حارة النبع المالح 

حارة النبع المالح  عائشة سعيد حداد... الجزائر  وسط  ديكور من المنازل الطوبية الجاثية ، والأزقة الضيقة ، ورائحة الملح والطحالب حارة للأحياء تجاور مدينة للمدافن . يفصل بينهما سور ممتد كالهزيمة ، يقف شاهدا على فوضى وخوف الأحياء وسكينة الميتين . كانت لالة خديجة متوترة تعض شفتيها وهي تعد في طبق الكسكسي الشهي بسبعة من أنواع الخضار وما إدخرته من لحم قديد لأبنائها وزوجاتهن ، نادت على إبنتها الصغرى وهي تنفض كفيها من حبيبات الطعام وتزيح القصعة جانبا ، تأمرها بجلب الماء من النبع المالح وبالإكثار منه ، وأن تتولى كنس عتبة الدار وتضيف حجرا تسد به مدخل خم الجداد .  بحركة خفيفة أقرب للسحر رفعت لالة خديجة إناء الزبدة التي فار ملحها على الكانون فكادت ناره تخبو . شتمت علنا فصل الشتاء وخلفة البنات . 

حارة النبع المالح 

حارة النبع المالح 

عائشة سعيد حداد... الجزائر 

وسط  ديكور من المنازل الطوبية الجاثية ، والأزقة الضيقة ، ورائحة الملح والطحالب حارة للأحياء تجاور مدينة للمدافن . يفصل بينهما سور ممتد كالهزيمة ، يقف شاهدا على فوضى وخوف الأحياء وسكينة الميتين . كانت لالة خديجة متوترة تعض شفتيها وهي تعد في طبق الكسكسي الشهي بسبعة من أنواع الخضار وما إدخرته من لحم قديد لأبنائها وزوجاتهن ، نادت على إبنتها الصغرى وهي تنفض كفيها من حبيبات الطعام وتزيح القصعة جانبا ، تأمرها بجلب الماء من النبع المالح وبالإكثار منه ، وأن تتولى كنس عتبة الدار وتضيف حجرا تسد به مدخل خم الجداد . 
بحركة خفيفة أقرب للسحر رفعت لالة خديجة إناء الزبدة التي فار ملحها على الكانون فكادت ناره تخبو . شتمت علنا فصل الشتاء وخلفة البنات . 
لالة خديجة سمراء بملامح جادة نادرا ما تضحك ، بجسم ممتلىء وقامة طويلة ، ترتدي الأسود دائما ، تحب شرب القهوة باردة في كل الأوقات ، تثاقلت وهي تعد طاولة العشاء ، فالليلة موسم ( الدراز – رأس السنة الأمازيقية ) .. ملعقة .. ملعقتان .. ثلاثة ملاعق حتى بلغوا ثمانية بعدد أبنائها وزوجاتهن واطفالهن .. يدور الحديث والسمر والتلذذ بطعام العشاء . تتعالى الضحكات والوشوشة ثم تكشف لالة خديجة عن قلقها بسؤال يفضح إتهاما ، مخاطبة زوجة إبنها البكر التي قل مازارتهم في حارة النبع المالح ، فهي رغم جمالها وإبتسامتها العريضة لكل من تلتقيه صغارا وكبارا وحتى مجانين الحارة ،إلا أنها كانت تتجنب الغوص فى تفاصيل ثرثرة نساء العائلة . قالت لالة خديجة : لماذا لم تحبلي وتنجبي . ؟ أم أن بنات المدينة لا يكترثن لذلك ؟  نظرت الزوجة إلى زوجها برموش مثقلة وعيون حائرة تتوسل إليه في صمت أن إدفع عني الأذى . وضع الإبن ملعقته بعد أن خيم صمت رهيب علي الحضور . جر خطاه خارجا إلى فناء الدار الضيق الذى تتوسطه شجرة زيتون مائلة ربطت إلى جذعها معزة تجتر حفنة شعير . أشعل سيجارته ، تبعته أمه قالت له بصوت دافىء : يا (حنوني ) إن رضيت زوجتك إبنة خالك ؟ أطفأ سيجارته علي حجر من الحائط المبتل بقطرات المطر ، تنفس عميقا ، وبعينين ممتلئتين بالدمع ونبرة حزينة : يا ( حنوني )... أخيرا نطقتها ؟ كنت تخاطبين بها جميع إخوتي إلا أنا ... كنت لا أنام من كثرة التفكير والشكوك أنني لست إبنك ، كبرت وأنا أراك توزعين حبك على الجميع وتتجاهلين وجودي مع أنني البكر . سكتت لالة خديجة طويلا ثم جلست أرضا ، لم تحملها قدماها : لقد تزوجت من أبيك وأنا في سن السابعة عشرة ، فرزقنا بإبن كان قرة عيني ، وكنت أرى فيه كل أسباب وجودي ، لكنه مات قبل مرور عام بعد ولادته , أصبت بحزن شديد ، لكن الله رزقني بإبن آخر تعلقت به كثيرا ورأيت فيه العزاء في فقدان أخيك ، كنت لا أفارقه وأحمله علي صدري أحتضنه وألفه بثوبي في الحقل ، وفى مشاوير جلب الماء ذهابا وإيابا ... لم أكن أفارقه خوفا من رحيله ، لكن الأقدار شاءت أن يوارى التراب فى عامه الثاني ، أصابني الإكتئاب وتدهورت صحتي إلى أن جئت أنت إلى الحياة . أرأيت أنت لست البكر ؟ وتجاهلت وجودك وخفت من أن ألازمك . وتوالت ردود أفعالي خوفا من الفراق قبل حدوثه ، حتى أني لم أعطيك إسما حتي بلغت الستة أشهر . ولاعبت القدر بأن لا أكترث لرحيلك أو وجودك . وأقنعت نفسي بأن أراك غير حاضر . 
حينها شهق إبنها شهقة من أعماقه ، ومسح بطرف كمه دمعه ثم أنفه وقال : أمي أنا العقيم ..
أجهشت لالة خديجة بالبكاء : ولماذا تركتني ألوم زوجتك وأعتقد أنها هي من لا تلد طيلة سنين ؟ 
الإبن : ولماذا تركتني أتوهم أنك لست أمي طيلة عمر كامل ؟


تقزيرت يناير 2018