حول استعارة الكتب

حول استعارة الكتب عمر فضل الله  أعارني أستاذنا المرحوم الدكتور عبد الله الطيب عليه رحمة الله كتاباً عن الطيور في السودان يحتوي على لوحات ملونة رسمها أحد المفتشين الإنجليز

حول استعارة الكتب

حول استعارة الكتب

عمر فضل الله 

 

 

 

 

 
أعارني أستاذنا المرحوم الدكتور عبد الله الطيب عليه رحمة الله كتاباً عن الطيور في السودان يحتوي على لوحات ملونة رسمها أحد المفتشين الإنجليز إبان فترة عمله في البلاد في أوائل القرن الماضي. وكان الدكتور قد حصل على الكتاب بالشراء من أحد محلات بيع الكتب في لندن حين كان طالباً. وهو في العادة لا يعير كتبه إلا فيما ندر لكنه أعارني ذلك الكتاب في عام 1992 لأحصل على نسخة مصورة منه لأن الكتاب طبع مرة واحدة ونفدت جميع نسخه من المكتبات فأصبح كتاباً نادراً، وكان - رحمه الله - يعلم أنني أبحث في أسماء الطيور فأقارن دلالة الأسماء الإنجليزية والعربية بالأسماء التي يطلقها أهل السودان على تلك الطيور فأعجبه البحث. ولهذا فقد وافق على إعارتي تلك النسخة من الكتاب لكنه اشترط أن أعيدها خلال يومين اثنين لا ثالث لهما سواء نسخت الكتاب على الآلة أم لم أنسخه فوافقت. وبالفعل نسخت الكتاب بآلة الاستنساخ ثم أعدته له كما اشترط. لكنني اكتشفت بعد نحو شهر أو شهرين أن بعض الصفحات ناقصة من النسخة التي بحوزتي نسيها الناسخ، فأسرعت إلى دار الدكتور لأستعير الكتاب كرة ثانية فأنسخ تلك الصفحات لتكتمل نسختي. لكنه حين بحث في مكتبته قليلاً عاد ضاحكاً وأخبرني أنه لم يجد الكتاب في موضعه ويبدو أن أحد البارعين استعاره ثم لم يرجعه. تذكرت هذه القصة وأنا أكتب عن إعارة الكتب واستعارتها في زماننا القديم أيام كنا طلاباً. وكان جيلنا الذي لم يكن يملك أثمان شراء الكتب في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي قد درج على تبادل الطريف والمفيد من الكتب بين الأقران أو استعارتها من صفوة المثقفين الذين يمتلكون المكتبات الكبيرة في بيوتهم فكنا نصادقهم ونتقرب إليهم لنتمكن من الحصول على تلك الكتب عن طريق الإعارة أو البقاء في بيوتهم لقراءتها حين لا يسمحون باستعارتها ليوم أو يومين. وكان أخوف ما يخيف أصحاب المكتبات هو ألا يفي المستعير بوعده بإرجاع الكتاب فكان بعضهم يحذرنا من عدم إعادة الكتب ويهددنا بالحرمان. لكن الخبثاء منا اعتادوا أن يحتجوا عليهم ببعض أقوال العلماء في فقه الإعارة مثل قول ابن الجوزي: (ينبغي لمن ملك كتاباً أن لا يبخل بإعارته لمن هو أهله، وكذلك ينبغي إفادة الطالبين بالدلالة على الأشياخ فإن الطلبة قليل وقد عمهم الفقر فإذا بخل عليهم بالكتاب كان سبباً لمنع العلم. واختار القول بوجوب إعارة الكتب لمن يحتاج إليها جملة من فقهاء الشافعية). كانوا يحفظون تلك العبارات ليتوسلوا بها إلى أصحاب المكتبات فيتوصلوا إلى الاستعارة وكان بعض أصحاب المكتبات يردون بنحو قول الشاعر:
ألا يا مستعير الكتب أقصر * فإن إعارتي للكتب عار
فمحبوبي من الدنيا كتاب * وهل أبصرت محبوباً يعار

وكنا لا نتعاطف وجدانياً مع كلامهم هذا لأننا كنا نريد الكتاب بأي وسيلة ونعتبر أن بخلهم بالكتاب يتنافى مع طبائع أهلنا الذين عرفوا بالسماحة والعطاء. لكننا حين كبرنا واقتنينا المكتبات أدركنا أن إعارة الكتب أمر صعب على أصحابها، فصاحب الكتاب يرتبط وجدانياً بالنسخة التي يقتنيها لدرجة أن بعضهم حدثني أنه يستطيع أن يميز نسخته ويتعرف عليها حتى لو وجدها بين عدد من النسخ من نفس الكتاب، وأنه حين يقرأ منها يشم رائحة الورق ويتحسس ملمس الصفحات ويجس حجم الكتاب ويحس بوزنه وثقله في يده. وأنه يدون ملاحظاته ليعود إليها ولو بعد أعوام. وكنت من الذين يعجبهم كلام الزهري ليونس بن يزيد حين قال له: يا يونس إياك وغلول الكتب. قال قلت: وما غلول الكتب؟ قال حبسها عن أصحابها. وحين حدثت أحد أقراني بهذا أعجبه فقال لي: تحدثني عن غلول الكتب؟  لقد قال عبد الله بن مسعود: إِنِّي غَالٌّ مُصْحَفِيِّ فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَغُلَّ مُصْحَفَهُ فَلْيَفْعَلْ فإن الله عزوجل قال: (ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة).