أسلمهم للموت ؟ .. حروبي على الورق ضد الظلم و البشاعة و الكراهية , وقوفي الأول أمام الجمهور و أنا أبتسم في خجل مفتعل , كأني آخر الفرسان الفاتحين يقف بباب مدينة أسطورية استعصت على غيره ..

كيف أشرح له كل هذا ؟
قلت له و أنا أشعل سيجارة دون أن أحوّل نظري عن الرجل السمين و قد بدأ يثير اهتمامي فعلا:
- تستطيع أن تعتبره نوعا من المرض .. لا يصيب سوى أناس معيّنين , شريطة أن يكون لديهم استعداد فطري لاحتضان الفيروس ..و لكنه لسوء الحظ , حظُ أمثالي أقصد , هو غير مزمن .
قهقه ضاحكا :
-شخصيا ..ما يهمّني هو أن يكون غير مُعْدٍ ..
و أضاف :
- إن كان الأمر هواية يمكنك التغيير يا أخي . خذ لك هوايات أخرى و ارتح . ما رأيك في الرهان الرياضي مثلا أو ..أو...كرة القدم ؟
قلت مبتسما و أنا أراقب خيوط دخان اللفافة تصعد كثيفة ثم تتحوّل إلى لا شيء :
-كلها ألعاب .. هم يلعبون بالكرة و نحن الكتّاب نلعب باللغة .
هزّ رأسه و قلّب شفتيه :
-هذا مثير للاهتمام . لكني واثق يا صديقي أنك لو لعبت باللغة من الآن إلى يوم يبعثون فلن تحصل على ربع ما يكسبه لاعب كرة محترف في مقابلة واحدة ‼
ثم استطرد و هو يعاود العبث بدفتري :
-على فكرة ..كم كسبت من روايتك الأخيرة ؟
آه ..يا أنت ..إنها أكثر من رواية ..إنها احتراقي , إنها رماد عمري منثورا على الأوراق ‼
نظري لا ينزل عن الرجل السمين . يحدّث رفيقه بانفعال شديد , يلوّح بقبضة يده ثم يضرب بها الطاولة ضربات خفيفة متتالية .
_ لا شيء . طبعتها على حسابي الخاص بعد عناء كبير .
أطلقَ ضحكة عالية و قال بسخرية :
-أرأيت ؟ لذلك أشفق عليك من العناء . لم يبقَ سوى أن تدفعَ للناس كي يقرؤوها .
أتفرّس في وجهه البشوش كوجه طفل كبر قبل الأوان..أشاركه الضحك , ربما لأشيح بتفكيري عن الفاجعة في معنى كلامه .
كيف أفهمه أن هذا العناء هو حياتي و وجودي .. أنّه تورّط , تفتّت , تعنّت , احتراقٌ مستمر , مكابدة لذيذة رائعة .. أنّه شذوذ عن المنطق و المألوف و رحلة بحث عن انتماء ما في عالم لا يمكنني الانتماء إليه .. بأية لغة أشرح له أن الكتابة وحدها توقظ في داخلي مواتَ الأمل , تصالحني مع الماضي و مع الآتي ...وحدها تبقيني على قيد الحزن و.... الحب . ثم هل سيفهم لو أخبره أنه يدينُ لي بالكثير , لأني أحلم نيابةً عنه و عن ذلك السمين و عن العالم , و أتألم نيابةً عنه و عن العالم و أتنازل , حين أكتب , عن أحقّيتي في حب نفسي فقط , و كره العالم ؟
هل سيفهم ؟
- حسنا يا صديقي...ليس أني أضيق بصحبتك و لكن يجب أن أذهب لقضاء بعض الأمور . أراك قريبا .
قال ذلك و وقف مودّعا . هل قرأ في عينيّ أمنيةَ أن يكفّ عن الثرثرة و يدعني و شأني ؟
أحسست براحة و أنا أجلس إلى الطاولة لوحدي أقلّب نظري في الوجوه ..قبل أن أحمل شتاتي و أعود إلى البيت .
غرفتي غارقة في الفوضى . على المكتب كتبٌ و دفاتر و بضع أوراق مبعثرة تنتظر هطول الحبر , أقلامٌ ممدّدة في سكون كأنما ترتاح من حصار أناملي , فنجانُ قهوة باردة راكدة غلّفها الغبار نسيتُ أن أشربها في غمرة قلقي و انفعالي ..كل شيء في مكانه . زوجتي و أبنائي حفظوا الدرس ..حذّرتهم من لمس أي شيء في صومعتي و لو حتى ورقة مهملة ملقاة على البلاط .
أغيّر ثيابي . أتخلّص من ربطة العنق الخانقة , أرمي بالجاكتة على كرسيّ عتيق يقبع بجانب السرير ..تزعجني أصوات عالم غريب يتحرّك خارجا فأغلق النافذة و أرخي الستائر ..أبحث عن السّكون ففي رأسي غليان رهيب . أقلّب أوراق روايتي الجديدة لأبدأ حيث توقّفت أو ربما أضع النهاية قبل أوانها أو أغيّر البداية تماما ..

لا أدري ..كله وقفٌ على حالة احتراق تتلبّسني .
______