عشق المكان الحسن محمد سعيد. --------------
عشق المكان
الحسن محمد سعيد.
--------------
وصلتني رسالة كريمة في الوسائط الإلكترونية( واتساب ) من الصديق الكاتب الكبير ( فضيلي جماع ) تبشرني بقرب الحصول على روايته الجديدة ، في زمن يكاد يكون معدوما" ، إلا بخطوي للاستلام ! ..
كانت عطبرة هي ( المكان ) الذي يفصلني عن عناق الرواية لبضع أيام ! .. ثم كان بعدها مطالعتي الشائقة لحنين ( المكان ) الذي تجلى ضاجا" بغربة الجسد التي لم تفارقها الروح ابدا" ، ارضا" وانسانا" وتاريخا" ....
رواية ( زغرودة في حوش أبا الناير ) ، ملحمة في الحنين للمكان ، والشوق له ، والوعي به ، والإحساس بتفرده ، والمعايشه في تنوعه..
فرغم الغربة في مدن العالم الكبرى وضجيجها مع تنوع حيواتها المبهرة ، إلا أن بيئة الانتماء لمرتع الصبا والوعي به ، يغطي ما عداه ، فتجسده ( رويانة ) تلك القرية الكبرى المترعة بفيضان الحنين والرحمة والمودة ، مع ( رواكيبها ) العتيدة ، إضافة لمنطقة ( البحر ) سكانها وأهلها الأصفياء.. واحة باهرة من ( الوحدة الوطنية ) التي غابت عنها بصيرة أهل الإنقاذ ، ضمن سلسلة الدمار الذي ألحقتة بالسودان ..
لم تفلح ( لندن ) عاصمة الإمبراطورية التي ( كانت ) لا تغيب عنها الشمس، لازاحة ذلك الحنين الذي لا يشيخ ولا يصدأ لأديم( رويانة ) وانسانها المتفرد في طبعه وصلاته وتكوينه ونموذجه الخاص ، في الحب والرفقة والانتماء .. هكذا سجل فضيلي جماع مشاعره وخلجات ذاته تلميحا" لوطنه الأم، دون هتاف او مباشرة لثورة ديسمبر المجيدة ، الأمر الذي يعني أنه عاش وطنه الذي غاب عنه بجسدة ولكن روحه كان هناك ! .. فقد كان بروحه مع وطن ظل ردحا" من الزمن ، في ظلام نظام يتاجر بالدين ، ويتخذ القتل والتعذيب والتشريد وسيلة للبقاء مع فتاوي ( فقهاء البلاوي ) من اهل الذقون المرسلة ! ..
وضح لنا الكاتب ، أنه انتهى من كتابة الرواية في لندن بتاريخ أغسطس ٢٠٢١ ، وطبعت طبعتها الأولى في عام ٢٠٢٢ في الخرطوم، دار الأجنحة للطباعة والنشر والتوزيع .. وهذا يعني ان الاستاذ فضيلي جماع لم يكن بحاجة لزمن اختمار التجربة الفنية في ذهنه ووجدانه ، لأن الثورة كانت جنينا" حقيقيا" في اعماقة، وظلت كذلك حتى تفجرت شرارتها في مدن السودان المختلفة ! ..
في هذه الرواية ، نعيش زمن الإنقاذ وبطشه ، والثورة ضده ، في ثوب من السرد الجميل الهادئ ، الذي تتداخل فيه الأزمنة ، بتكنيك حكاء يعرف صنعته ، في المجاز والرمز والتداعي الحر ، مع لغة الشعر الرفيع ، الذي يشكل في داخل القارئ دوحة من هطول العذوبة والظلال ، مع تداعي المعاني والدلالات ..
استطيع ان استخلص( مضمونا" شاملا" واساسيا" ) من هذه الرواية ، هو ( الأمل ) ! .. فقد صاحبني هذا ( المضمون ) طوال زمن الرواية ، لا يغيب حتى يعود ، وهو اكثر اشراقا" ونضوجا" وثباتا" ..
الراوي ( فارس) وهو بطل الرواية اسما" ودلالة" ومحورا" تدور حوله افلاك الشخوص على اختلاف ادوارها وطبائعها وادوارها ، كل ذلك لتتكشف لنا وقائع السرد في مهنية مدهشة ..
الظلم والبطش والملاحقات من أمن النظام وجبروته ، قاد بطل الرواية للاغتراب لأربع سنوات في دولة خليجية ..
تبدأ الرواية بعودته من الاغتراب .. ومن خلال الاجترار الذاتي ، والفلاش باك ، نتعرف عليه وعلى بقية شخوص الرواية ، إضافة لحياته البالغة الخصوصية في حبه المسلوب من قبل قوى البطش والقسوة.
( آمل ) حبيبة العمر كان هي الرمز في الرواية ، وفيها تتجلى سرقة حقوق الآخرين دون واعز من خلق او ضمير ! ..
تزوجها ابن عمها نموذج النظام في سوء الخلق وسرقة حقوق الناس ! .. منتمي أمن النظام الذي عاث فسادا" في أرض المليون ميل مربع .. فاذاقها مر الحياة وسوءها.. وهذا من الدلالات التي تشي لنا مضمون الرواية الذي يدل فيه الرمز إلى حالة قهر الشعب التى تستدعي الثورة ! .
تعود اليه حبيبته ( آمل ) بعد ان تعافت الدنيا ، وتغيرت لحالة ووضع فيه القيمة ..
و ( أمل ) الاسم الذي تحول إلى رمز وهو الثورة التي اشتعلت ، لأن( الأمل ) هو الشرط لكل ثائر .. وهنا يقول حمدان توتو احد شخوص الرواية :
( ما قيمة الثائر الذي لا يتسلح بالأمل وحب الحياة يا صديقي ) .. عبارة تكررت في أكثر من موقع في الرواية ، الأمر الذي يكشف دلالة رمزية لحب الحياة والتمسك بها ، والنضال من أجل ذلك الحب ، وذاك الأمل..
حتى بائعة الشاي التي تصر على البقاء وسط الحريق والمجازر في دار فور لتعرف مصير زوجها المخطوف مع زوج ابنتها من قبل النظام ، كانت دلالة للنضال ورفد الثورة بما يزيد زخمها ، وينير طريقها ..( الثورة ليست شعارات .. الثورة كما رأيتها في الخالة البتول ، هي سعي الإنسان باستمرار للانعتاق من شتى ألوان الظلم والاستبداد ) ..
سيدة بسيطة تواجه الجبروت بالصبر والإصرار وقوة العزيمة ، كي تعرف الحقيقة عن مكان زوجها وزوج ابنتها ثريا ..
( أبا الناير ) هذا الشيخ الوقور هو الدلالة للحكمة والصبر والعقل والشجاعة في إنسان السودان البسيط ، نبت هذه الأرض ، ومكمن سرها وبقائها، ورمز حيويتها ، ومنبع اصالتها الباقية على مر الزمن ..
هذا الشيخ هو الرمز الذي رمت اليه الرواية ، ليكون خلاصة حكمة الزمن الضارب في عمق التاريخ لإنسان هذه الأرض، مهد الحضارات وأصلها..
يتداخل الزمن في هذه الرواية بشكل دائري ..فقد لاحظت ان الاستاذ فضيلي جماع ، لا يحكي لنا مباشرة , وإنما يعود بنا بين الفينة والأخرى إلى( المونولوج الداخلي ) ، ويحكي من خلاله مواقف الشخصيات وأوضاعها، ودلالات ما يريد الوصول اليه .. كل ذلك بلغة بسيطة هادئة ، مليئة بالعذوبة والمقاصد ..
هذه الرواية تتناول ثورة ديسمبر المجيدة ، وهي لا تزال مستمرة ومشتعلة حتى اللحظة .. حتى كتابة هذا المقال .. ولعله بهذه الرواية يكون من ضمن السابقين القلة الذين تناولوا هذه الثورة الشعبية الثالثة ضد حكومات العسكر .. انه ضمن من يبشرون بهذه الثورة العملاقة في سلميتها ، كمنطلق تاريخي بالغ الأهمية( لمدنية الدولة ) ونبذ الانقلابات العسكرية المريرة التي ابتلى بها الشعب السوداني زمنا" تصل نسبته لما يتجاوز 80% من عمر الحكم الوطني منذ فجر الاستقلال في يناير ١٩٥٦ ..
ثورة تنادي بقوة بأن( الديمقراطية هي الحل ) .. وارجع ذلك في هذه الرواية ، كما أراه هو ( الأمل ) الذي يمثل خلاصة المضمون والدلالة لهذا العمل الكبير ! ..
( والأمل ) الذي أعنيه في هذه الرواية ، يتجسد في عودة البطل الرواي لبلده ( رويانة ) بعد غربة فرضها عليه الظلم والقهر والملاحقات الأمنية الباغية ! ..
يجسده الدكتور حمدان توتو وزوجته .. ويجسده الدغم الأخ وزوجته فطين التى تحدت كل معوقات البيئة واعرفها الصارمة لتتزوج من رأته اهلا" للاقتران بها .. يجسده الزاكي الأرباب وسناء الفوراوية وكوال دينق ، في مواقف مليئة بالشجاعة والإنسانية والمروءة .. تجسده الخالة البتول ، وهي تتحدى النظام وسدنته بإرادة لا تعرف الانكسار .. تجسده ( الزغرودة في حوش أبا الناير ) بعودة ( أمل ) الواقع والرمز للحب والسلام ، الحبيبة لحضن من عشقت وأحبت ! ..