حوارية الفهم بين النص والآخر

حوارية الفهم بين النص والآخر قراءة في قصائد فاضل عزيز فرمان علي حسين عبيد في محاولتنا لاكتشاف النص ستنشأ علاقة التحاور بيننا وبين طرف متحرك تنبض فيه الحياة هو الشعر

حوارية الفهم بين النص والآخر

حوارية الفهم بين النص والآخر
قراءة في قصائد فاضل عزيز فرمان

علي حسين عبيد

 

في محاولتنا لاكتشاف النص ستنشأ علاقة التحاور بيننا وبين طرف متحرك تنبض فيه الحياة هو الشعر، وأية محاولة تتجاهل هذا الأمر ستجعلنا نحاور الجماد او العدم، وبذلك فإننا سندخل مع النص في حوارية الفهم الهادف الى إقامة علاقة مع النصوص الأخرى وإعادة تأويلها في سياق جديد وسنبحث في جوانب عديدة يشتمل عليها (بيت الشاعر) فاضل عزيز فرمان منها مقاربات التأويل التي تنبثق من دلالات البنى اللفظة والفنية والفكرية للخطاب الشعري وكذلك سنلج عالم الفن داخل هذا البيت حيث التكثيف الشديد للصور الشعرية واعتماد الموسيقى في بناء النص الشعري بما يشبه الكونشرتو والتي تعد (منافسة ودية بين الآلات الموسيقية).
ان النص الشعري لدى فاضل عزيز فرمان يبحث عن تفرده من خلال الأثر الذي يحققه في الآخر على المستوى الروحي أولا ويعتمد في ذلك على كون الشعر حالة خلق مطلق، أي أن حوارية الفهم التي يقيمها مع الآخر ستصل إلى النتيجة المبتغاة في التوغل إلى الأعماق الغائرة في ذاته حيث الملامسة الأولى لمشاعر الآخر ومن ثم احتوائه ومنح روحه تلك النفحات الجمالية التي يهدف اليها النص الشعري قبل أي شيء.
إن أعمق القراء ثقافة وأقلهم عمقا لديهم باعتقادي هدف واحد، يتمثل في البحث عن الوجوه الأخرى التي يخفيها الوجه الظاهر للنص الأدبي، أي أننا في محاورة أولى مع النص سنبقى خارج حدود (البيت) الذي يفتح لنا أبوابه باحتفالية لا تخلو من الاغواء والحفاوة تمنحنا متعة وامضة لكننا بعد ذلك سنشعر بأننا لم نصل الى ما نبتغيه، ان حفاوة البيت على سهولته لم تستطع انتشالنا من ذهولنا ازاء النص وان المتعة الخاطفة المتحققة لم تقدنا إلى التآلف الكلي معه، ان حوارية الفهم هنا ستبقى ناقصة في حين سنلمس إخفاق الآخر في تحقيق مسؤوليته ازاء النص، فالقارئ في الأقل كما يتخيله المؤلف (بحسب ما يذهب إليه باختين) يشارك بصورة متساوية في عملية إنتاج الخطاب لهذا فإننا بحاجة إلى قراءات أخرى وبمستويات متعددة على الرغم من أن النص للوهلة الأولى يبدو قريبا منا ويمنحنا نفسه بسرعة واضحة وحين نقرأ مقطعا من قصيدة " لصديق جديد" :
(غدا حين تأتي .. وتطرق بابي
سيفتحها لك يا صاحبي
توأمان..
هما ..
هدأتي ... واضطرابي)

إننا حتى الآن سنصل إلى هدف الشاعر لكننا لم نصل إلى ما نريده نحن إذ أننا سنبقى نشعر بنقص التوصيل/ الروحي وسنشعر بعائق ما يشوب الحوار وبدافع من المتعة الفنية والتواصل الفكري سنحاور النص مرة أخرى ونتابع:
(هما ... وأنا
واحد يا صديقي
ولكنه خلل في المرايا).

هنا يجعلنا النص أكثر حيرة وفي الوقت ذاته يستفز فينا ملكة الحوار وهو هنا ليس حوار العقل/ النص بل ما أقصده أو ما يفترضه الشعر نفسه هو حوار الروح/ النص، " فالصورة الشعرية هي بروز متوثب مفاجئ على سطح الروح " وسنلاحظ بعد ذلك تعدد القراءات وما وصلنا إليه في مرحلة الفهم.
إن الشاعر أو المبدع في أي مجال كان .. يحلم بخلق الروح التي ترفرف على وجه النص أو "الجسد" المخلوق وان جمالية الروح هنا تكمن في تعدد وجوهها المرئية والمسموعة على حد سواء وهذا ما نقترب من رؤيته في "بيت الشاعر" وفي قصيدة "الصفعة" سنزعم بأننا في قراءة واحدة فقط سنفرغ منها لسهولة وقلة جملها ومفرداتها:
(حينما فتح القفص الذهبي
ليطلق طائره في الفضاء
ويبصره مثل كل طيور السماء
سقط الطيرُ
من
كفه
ميتا).

لكننا كما هو الحال في قصائد أخرى سنحاور هذه القصيدة ثانية حتى يكتمل لدينا الفهم وننتهي من مسؤوليتنا في إعادة كتابة النص روحيا، كتابة جديدة هي كتابتنا نحن لتصبح قصيدتنا مثلما هي قصيدة الشاعر، في جانب آخر نلاحظ ان فاضل عزيز فرمان معني كثيرا باختزال جمله وتكثيف الصورة الشعرية بأقصى ما يمكن وهي تكاد تعم نصوص "البيت" بأكمله.. فهو لا يذهب إلى الإسهاب الذي يثقل جسد القصيدة فينتقي مفرداته بما ينسجم وهدف النص الأساس لان الشاعر كما يقول بيير جاون جوف "هو الذي يعرف أن يتجاوز ويضع ما يعرف من كلمات" وان التهمة التي تذهب الى ان الاقتصاد في البنية اللفظية التي تهيكل النص دليل على النضوب الشعري ستبدو هنا غير موفقة، فالشعر هنا ليس سيولا متلاحقة من الألفاظ بل يمكن لنا مقارنته فقط بالفكر اليقظ المشحون حبا بشيء مجهول وهو يحاول ملامسة الروح بأقل ما يمكن من الألفاظ:
(طائر من خشب
هبط الحب
فوق جناحيه في غفلة
فاستفاق الزغب)

هذا ما يؤلف ميزة قصائد "بيت الشاعر" فالكلمة الشعرية كما اعتقد تمر في مخاض عسير حتى تجد لها مكانا في جسد القصيدة، وقد يخامرنا تصور كاذب في قراءتنا الأولى بتعري القصائد من ثيابها وارتمائها في أحضاننا وهذا ما يلغي حالة المخاض التي تعانيها القصيدة بأكملها وليس المفردة وحدها لكننا ما نلبث أن نُفاجَأ بإحساس آخر جديد عندما تبدأ القصيدة بمحاورة الروح ومن ثم احتوائها . وفي المنحى الموسيقي الذي تقوم عليه أجواء البيت برمته ترتسم أمام العين دكة واطئة يقف عليها المايسترو فاضل عزيز وترتصف قبالته قصائده / الآلات الموسيقية للكونشرتو وتبدأ المنافسة الودية بين هذه الآلات / القصائد أثناء العزف / الكتابة، ليصل إلى الفحوى الموسيقي المكوَّن من تصارع الأصوات الموسيقية المتوحدة أخيرا في لحن متناغم يدغدغ روح القارئ.
إن قصائد بيت الشاعر جميعها مموسقة على وفق تفعيلة البحور الفراهيدية .. فهي تعتمد الموسيقى الخارجية هيكلا لبنائها الفني لكن هناك موسيقى داخلية/ لفظية تدخل في التحاور والسمع في وقت واحد.. وما اقصده هنا ليس الدندنة الخارجية الجامدة الخالية من الروح وإنما تلك الموسيقى التي تنبع من معاني الألفاظ العميقة القادرة على مطاولة الروح ومحاكاتها وإدامة الحوار معها.. وفي هذا الخصوص يرى أدغار الن بو في بحثه " المبدأ الشعري" (ان تطور الشعر الأكثر وعدا يكون ارتباطه بالموسيقى):
(مثل ناي حزين
راح ينسج
أو ينشج أغنية
ملء أنغامها
خطرات الأنين).

إن العلاقة بين الشعر والموسيقى مشبعة بالبحوث والدراسات، وان موسيقى الشعر لا تعني ارتباطه بالتفعيلة، وإنما هناك موسيقى تنتظم اللفظ كلما كان فعل اللفظ "كمعنى" قائما وان النثر يحتوي في سلسة سطوره على "الموسيقى السيكولوجية المسموعة" التي ترتبط بلحظة ممارسة التلفظ او الكتابة .. وما اود قوله هنا بصدد قصائد بيت الشاعر هو احتواؤها على الجرس الداخلي المرتبط بسيكولوجية الشاعر فرمان لحظة مزاولته كتابتها وإن بدت موسيقاها العامة/ التفعيلة، أعلى صوتا.
مما تقدم تتضح لنا عبر هذه الحوارية ثلاثة وجوه:
مقاربات التأويل / تكثيف الصورة الشعرية/ الموسيقا، تتصدر واجهة "بيت الشاعر" وحاولنا هنا ان نقيم حوارا معها وصولا إلى مرحلة الفهم المتبادل .. فالنص والآخر بحاجة إلى مد جسور كهذه بعيدا عن العجالة التي غالبا ما تغمط حقوق الطرفين وأكثرهما تضررا في ذلك هو الشاعر أو منتج النص كما اعتقد.