من مذكرات كلب ..

من مذكرات كلب .. اسيا رحاحلية... الجزائر مات سيدي. رأيتهم يشيعون جثمانه وسط البكاء والنواح. كنت أدركت بحدس الكلاب أن مكروها أصابه، لم أعد أسمع صوته يناديني أو أراه يقدم لي الأكل بنفسه،

من مذكرات كلب ..

من مذكرات كلب ..

اسيا رحاحلية... الجزائر

مات سيدي.

 

 


رأيتهم يشيعون جثمانه وسط البكاء والنواح. كنت أدركت بحدس الكلاب أن مكروها أصابه، لم أعد أسمع صوته يناديني أو أراه يقدم لي الأكل بنفسه، أو يملأ لي وعاء الماء،الذي يجدّده يوميا. كثيرا ما سمعته يؤنّب أبناءه “ ألأنّه حيوان أبكم نتركه يشرب من ماء آسن ملوّث؟”.
كانت ليلة رهيبة. ثقيلة. لم أستطع فيها النوم. قلقا. فزعا. لا أستقر في مكان أو وضع. أجوب الحديقة ذهابا إيابا. أرسل صوتي عاليا في كل اتجاه كأنّي أطرد خطرا يحدّق بصاحبي العزيز. ثم سمعت صراخا يصم الآذان. انتصبت أذناي. ركضت باتجاه الباب الخشبي الكبير الذي يفصل المنزل عن الحديقة، حيث أسكن منذ سنين.
 وكانت الفاجعة.
أدركت أن سيدي قد مات. حاولت أن أنبح ولكني لم أستطع، ولم يصدر عن حنجرتي سوى عواء طويل ضعيف يشبه عواء إنسان مسعور. لبسني الحزن من أخمص قوائمي إلى أعلى أذنيّ. مرضت وبقيت أياما أرفض الأكل. اليتم شعور قاتل، هدّام.. وكيف إذا كان اليتيم كلبًا مثلي ليس له في الدنيا أحد سوى سيده.
أطيب رجل في العالم. لي معه ذكريات لا تنسى. تبنّاني وأنا جرو صغير. درّبني على فنون الصيد. دلّلني. أعتقد أنه كان يحبّني مثل أولاده. كان فخورا بي. يذكر مزاياي وحسناتي أمام الجميع. كان يردّد دائما “الكلاب مثل بني آدم، فيها النذل الحقير وفيها النبيل الأصيل”.. وأعرف أنه كان يعنيني أنا بهذه الصفة الأخيرة.
في طريقنا إلى الصيد، كنت ألمح نيران الحسد والغيرة تتقد في عيون الكلاب المتشردة التي ألتقيها. “لا أدري من يظن نفسه! أبله. لا يعلم أنه حين يهرم ولا يقدر على الصيد سوف يقتله سيده برصاصة ويتركه في الجبل جثة تنهشها الصقور”. ينظرون إليّ شزرا.
 أتمسّح بساق سيدي وأتبعه يملؤني الفخر.
لم أكن أهتم لما يفكّرون، لأني كنت متأكدا أن سيدي لن يفعلها. فهو يعاملني معاملة حسنة، بل جيّدة. هناك مثل نردّده نحن معشر الكلاب: قل لي كيف يعاملك سيدك،أقل لك من أنت. وأنا لا أحتاج لمن يقول لي من أنا لأنّي أعرف من أنا. فبالنسبة لسيدي، أنا أكبر من مجرد كلب صيد. أنا صديقه. رفيقه وحافظ أسراره. في أوقات كثيرة كان يترك صخب الغرفة، هرج أولاده، وتذمر زوجته، ويتجه إلى مكانه الهادئ المعتاد في الحديقة. أتبعه وأنا أحرك ذيلي فرحا. يجلس القرفصاء. يشعل سيجارته. يدخن بيمناه، ويسراه تدغدغ رقبتي أو تمسح على ظهري. كانت تلك أسعد لحظات حياتي.
أستطيع القول إني كلب محظوظ ومن حسن طالعي أني خلقت كلب صيد.. فأنا أكثر حظا من كلاب الشرطة مثلا، الذين هم في الأخير كلاب حكومية، تأتمر بأوامر الحكومة. ومع أن كلب الشرطة يتغذى أفضل بكثير من كثير من الأطفال ويكلّف الدولة أموالا طائلة، كما سمعت سيدي يحدث صديقه، فإني لم أحلم أبدا أن أكون واحدا منهم. وعلى ذكر الدولة، كانت تدور بين سيدي و بين رفاقه الصيادين أحاديث طويلةً عن البلد ومشاكله، وسمعته يوما يقول بصوت غاضب، ثائر “أكلوها الكلاب. أفسدوها. لم يبقوا فيها شيئا”.. ورغم ذكائي الذي يعترف لي به سيدي دائما إلا أني لم أفهم من يكون هؤلاء الكلاب..
 هل كان يقصد كلاب الشرطة؟
من حسن حظي أيضا أني أملك موهبة الحراسة، لذلك لم يحتج سيدي لكلب ثانٍ يحرس بيته المترامي الأطراف، فكان بذلك كمن اصطاد أرنبين بطلقة واحدة!
وكنت أنا سعيدا.
بعد أيام من دفن سيدي.. سمعت الصراخ مرة أخرى. تعالت الأصوات آتية من الغرفة الرئيسة. لم أستطع التمييز بينها،ولا أن أعي ما يقال. اقتربت من الباب بحذر شديد، مخافة أن يفطن لي أحد,، أو ينتبه لوجودي الحفيد الصغير المدلّل، فيركلني خارجا كعادته، ولولا وفائي واحترامي لسيدي كنت عضضته في رجله عضّة لن يبرأ منها أبدا. لم يكن سبب الصياح والأصوات العالية هذه المرة موت أحدهم،وإنما كان الأبناء يتقاسمون التركة، ويتعاركون ويتبادلون التهم والشتائم. كنت سأعود أدراجي إلى مكاني، مطأطئ الرأس، لولا أن سمعتهم يأتون على ذكر البندقية. بندقية الصيد. لم أتمالك نفسي فصدرت عني وصلة نباح قوي. كيف لا وهم يقرّرون أمر رفيقة دربي ودرب الراحل؟
إلا البندقية. لا أحد يعرف قيمتها ومكانتها عند سيدي سواي. حتى إنّه، منذ سنوات، رفض تسليمها لرجال الدرك. سمعته يقول: “لم يجدوا من وسيلة لمحاربة الإرهاب سوى نزع البنادق من أيدينا نحن الصيادون البؤساء؟”.
وتساءلت: ألستُ فردا من العائلة؟ ألا يحق لي الحصول على نصيبي من التركة؟ لماذا لا يتركون البندقية لي أنا مثلا؟ ولكن ماذا لو كانوا يعتبرونني جزءً مما ترك المرحوم؟ هنا ارتجفت. تملّكني الذعر. لا أتصوّر نفسي كلبا لأحدهم. لن يحبني أيّ منهم كما كان يحبني سيدي. وأصابتني الفكرة بهوس الكلاب,، فقررت الرحيل. اغتنمت فرصة تركهم الباب مفتوحا وتسللت خارجا.
اليوم.. أنا أعيش في المقبرة. ألازم قبر سيدي ليل نهار في انتظار اللّحاق به.