الدرامي والممارسة: العزوف الثقافي، فراشات الليل، ضعف الذاكرة (٢). أبوطالب محمد

الدرامي والممارسة: العزوف الثقافي، فراشات الليل، ضعف الذاكرة (٢).  أبوطالب محمد

الدرامي والممارسة:
العزوف الثقافي، فراشات الليل، ضعف الذاكرة (٢).

أبوطالب محمد

يدرس هذا المقال ثلاثة علّات أساسية تضمّ ( العزوف الثقافي، فراشات الليل، وضعف الذاكرة)، هذه العِلل أبتليت بها الحياة المسرحية السودانية المُعاصرة، وهي معضلة  شكَّلت حاجزاً كبيراً  مع تاريخها المسرحي، ومثَّلت حالة عزلة ذات ميلاد مشوّه، لم يستطع أن يرتبط بإرثه التاريخي، ولا قادر أن يصنع تاريخاً مسرحياً له ارتباطات بحاضره.

العُزوف الثقافي:

الكم الإنتاجي الماثل اليوم من كتابة مسرحية، وإخراج مسرحي، و أداء تمثيلي، في حالة خصام مع الجانب الثقافي؛ بمعنى أن المُنتج المسرحي مفرغ من مصادره الثقافية، وذلك نتاج عزوف صانعيه عن القراءة والإطلاع والمشاهدة، بحجة أنهم مجافين الثقافة، وليس لديهم استعداد لتعاطيها، فهم غير مهيئين لقراءة  أبسط أبجديات المسرح. هذا المشكل أعاق حركة التغيير داخل موازين الفعل المسرحي، وجعله فعلاً مسرحياً (إبن ساعته) زائلاً بانتهاء العرض، فليس لديه حضور طويل الأمد؛ مما ساهم في خلق منتوج مسرحي مُنبت الجذور لا علاقة له بهموم وقضايا الناس.

العزوف الثقافي داءٌ عضال أصاب الحياة المسرحية المعاصرة، ويلاحظ أن منتجيه شديدو الحساسية تجاه الثقافة، وفي وضع نفور دائم منها.
شكَّلت هذه العِلة انفصالاً آخر مع المُتلقي؛ لأنه لم يجد نفسه وقضاياه داخل اللعبة المسرحية وعزف عن متابعتها، فأصبح المسرحيون المعاصرون يقدِّمون إنتاجهم المسرحي لأنفسهم، أو يصطادون المتلقي في مواضع أخرى تعدها وتجهزها السلطة الراعية للعرض المُستلب مبدأه.

فراشات الليل:

من كُرب الحياة المسرحية وضع بعض المسرحيين المعاصرين وعلاقتهم بالسلطة السياسة أقوى من علاقتهم بالثقافة؛ حيث إنها تمدهم برأس المال - أي الإنتاج، وهو في حدِّ ذاته محمدة من السُّلطة إذا كان هدفها الرعاية دون هدف آخر، أما إذا كانت السُّلطة ترعى من أجل إيجاد موطيء لأقدامها فوق سُلطة الفعل المسرحي فاليذهبا معاً إلى جحيم سارتر. وأظن، وإن بعض الظن إثم، أن بعض المسرحيين المعاصرين خاضعين للسُّلطة السياسية وينادون باستمرارها وملتفون حولها كفراشات الليل التي تلفّ حول لهب الشمع المتقد، وستظل تدور حوله حتى تهلك بلهيبه، في مصير مأساوي.
المسرحيون المعاصرون وأعمالهم المسرحية التي قدّموها أمام أعين السُّلطة ومن إنتاجها في: قاعة الصداقة،المسرح القومي، التلفزيون القومي، الاحتفالات، والمنابر السياسية، وفي مسارح الولايات؛ كان المسرحيون وكانت مسرحياتهم خاضعة للسلطة، ولم تبح بمشهد أو حوار ضدّ أجندتها، وحتى الأعمال الدرامية التي بُثت عبر وسائل  الميديا كانت من صُنع السُّلطة الغاشمة التي ما زلنا نعيش ونشاهد سوءاتها إلى يومنا هذا.

ضعف الذاكرة:

أدّت حالتا العزوف الثقافي والالتفاف  حول السُّلطة السياسية إلى مشكل يقترن بضعف الذاكرة، وهو متعدِّد الأوجه؛ بحيث إن المُنتَج المسرحي مُنفصلٌ عن التاريخ المسرحي بعلله الثلاث - حري بنا أن نتناوله بالكتابة الجادة، ويحق لنا، أن نُحرّض صانعيه على  الوقوف في وجه النظام المُستبد،  كما يحب علينا أن نقف وأن نضع قضاياه محل الاهتمام، ونعقد النقاشات الحامية حول تناقضاته ومشكلاته واستسلامه للسُّلطة. كما يجب علينا أن نثير حوله التساؤلات، ونشدِّد على فحوى ومضامين موضوعاته؛ فهل يمكن لها أن تُشكِّل إضافة لصالح الحياة المسرحية، أم تظلّ إضافة (سالبة) وخصم؟ يجب أن لا نسقط هذه العروض المسرحية  من التقييم النقدي الجاد،  وأن نتصدى لجميع فعاليات المسرح ونكون لها بالمرصاد، حتى نجتث علله، ونتمكن من معرفة خلفيات ظهورها ومدى طغيانها على الراهن المسرحي.
وأن نظلّ حائط صدّ يحمي المسرح من مثل هذه الظواهر السالبة من التكرار مستقبلاً؛ حتى لا تسود هذه الضلالات على الطريق القويم. يجب أن نقف وبقوّة خلف فعل مسرحي حافل بالمصادر الثقافية؛ حتى يكون حضوره في ذاكرة المتلقي راكزاً، وذلك يتم بعدّة طرق، مثلاً: بحسّهم على إنتهاج درب الثقافة حتى يصحوا من غفلتهم، ويقدّموا حضوراً مضيئاً ضمن ذاكرة التاريخ المسرحي،  وأن نحضّهم على الثورة و التمرد، ورفض الخضوع للسلطة حتى و إن قدّمت لهم المن والسلوى، وذلك بالتحفيز المعنوي والمادي للمنخرطين في الفعل المسرحي الجاد، وأن لا نترك إنتاجهم حبيساً في صدورهم، وأن ننبذ أي تشوّهات تعترض مسيرتهم، حتى لا يبقى المنتوج المسرحي رهينة في يد السلطة الغاشمة.