منسي بين يوسف إدريس والطيب صالح

منسي بين يوسف إدريس والطيب صالح مبارك الصادق يقول الطيب صالح وهو يستهل كتابه الفريد ( منسي إنسان نادر علي طريقته ) الصادر عن دار رياض الريس والنشر عام 2004 م (في مثل هذا الوقت من العام الماضي توفي رجل لم يكن مهما بموازين الدنيا ، ولكنه مهم في عرف ناس قليلين ، مثلي ، قبلوه علي عواهنه ، وأحبوه علي علاته ، رجل قطع رحلة الحياة القصيرة وثبا .. وشغل مساحة أكبر مما كان متاحا له ، وأحدث في حدود العالم الذي تحرك فيه ضوضاء عظيمة .

منسي بين يوسف إدريس والطيب صالح

منسي بين يوسف إدريس والطيب صالح

مبارك الصادق

يقول الطيب صالح وهو يستهل كتابه الفريد ( منسي إنسان نادر علي طريقته ) الصادر عن دار رياض الريس والنشر عام 2004 م (في مثل هذا الوقت من العام الماضي توفي رجل لم يكن مهما بموازين الدنيا ، ولكنه مهم في عرف ناس قليلين ، مثلي ، قبلوه علي عواهنه ، وأحبوه علي علاته ، رجل قطع رحلة الحياة القصيرة وثبا .. وشغل مساحة أكبر مما كان متاحا له ، وأحدث في حدود العالم الذي تحرك فيه ضوضاء عظيمة .

حمل عدة أسماء ، أحمد منسي يوسف ، ومنسي يوسف بسطاوروس ، ومايكل جوزف .. ومثل علي مسرح الحياة عدة أدوار ، حمالا ، وممرضا ، ومدرسا ، وممثلا ، ومترجما ، وكاتبا ، وأستاذا جامعيا ، ورجل أعمال ومهرجا !!!

ولد علي ملة .. ومات علي ملة .. ترك أبناء مسيحيين ، وأرملة وأبناء مسلمين !!حين عرفته أول مرة كان فقيرا معدما ، ولما مات ترك مزرعة من مئتي فدان من أجود الأراضي في جنوب إنجلترا ، وقصرا ذا أجنحة ، وحمام سباحة ، وإسطبلات خيل ، وسيارة ( رولزرويس ) ،و( كاديلاك ) و( مرسيدس ) و( جاغوار ) وماركات أخري !!وخلف أيضا مزرعة من مائة فدان في ولاية ( فرجينيا ) بالولايات المتحدة الأمريكية ومطعما ، وشركة سياحة !!!

وأنا هنا أقول في مثل هذا الوقت أو قل مثل هذا الفصل المطير توفي رجل أشبه مايكون بمنسي _ في جوانب منه علي الأقل ، فقد كان هو الآخر مقتحما مثيرا للجدل أينما حل .. فأعدت الجنازة علي عجل بإنتظار إبنه القادم من الخرطوم والذي أصر علي ألا يدفن والده حتي حضوره ليشهد التشييع والدفن ، ثم راح الزمن يمضي ، والمطر ينهمر ، والماء يجري له خرير وإزباد .. والمساء يهبط ، والناس في شفقة .. وما يفتأ بعضا من المشفقين يتالعون سير إبن المرحوم عبر المحمول ويسألونه :

وصلت وين ؟؟

ولما كان الطريق إلي القرية بعيدا عن شارع الأسفلت ، فقد تعرضت العربة للوحل ، وأنفق الإبن والسائق الوقت الطويل في محاولة إخراجها .. وأخيرا وبعد إنتظار طال أمده _ وصل الإبن _ ولكن في حالة يرثي لها من التعب والإرهاق والطين _ بحيث أنك لا تري منه إلا الوجه .

وحال وصوله هجمت عليه الجموع المنتظرة منذ ساعات وساعات وهم يهتفون: الفاتحة ... الفاتحة .. وكانت الأرض موحلة ، والرذاذ ما زال يتساقط ، والجمع الحاشد في حالة بائسة من الرهق ، وقد راح إبن المرحوم يقالد هذا ويبكي مع ذاك _ حتي زجرهم أحد الأشياخ . وإذ هموا بأخذ الجثمان لجبانة القرية _ وهم مشفقون من صعوبة الوصول ... جاء شيخ من أقصي القرية يسعي وهو يقول ( هاناس هوي ... الوصية في الذمة ... المرحوم موصي يدفنوه في الطلحة ود الطريفي! ّ)

أفو ؟؟ خرجت من أفواههم بشكل لا إرادي وهم يستمعون لتلك الوصية وأسقط في أيد الحضور _ إذ أنهم حتي ها هنا في مقبرة القرية يشكون ما إذا كانوا يستطيعون إتمام المهمة علي الوجه الأكمل ؟؟ فكيف يتأتي لهم الوصول إلي الطلحة ود الطريفي وهي علي بعد فراسخ وأميال ؟؟ وهذا الطين والوحل والمطر الذي ما يزال يوالي الإنهمار ؟؟

ورغم تعب وإرهاق ابن المرحوم _ الآتي من الخرطوم ... والذي تعرضت سيارته للوحل في العديد من المرات بدليل أن حاله الآن يغني عن سؤاله إلا أنه وسط جيشانه العاطفي أفتي بأن الوصية واجبة التنفيذ !!

عندها إنبري له أحد الشيوخ وهو أحد أنداد المرحوم وأحد أقربائه وهو يقول :

( هوي يا جنا هوي ... إت أبوك الراقد ده حي ميت ماداير يخلي قلة أدبو ؟؟ والله ما يندفن إلا في جبانة الحلة دي .. الطلحة ود الطريفي قال !!قول ليهو كان ساوي ليك عملة وداير تتحامي بود الطريفي ود الطريفي ما بنفعك ، شيل شيلتك وارجا الراجياك .. يلا ياناس شيلو الجنازة الوكت راح !!)

هاهنا بعض الشبه في هذا الجدل الداير عن الدفن في جبانة القرية وبين الشخوص بالجنازة إلي الطلحة ود الطريفي .. وهو ذات الجدل الذي دار حول منسي .. أيدفن مع المسلمين ؟؟ أو مع المسيحيين ؟؟ وهل كان منسي مسلما أو مسيحيا أو أنه مسيحي مسلم أو مسلم مسيحي ؟؟ قال الطيب صالح إن إبن المرحوم منسي هو الآخر بصدد حرق جثمان أبيه وقال إن تلك وصية والده ؟

يقول الطيب صالح إنه إتصل بأرملة المرحوم في الرياض فاستغاثت بوزارة الخارجية السعودية التي سارعت بالتدخل فحسم الأمر ودفن منسي كمسلم وأقيمت عليه شعائر المسلمين _ وذلك بعد نحو شهر من موته . ولو لا ذلك لكان قد أحرق جثمانه ، ونثر رماده علي نهر التايمز علي طريقة الهندوس !!أو المانش .

ومع ذلك فقد نشرت صحيفة (الإهرام ) إن أهله في مصر أقاموا القداس علي روحه في الكنيسة القبطية !!

حسنا _ نحن الآن بصدد الكتابة عن هذا الكتاب الفريد ، والذي إحتار العديد من الكتاب والنقاد في تصنيفه .. أرواية هو ؟؟ أم هو حكاية ؟؟ أتاريخ هو ؟؟ أم سيرة شخصية ؟؟ أسيرة غيرية ؟؟ أم هو وقائع ما جري في أوروبا وانجلترا ؟؟ لمنسي وصديقه الطيب صالح .؟؟

الشاهد أن الكتاب المعني يحمل العديد من الخصائص المكونة لتلك الأجناس بدرجات متفاوتة فهو يأخذ من السيرة الذاتية ومن السيرة الغيرية ، ومن التاريخ والرواية . فالبنية السردية الكامنة في هذا العمل مؤلفة من بنية تركيبية وإستبدالية ، وإن دلالة الأولي تعادل الحكاية .. والثانية تقابل الشخصيات لكنها كلها تتمحور حول الشخصية الأساسية _ ( منسي ) حتي وإن خرجت لبعض الوقت إلا أنها ما تفتأ تعود إلي الخط الرئيسي وإلي الشخصية القطب بعد أن تشارك في الحدث ، وتقوم بالدور المساعد في ابراز تفاصيل الشخصية .

إذا نحن امام شخصية واقعية .. شخصية من لحم ودم .. وليست شخصية روائية مصنوعة كمصطفي سعيد مثلا ، وفي ذات الوقت شخصية غرائبية من خلال الأحداث والوقائع والأفعال التي تقوم بها !

في لقاء أجري مع الطيب صالح نشر بمجلة ( الحوادث ) البيروتية في يوليو _ 1987_ثم أعيد نشره في كتاب (أسئلة الرواية ) لجهاد فاضل قال الطيب صالح أنه زار القاهرة للمرة الأولي عام 1960 م ، وقد حرص علي مقابلةالأستاذ  الروائي نجيب محفوظ ، رغم ان الطيب صالح _ عهد ئذ لم يعرف ككاتب بعد .. وقد قال الطيب صالح : ( أخذني إليه صديق يدعي أحمد منسي بسطاوروس فذهبنا إليه في مقهي الحرافيش وأذكر أنه كان يأكل ( الخس ) ويتكلم قليلا وينام ، ودار بيني وبينه حوار قصير جدا ما زلت أذكره _أنا كنت قرأت له ( اللص والكلاب ) لتوي .. قلت له اللص والكلاب هذه فيها إحساس (هاملت )لشكسبير وأنا قد أكون قد تذاكيت عليه واردت أن أثيره للكلام . فقال لي كيف يكون هذا الشبه ؟؟ هاملت هذه ليس فيها فعل _ بينما اللص والكلاب كلها فعل ؟

وبعدها صمت فلم يكلمني أبدا !!!

يقول الطيب صالح عن منسي عرفته في عام 1953م_ أول عهدي بهيئة الإذاعة البريطانية _ كنا نعطيه أشياء يكتبها أو يترجمها ، وأدوارا صغيرة في التمثيليات الإذاعية تعينه علي العيش والدراسة ، ظل طوال حياته يحب التمثيل وحتي بعد أن أثري كان يأتي إلي الإذاعة يؤدي أدوارا في التمثيليات ويصر علي تقاضي الأجر !!

من المدهش أن الدكتور يوسف إدريس وفي كتابه الموسوم ( جبرتي الستينات ) والصادر عن المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان بطرابلس عام 1984 م ينشر مقالة له بعنوان (السندباد منسي ) وهي مقالة يمكن القول عنها أنها ملخص باكر لشخصية منسي العجائبية ، وتصرفاته المغرقة في الغرائبية ، ولهذا يقول عنه يوسف إدريس في إستهلاله لمقالاته تلك ( إنه ليس في حاجة لكلمة عابرة .. إن مغامراته في حاجة لكتاب )

ولكن هذا الكتاب لم يأت إلا بعد عشرين سنة ، ومن الطيب صالح وبعد وفاة منسي صاحب المغامرات !

يقول الطيب صالح في منسي: ( مسز باربارا براي ) هذه السيدة من الناس الأخيار الذين صادفتهم في رحلة الحياة تعرفت بها عام 1954 م أو نحوه بواسطة منسي كانت تعمل رئيسة لقسم النصوص في الإذاعة البريطانية _ فاكتشف منسي وجودها فورا . وكانت قد درسته اللغة الإنجليزية في جامعة الأسكندرية .

وإذا كنت أنا قمت بدور ( الأب الروحي ) له فإن السيدة كانت بمثابة الأم .. كانت علاقة مؤثرة حقا _ حين مات لم أشأ أن أتصل ب( باربرا ) إلا بعد زمن ، فقد خفت ألا تكون قد سمعت بالنبأ ، وكنت أعلم وقع ذلك عليها .. وجدتها تعلم _ وكانت مبيئسة أكثر حتي مما توقعت .. قالت لي في نهاية المكالمة طبعا سوف تكتب عن منسي ؟؟

كنا قد إتفقنا أن نكتب قصة حياته معا ، باللغة الإنجليزية ثم باللغة العربية .....

ولكن كيف تعرف يوسف إدريس علي منسي ؟؟ أو منسي علي يوسف إدريس ؟؟ يقول الطيب صالح : ( تشعب الحديث في دار سعد الدين وهبة الكاتب المسرحي الشهير ، الذي كان يومئذ وكيلا لوزارة الثقافة  وزوجته الممثلة الكبيرة سميحة أيوب ، إلي أن جاء ذكر (منسي ) بدأ سعد الدين وهبة يحكي قصة رحلة رافقه فيها منسي إلي الكويت _ فلم أكن أنا الوحيد الذي حظي برفقته في الأسفار ، إلا إنني ربما كنت أكثرهم حظا ، كان منسي رحمه الله يحب السفر ، لذلك إقتني شركة للسياحة حتي تتيح له ركوب الطائرات والنزول في الفنادق بأسعار مخفضة .. وكان يحب الصحبة ويحب الضحك . فإذا وجد رفيقا تطيب له صحبته مسافرا إلي أي مكان سافر معه !!كان يحب صلاح جاهين بطريقة مؤثرة فإذا خطر علي باله في واشنطن يسافر فورا إلي القاهرة لرؤياه !!وإذا تذكر عبد الرحيم الرفاعي سافر إلي ( بيروت ) وإذا عنت له باربرا براي في باريس سافر إلي باريس !!كان يبدو إنسانا حرا تماما طليقا مثل طائر في الفضاء !!لم يذهب سعد الدين وهبة بعيدا في رواية القصة حتي دق جرس الباب _ ثم إذا صاحبنا حقيقة ماثلا للعيان !!كأن أحدا ناداه فاستجاب !!صدفة ؟؟ نعم ولكنها صدفة تكررت كثيرا .. يأتي ذكره ولا أحد يظنه في المدينة فإذا الباب يدق أو التلفون يرن !!!

دخل ضاحكا وكأنه كان معنا منذ أول المساء .

( منسي !!الله يخرب بيتك .. إنت جاي منين .؟؟.)

هجموا عليه بالعناق والقبل والشتائم ، وخاصة الشتائم فقد كان فيه شيء يغري بالشتم ولكن عن محبة !!

نهلل وجهه طربا لحرارة الإستقبال وكثرة السباب والأثر المسرحي الهائل الذي أحدثه بدخوله إلي دار أعلم بإصول المسرح الحقيقي منه _ تناوشه الناس ذات اليمين وذات اليسار . وكانوا كلهم يعرفونه ويحبونه بدرجات متفاوتة _ يوسف إدريس ومحمود سالم ورجاء النقاش وعبد المنعم سليم وآخرون .

ولكن منذ البدء كيف وصل منسي هذا إلي المملكة المتحدة .. وماذا قال يوسف إدريس في مقالته الباكرة تلك والتي قلنا عنها أنها تلخيص مبكر لطبيعة هذه الشخصية الإسطورية والغرائبية .. قال د. يوسف إدريس في مقالته تلك والمنشورة عام 1984 م ( إن إسمه يسبقه عدد كبير من الدرجات العلمية وشهادات الدكتوراة .. ولكنك لو جلست تسمعه لتوارت مغامرات السندباد البحري والبري والجوي أيضا !!

لقد كان طالبا في كلية الآداب بالاسكندرية ، وعرف أن هنالك رحلة إلي إنجلترا ينظمها المعهد البريطاني بتسعة وعشرون جنيها لمدة ثلاثة أسابيع وقبل الإمتحان بشهر ..إشتغل في شركة الغزل كعامل لوزن القطن _ ولم يستطع فظل يبحث حتي وجد واسطة ، لقبطان السفينة الذي عهد إليه بعمل علي السفينة في مقابل أجرة سفره !!

ووصل إلي هناك .. وفي خلال الأسابيع الثلاثة إستطاع إتقان الانجليزية إلي درجة أن قيدته جامعة ليفربول بين طلبة الماجستير ، وقبل أن تنتهي المدة كان قد وجد عملا ( جنايني ) عند أحد ثراة مدينة ليفربول وجنايني بعد الصبح ، وطالبا بعد الظهر ، ثم عاملا في مصنع السكر الوحيد هناك واستطاع أن يحيا بين العمال الانجليز ويصاحبهم ويدرس تفاصيل حياتهم ولغتهم ومشاكلهم ...ولكنه فصل من الجامعة لإكتشاف أنه يعمل ، فقابل المدير وأقنعه بأن يعيده إلي أن ينال الماجستير ، ونالها ، ونال الدكتوراة . ثم إنتقل إلي لندن ووجد أن الدكتوراة في الأدب العربي سهلة جدا ولا تحتاج إلا لمعلومات قليلة فأخذها بالمرة .. ورشح نفسه في إتحاد الجامعة .. وأصبح السكرتير .. وأقام مناظرات عرفته بعدد كبير جدا من شخصيات المجتمع الإنجليزي ، وتحدي مرة ( ريشارد كروسمان ) عضو حزب العمال البارز ، واتهمه بمناصرة إسرائيل علي العرب .. وصادق (اديث سمر سكيل ) و( برباراكاسل ) الكاتبة والنائبة العمالية الزائعة الصيت .. وهاجم (اديث ) في وجهه أثناء العدوان واتهمه بالخيانة علنا وامام الطلبة من أعضاء حزب المحافظين .. وصادق الكاتب المسرحي ( بيكت ) وعشق التأليف المسرحي فكتب رواية متواضعة جدا وجعل بيكت يسهر إسبوعا بأكملها يسمعها منه !!وتعرف إلي أبنة عم ملكة بريطانيا الأميرة ( الكسندرا ) حتي دعته في حفلة عيد ميلادها _ وفي الحفلة التي لم يحضرها سوي أعضاء الأسرة المالكة البريطانية وجد الملكة ( اليزابيث ) الأم واقفة فتقدم منها وطلب مراقصتها فقبلت ورقصت عدة مرات معه !! وخرجت الصحف البريطانية تتحدث في اليوم الثاني عن ( الأمير الباكستاني ) الذي كان المدعو الوحيد الغريب في حفلة عيد الميلاد !!

وكان مارا من أمام قصر سان جيمس مرة فوجد أضواء القصر متلألئة ، والعربات الفخمة تقف وينزل مدعوون تبدو عليهم سيماء الوقار والخطورة فقال في نفسه : وإيه يعني ؟؟؟

ودخل القصر ، ووجد الحاضرين يقفون طابورا طويلا ليسلموا علي الملكة فانضم إلي الطابور ..وحين اقترب منها همس له سكرتير الملكة الخاص إلا يبدأ الملكة بالحديث .. وسألها عن صحتها ، وكيف قضت الليلة في القطار ؟؟ إذ كانت قادمة من اسكتلندا خصيصا لحضور هذه الحفلة المقامة لأعضاء الوفود البرلمانية ... ويقول منسي صاحب هذه المغامرة :

( ويبدو إن الملكة وجدت في أسئلتي راحة عظمي ، إذ كانت طوال الوقت تحيي رؤساء الوفود تحية رسمية ، وما كدت أبدأها بذلك الحديث العادي حتي انطلقت تتكلم معي وسألتها عن ولي العهد الصغير وكيف صحته ، وهل هو شقي مثل بقية الأطفال ؟ وانطلقت تحكي قصص شقاوته ، وتروي لي كيف استطاعت أن تنام في القطار رغم الضجة _ ثم سألتها خلسة عن الحفلة وكم من المجاملات عليها أن تتحملها ؟؟ وإستمر بيننا الحديث أكثر من ساعة !! كل هذا والطابور الطويل ينتظرني أن أنتهي ويتململ ، وجاء السكرتير الخاص ولكزني طالبا مني أن أفسح الطريق لغيري .. ولكني لم أبال به فقد كان الحديث شائقا ، وكانت الملكة منطلقة وحينئذ وجدت شخصا يضع يده علي كتفي علي هيئة خبطة مفاجئة ، وإلتفت وإذا به زوج الملكة الذي جرني بعيدا وهو يسألني عن أحوالي ؟؟ ومن أي البلاد أنا ؟؟ وأنا الآخر أسأله عن أحواله واقترح عليه أن يعمل نجما تلفزيونيا _ إذ كنت قد رأيت له برنامجا تلفزيونيا تحدث فيه عن العلم وكان موفقا جدا _ فيما حدث وأعفوه من منصبه كزوج للملكة !! وجعلني ربع الساعة الذي قضيته أتحدث مع الملكة ، والربع الآخر الذي قضيته أتحدث مع الأمير زوجها محط جميع رؤساء الوفود ، وكبار رجال الأعمال واللوردات الحاضرين . فأخذوا يتسابقون في التعرف إلي ، ودعوني إلي منازلهم وحفلاتهم _ ولو كان في نيتي أن أنصب عليهم لاستطعت هذا بسهولة .. وأصبحت بين يوم وليلة نجما من نجوم المجتمع الإنجليزي !!)

ولا تنتهي قصص الدكتور منسي عن مغامراته مع العائلة المالكة ، ونجوم المجتمع البريطاني وغير البريطاني _ تلك التي أتاحت له أن يكون صديقا شخصيا لمعظم الوزراء البريطانيين ، والكتاب الإنجليز ، بيكت ، ووينتر ، ووسكر ، وجون اسبورن ، ومشاهير الممثلين فهو صديق شخصي للورانس أوليفيه ، واورسون ويلز ، والمؤرخين من أمثال ارنولد توينبي .. هذا عدا ما كميلان وهيوم وويلسون وبيغان وليس النجوم فقط فقد إشتغل لمدة خمسة أعوام مع العمال والشعب الإنجليزي واخترق المجتمع طولا وعرضا ، وعرف كل خباياه ومشكلاته ، ولقد قضيت ليلة حافلة استمع فيها لمغامرات الدكتور منسي )

وبعد غني عن القول إن تلك الافعال والمغامرات والمواقف التي أشار إليها الدكتور يوسف ادريس هي عبارة عن عناوين أو رؤوس مواضيع بالأحري . وإذا ما عدنا إلي كتاب الطيب صالح نجدها مضمنة _ ولكن بعد أن إحتلت مواقعها المناسبة في سياقاتها المبررة ، فالتحمت بالتالي في نسيج السرد الفني والروائي المعمق الذي يتيحه الكتاب بشكل لا يتأتي لمقالة قصيرة أن تفعله ، بخاصة إن بطل السرد أو الحكاية أو السيرة وصحبته للأستاذ الطيب صالح صحبة قديمة ومستمرة وذات ديمومة .

ولم تكن علاقة زيارات عابرة ، أو لقاءات متباعدة ، أو حتي لقاء منتهب _ وهنا يقول الدكتور يوسف ادريس :

( لقد قضيت ليلة حافلة استمع فيها لمغامرات الدكتور منسي )

ولكن ثمة إشارة لطيفة من الدكتور يوسف ادريس يرجع فيها الفضل لأهله إذ يقول :

( وكان الشك كثيرا ما يتسرب إلي نفسي ، وأحاول السخرية من مغامراته _ لكن وهذا هو الغريب كان ثمة صديق سوداني لا أشك لحظة واحدة في صدقه قد عاصر الدكتور منسي في مغامراته ورآها رأي العين ...

فمن ذاك الصديق غير الطيب صالح ؟؟؟

وهذا مالم يشر له الدكتور يوسف ادريس