أغاني البنات بين الصدق العاطفي واللغة المؤنثة الخاصة

أغاني البنات بين الصدق العاطفي واللغة المؤنثة الخاصة عزالدين ميرغني في تاريخ الأدب السوداني الحديث , لم يكن دور المرأة الشاعرة قوياً ومؤثراً , لعل ذلك يرجع أولاً للهيمنة الذكورية علي الأدب , وثانياً لأن أشعار المرأة كانت شفهية وليست مدونة , وهذا أيضا يعود للسبب الأول . والكثير قد ضاع وحُجب

أغاني البنات بين الصدق العاطفي واللغة المؤنثة الخاصة

أغاني البنات بين الصدق العاطفي واللغة المؤنثة الخاصة
عزالدين ميرغني

 

 

 

 

في تاريخ الأدب السوداني الحديث , لم يكن دور المرأة الشاعرة قوياً ومؤثراً , لعل ذلك يرجع أولاً للهيمنة الذكورية علي الأدب , وثانياً لأن أشعار المرأة كانت شفهية وليست مدونة , وهذا أيضا يعود للسبب الأول . والكثير قد ضاع وحُجب . وأشعار الحقيبة تخلو تماماً من الصوت الشعري النسائي . وهي أغاني جاءت نتاج مجتمع مديني , كانت الهيمنة الذكورية واضحة وجلية . وقد استمرأت المرأة في المدينة , أن تكون مكتوبة وموصوفة , وليست كاتبة . وهذه ظاهرة عربية عامة .
   كان الصوت الشعري النسائي رغم ذلك , في الريف السوداني , أكثر بروزاً وظهوراً . حيث للمرأة صوتها الشعري الخاص والعام . وهي تقول الشعر والرجز , وتلحنه , وتؤديه مفرداً أو جماعياً . في الحقل أو في جلسات السمر والأفراح الخاصة . فهي تقول الشعر تنفيسا وترويحا . ويشمل ذلك شعر النفير الزراعي , وفي وقت الفيضان , ونزول الأمطار وفي الليالي المقمرة , وليالي الأفراح , وتعليم العروس . وحتى المرأة في وقت الطلق والولادة لها أنشيد دينية من تأليف النساء تساعدها في ولادة  سهلة ومريحة . ( يا الله تحلها , والكرامة بنشدها ) ( يا الكريم تلطف بها , وكل حبيب يفرح لها ) , وفي الريف قديما كانت النساء يقمن في الأحياء ليلا حفلات مسموح بها تسمى ( الشروكية ) , يجمعن مالا للشاي والزلابية , والبليلة , يغنين  ويمدحن حتى منتصف الليل . وكل هذه الأشعار والأغاني من تأليفهن . والمرأة السودانية ابتكرت قديما ما يمكن أن نسميه ( الأغنية الدينية ) , وهي تؤلف للشكر في وقت الرخاء , وللدعاء وقت الكرب والشدة . وبعض المجتمعات كانت تسمح للمرأة أن تكتب المدائح النبوية مثل الرجل , ويقوم بإنشادها المادحون . وخير مثال لذلك المادحة ( النعمة ) في مناطق الشايقية . ومدائحها من أكثر المدائح رقة وعذوبة .
والمرأة مسموح لها بتأليف شعر التمجيد والمدح للرجل في حياته , خاصة إن كان شخصية عامة , اشتهرت بالشجاعة والهمة والكرم . أو شخصية خاصة كشخصية الأخ والعم والأب . والابن , تقول له أشعار الهدهدة , لينام , أو لكي يشب فارساً شهماً كريماً . ( متين يا علي تكبر تشيل حملي)  وتقول له ( كوركت لي أبو تلبا لزوم ليك يا حسن ترقد تنوم ) ( من حرها ومن السموم ترقد تنوم ) . والرجل العمدة والشيخ والمشهور بالكرم والفروسية عندما يموت , فإن المرأة الشاعرة تؤلف له أغاني المناحات الخالدة والمشهورة . وصدقها الواقعي والفني , كتبا لها البقاء والخلود حتي الآن .
 كان الرجل يسمح للمرأة بهذه الأشعار , بل يساعد في انتشارها , لأنها تخلده , وتشهره بين القبائل , ولعل فيها نوع من الترضية النفسية الخفية بوجود شخصية ( السيد ) بداخله . ( والمادحة ) , هي شخصية ( الجارية) والخادمة . أو المرأة الشهرزاد . وحتى وقت قريب كان يقوم بأداء أغاني الدلوكة المغنيات من بقايا السبي والرقيق . فهن مؤديات فقط للألحان . والمرأة كانت أكثر ذكاء بذلك , فهي لا تخسر بمدحها ومناحاتها  , فهي تثير في الرجل النموذج الذي ينبغي والمثال الذي ينبغي أن يكون عليه . لكي يكون أكثر براً وكرماً ونجدة وقت العوز والحوبة . وهي المستفيد الأول من كل هذه الصفات النبيلة .
وعلي تاريخ الأدب السوداني أن يسجل , بأن أغاني الحماسة والمناحات هي أدب نسائي خالص . له جمالياته وخصوصيته . فمن العيب في كثير من المجتمعات السودانية أن يمدح الرجل رجلاً مثله حياً , أو ميتاً , إلا نادراً . وهذه الأغاني والأشعار النسائية الخالصة , والتي يعتبرها البعض خالية من الغنائية الخاصة , وهي ليست كذلك , هذه الأغاني تمتاز بالصدق الواقعي , والصدق الفني , والصدق العاطفي . وهذا الثالوث هو الذي كتب لكثير من هذه الأشعار البقاء والخلود . وتأتي ميزة الصدق العاطفي من رقابة المجتمع الضيق لكل ما يقال , فلا يقبل إلا الصدق في الشخصية الممدوحة . وإذا وصفت بما ليس فيها ستصبح شخصية قابلة للضحك والتندر . فالمرأة بأشعارها تكتب الرجولة النموذجية الحق , والتي ستصبح نموذجاً للأجيال القادمة . فهي تصبغ ما وتنقل ما يعرفه الناس عامتهم وليس خاصتهم . وبذلك كانت أغاني الحماسة والمناحات , جزء من التوثيق الاجتماعي للتاريخ السوداني الحديث . ولعل أغاني الهدهدة تمثل شوق الأم ليكون طفلها مثل نماذج الرجولة التي تعرفها وسمعت عنها من شيوخ الدين , والعمد والشيوخ , الذي أعطوا لمجتمعاتهم بأكثر من ما أخذوا . ويأتي الصدق العاطفي في أغاني المرأة والذي يبدو جلياً واضحاً في أغاني المناجاة للابن الغائب البعيد , والذي سافر وطال غيابه . فهي تحن إليه حنيناً صادقاً وتناجيه كأنه يسمعها ويستجيب لها . ( متين يا محمد تعود , متين ترجع وهمي يفوت ) . وغياب الابن ظاهرة اجتماعية عرفتها المجتمعات التي عرف أبناؤها الهجرة مبكراً . وأشعار الحنين إلي الآخر خير من كتبتها هي المرأة السودانية , ولكن أغلبها ضاع ولم يدون .
ويأتي الصدق الفني , من عفوية القول الشعري الشفهي , بعيداً عن الصناعة والتكلف . وقد جاءت بموسيقية رنانة , سهلت تلحينها ومن ثم انتشارها وحفظها . وهي أشعار موزونة ومقفاة بالسليقة . وتلك المجتمعات لا تقبل إلا الشعر المغني والمتداول لحنه من جيل إلي جيل .
ولقد استطاعت المرأة أن تكتب نفسها جيداً , في هذه الأشعار والأغاني . واستطاعت أن تبرز لغتها ومفرداتها الخاصة , بل وألحانها الخاصة والتي هي باقية حتى الآن . وبمنظور المدرسة الأسلوبية الحديثة , فإن للمرأة الشاعرة السودانية نغماتها ومفرداتها الخاصة والمميزة , ففي أشعار المدح والمناحات تكثر من كلمات ( ذخري الحوبة , وشيال التقيلة , ومرواد العماية , والفنجري , وجمل الشيل , والسوّاي , والعطّاي , وقمر العشا الضوّاي , والراسي التقيل , والحبوب , والتلب . ) . وهي مفردات مدح في الرجل النموذجي . وكثيراً ما تكون ( الأنا ) , عندها في قمة انكسارها والذي يحمل صدق العاطفة في قمتها . وإذا كان نقاد مدرسة النقد الثقافي الحديثة , ينادونا بأن تكتب المرأة نفسها ولا تنتظر من الرجل أن يفعل ذلك وأن تكتب بلغتها الخاصة , فقد فعلت الشاعرة السودانية قديماً ذلك .
 بتكون المدن السودانية , واختفاء ظاهرة الرجل الفارس , والنموذج الريفي , وظهور نموذج الرجل النموذج , والذي يتمثل في الأناقة , والتعليم , والظرف , والمقدرة علي الكسب المادي , أصبحت الفتاة تحلم بأن تحب وتتزوج ( افنديا) , أنيقاً , متعلماً . وهي تراه في الحي , وفي المكتب . والمجتمع صار أكثر انفتاحاَ . وهذا ما ساعدها ليكون لها صوتها الشعري حتى ولو كان متواضعاً . واستطاعت أن تكون ( الأنا ) الشعرية عندها أكثر جهراً . فخرجت أغاني ( التم تم ) , وهي أغاني الجلسات النسائية الخاصة . ( استمراراً لجلسات الريف ) , والمخاطب هنا حبيباً مجهولاً , من شاعرة مجهولة . فليس بالضرورة أن تكون المغنية هي الشاعرة . وهذه ( التقية ) , هي التي أتاحت لهذه الأغاني أن تكون أكثر صدقاً وحرية في البوح العاطفي . بعيدا عن أشواق الجسد , لذلك جاءت مقبولة من كل طبقات المجتمع السوداني .
وما يلفت الناقد والباحث لهذه الأشعار والأغاني , يجد بأنها بعيدة عن تقليد أشعار الرجال . وبعيدة عن لغتهم بمفرداتها المهيمنة والطاغية في دنيا الشعر والكتابة . بل تكشف هذه الأغاني معجمية اللغة الخاصة والمؤنثة عند المرأة السودانية . بل أن المتمعن في شعر الأغاني السودانية حتى القديمة منها , يجد تأثر الشعراء واضحاً بشعر أغاني البنات . وخاصة في المفردة الحنينة وانكسار الأنا بكل رقته وجمالياته . وأشهر شعراء الأغنية الحديثة الذين تأثروا بهذه الأغاني هو الراحل ( الجاغريو ) . ونجد في معجم أغاني البنات الخاص كثيرا من الكلمات النسائية كاملة الدسم والتي أخذ منها كثير من شعراء الأغنية الحديثة مثل كلمات ( الريدة , والمحنة , والسجمنة , والوبوبة , ويا تومي , ويا ود امي , ويا روحي المشحتفة بيك, وانا المستفة بيك , وشاشيت , وحاحيت , واتخميت , وكم شويمت , كم ساسقت ليك , ويا حليلي ويا حليلك . . . إلخ ) . وهذا المعجم النسائي الخاص هو الذي يستفيد منه الشاعر الرجل بقولبته وإعادة صياغته بما يلائم معجم الرجل اللغوي . وإذا لم يستطع ذلك تهبط الأغنية في خطابها اللغوي , فالهبوط دائما يأتي من الخطاب غير المناسب وليس من الموسيقي . وهذه الاستفادة المعجمية من أغاني التم تم , هي التي كسرت جمود أغاني الحقيبة في الكلمة واللحن , والتي كانت في كلماتها وألحانها أقرب لألحان وكلمات المدائح النبوية . بل أن ضربات التم تم , هي التي خلصت الموسيقي السودانية من رتابة ضربات الرق والطار .
ومن أهم مميزات أغاني البنات , أن النص يظل نصاً شعرياً مفتوحاً . لأن مؤلفته مجهولة رسمياً . فيمكن تعديله , والإضافة إليه . ( نص طروبادوري ) . ويمكن انتقاله من بيئة لأخرى , بحسب ثقافة المكان . وحرية الملكية جعل كل واحدة يمكن أن تضيف إليه ما يعبر عن عواطفها ونفسيتها . والميزة الثانية , هو هذه الشفهية المرتجلة عفوياً , وقد يتم تعديله في جلسة غنائية عادية . بما يلائم الأداء الجماعي . والميزة الثالثة , هي اللغة الخاصة , والتي طورتها بما يتلاءم مع الزمكانية , فلألوان لها مصطلحاتها الخاصة , فاللون الأخضر , يصبح ( اللون الزرعي ) , والأحمر يصبح ( الكبدي ) , والوردي , والبمبي , واللغة عندها لها أصواتها الخاصة , والتي تتمثل في كلمات ( الوحيح ) , والأنين , والآهات . وهي تأخذ من المكان روحه وثقافته . ( فالمشنق العربية ) غير الراكب العربية , والجلابيتو سكروتة , يختلف عن ( اللبيس الجاي من باريس ) .
كل هذا يجعل أغاني البنات أدباً نسائياً خالصاً , كما جاء في مدرسة الأدب النسائي الحديثة , والتي ترى بأن تكون المرأة كاتبة وليست مكتوبة وعبر عن دواخلها بلغتها الخاصة بعيداً عن الهيمنة الذكورية . في الأدب والكتابة .