الجنرال في كوبر د. سيد شعبان. مصر

الجنرال في كوبر    د. سيد شعبان. مصر

الجنرال في كوبر

 

د. سيد شعبان. مصر

 

 

منذ أن نظرت إلى وجهي في المرآة التي تركتها لي جدتي- توارثتها عن أمها التي كانت تجيد غزل الحكايات في باحة الدار تحت ظل شجرة الجميز العملاقة-مادت بين الأرض، أفزعتني تلك التجاعيد يبدو أن الزمن ترك بصمته في عناد؛ يختار كل آونة من يهزأ به؛ دائما أتجنب الحديث عن الارتحال إلى الجهة الأخرى، أحاول أن يتأخر ذلك بضع سنين، أسطر أحلامي، أنمق ثيابي ربما هي ممزقة وجدت قطا يمسك بفأر كان يعبث داخلها؛ إنها تعود إلى أيام موضة البنطال المتسع والشعر الذي يشبه شجرة التوت، تمند السوالف كما قرني تيس بري، أصلح من أي خلل؛ اليوم لا حاجة بي إلى هذه الأشياء، أشتهي أن أكتب كلمات غزل لتلك الفتاة التي غادرت دون أن تترك لي عنوانها؛ قالت أمي دهمها القطار بأمر من الجنرال، عبثا أحاول أن أجري ومن ثم يمتﻷ صدري بالهواء؛ تنتابني علة العجز، رغم الهم الذي يحوط بي؛ أدركته قبل أن يتمطى، كل ما فيه يشعرني بأنني في عالم آخر ؛ المرأة تشكو هما، الفتاة تنظر من النافذة  غير عابئة بما تقوله أمها.

أدير وجهي في ملل، ينتظر المقابل دوره على نفس السكة الحديدية، لن يسمح له القابع في البناية البيضاء أو الحمراء أو حتى الباهتة الظلال والألوان أن يغير مساره. باعة الحلوى يستدرون عطف الركاب، محصل التذاكر يهدد من يتهرب بغرامة شديدة، العيون ترقب الموقف في دهشة، أتحسس ورقتي، بدأت أشعر بالغثيان.

في أي مكان نحن الآن؟

أتساءل؛ محاولا تمضية الوقت، لا يجيب علي أحد؛ يبدو أنني اخترقت حاجز الصمت، صافرة القطار تدوي مثل طلقات المدافع حين يصيبها الخرس.  على ما يبدو لن تغادر تلك البنايات الججرية؛ ألف صدأ يمرح بين أضراسها.

تلح على ذهني تلك الصورة المرعبة؛ شعر يحترق ووجه عاجز؛ تغادر تلك الفتاة؛ تتبعها عيني؛ أمكث شاردا؛ يقترب محصل القطار، يتجاوزني؛ ربما شفقة أو ازدراء.

بائع المناديل بائس، يبدو أن القطار يجتمع فيه كل من غادرهم الحظ؛ فتى يبحث عن فتاة؛ يرتدي نظارة سوداء؛ يختلس من ثقبها نظرة ﻷنثى يتراقص شعرها.

يدب رجل بساقه الخشبية؛ هالني اصراره على الركض بين العربات؛ يتطوح القطار مهتزا؛ يوشك أن يقع على جنبه، الأعرج ينظر إلي هازئا؛ أتخيله جعده صانع العاهات في " زقاق المدق".

أقترب من المحطة؛ نمر فوق النهر؛ يتراقص الرجل الذي بساق واحدة، يتدافع القادمون من البلاد البعيدة؛ لا أحد ينتظرني، امرأة ذات شعر مخلوط بحناء، تبرز أسنانها الذهبية، يلف خصرها؛ يقال : إن الغجر لا يستحون، أتذكر تلك الفتاة التي يمتليء وجهها أنوثة؛ أتحسس وجهي؛ أكاد ألمس تلك البثرات في وجهي.

باعة الصحف يجمعون أوراقهم؛ أختلس العناوين؛ جنرال آخر تسقط ورقته يدفعون به إلى كوبر؛ يأتونه بالصحف؛ يتراقص ملوحا بعصاه، أستجمع صورة الكنداكة، في بلاد نهرها أبيض وآخر أزرق يحتسون الشاي ومن ثم يختلفون في صخب؛ ينامون كثيرا؛ أرأيتم بلدا اسمه كسلا؟!

أتذكر معلمي في الثانوية؛ عرفني بالعطبرة وأرض الجزيرة التي تطعم كل العرب؛ أفتخر بالإمام المهدي، بأم درمان؛ تلك التي تستدعي حب الرمان، كنت أشدو مع المجذوب!

الآن سيتعاركون وحين يهدهم التعب؛ يتشاتمون بكلمات الطيب صالح، يحلم كل واحد منهم ب"موسم الهجرة إلى الشمال" آن همند والحجرة العتيقة وخشب الصندل والبخور اﻹفريقي العتيق.

الجنرال في مصلاه؛ يتمتم بأوراده؛ يوصيهم خيرا بالوطن؛ لا يدري أن خاصرته لعب فيها قرد زنجي، يا له من زول يثير صخبا؛ حقا إنهم يتندرون عليه، حكايات ستروى عنه في الصحف الزهيدة الثمن!

حين يكون الاصطفاف حديا بين قوى ناهضة متجذرة في عمق وطن بكل مساربه ومشاربه ، يعايش الحلم ويعانق الواقع، بين خيار الحياة وعدمية الفساد، حين تطل أشلاء الشهداء ممزقة ملقاة على قارعة الطريق، بين يدي جزار دموي منتش بالقتل والقيح، بين مخلفات عصور القهر والعهر ، لا يجد والد الشهيد ما يسليه عن ولده، والثكلى مكلومة بوحيدها ، تراه يناديها يرسل لها أنينه من جزاره القبيح منظرا ، أسنانه بين شدقيه تتنزى دما، حين تتخيل صورة للشيطان وبطانته ؛يكفيك منظر ذلك الجنرال الكهل الطاعن في عمر مكلل بكل قيح أو فحيح أفعى الكوبرا.

أحمد الله أن وهبني عينا وأعطاني قلما، حين يأتي المساء سأحكي لمن أقابله في المقهى العتيق عن الرجل الذي خادن الغجرية، لن أنسى بالتأكيد أن أصف لهم تلك الفتاة التي امتلأت أنوثة؛ لن أهتم كثيرا بذلك الذي آوى إلى جوف كوبر أو توكر؛ يقال إن النيل نجاشي أسمر.

حمدت الله أن النهر عندنا تخلص من كل تلك الأصوات الزاعقة، بلادنا تنام على وقع موسيقى ناعمة، وينعم أصحاب السيقان الخشبية بإناث من الغجر!