تمويه

تمويه لمياء شمت في باب الاحتفاء بقاموس هودلر اللغوي (كيف تقول ما لا تعني)، المتخصص في التسميل; بمعنى تهذيب المفردات والألفاظ والعبارات، وتلطيف حدتها، علق البعض على سبيل الترويج، بأن القاموس يوفر مرشد وجيز ومفيد للقاريء، يعين على التعرف على طواعية اللغة ومرونتها، وإمكانياتها الكامنة.

تمويه

تمويه

لمياء شمت

 

 

 

 

 

في باب الاحتفاء بقاموس هودلر اللغوي (كيف تقول ما لا تعني)، المتخصص في التسميل; بمعنى تهذيب المفردات والألفاظ والعبارات، وتلطيف حدتها، علق البعض على سبيل الترويج، بأن القاموس يوفر مرشد وجيز ومفيد للقاريء، يعين على التعرف على طواعية اللغة ومرونتها، وإمكانياتها الكامنة.

 

 

 

 

وكذلك للإحاطة بكيفية تسخير اللغة لتحقيق أغراض مختلفة الدوافع مثل الطلاء والتبطين الإيديولجي والمواربة والتمويه والإضمار والمراوغة. أو التخفيف والتلطيف، من وجهة أخرى، والتي قد تقتضيها أحيانا ضرورات اللياقة والكياسة والترفق والتحرز.

ولا غرابة في ذلك فاللعب بالكلام واستغلال ممكنات اللغة مهارة بشرية أصيلة وظاهرة لغوية قديمة قدم اللغة ذاتها، وهي تظهر بوضوح في النزوع الإنساني الطبيعي لتشذيب العبارات الخشنة والحرشاء، وتثليمها وتلطيف حدتها، وتخفيف مباشرتها.

ويبدو ذلك جلياً عندما يتعلق الأمر ب(التابوات الثلاث) على وجه الخصوص. أو على سبيل المثال كما هو الحال في المجابهة اللغوية مع فكرة الموت كحتمية موحشة مفزعة، تجهد اللغة للالتفاف عليها، وكبح قساوتها بتعابير من نوع (التحق بالرفيق الأعلى، جاءه اليقين)، وغيرها مما توفره التعابير اللغوية بطبقاتها الدلالية المختلفة، لتفادي المباشرة وللدوران حول المعنى.

 

 

 

 

وقد تأتي المباصرة اللغوية كتطور مواز لضرورات تقتضيها اتجاهات إنسانية/ثقافية/حضارية، أو سياقات اجتماعية/نفسية/معنوية، مثل التلطف والترفق في التعبير عن العاهات والإعاقات الجسدية، مثل (معاق بصرياً وليس أعمى)، واستبدال المباشرة في اللفظ بتعابير كيسة تتفادى الأذى النفسي والمعنوي، وتعمل على تجمّيل ما قد يمجه التعامل الإنساني واللياقة والذوق.

وهو كما أسلفنا اتجاه قديم، فقد أورده الثعالبي في (الكناية والتعريض)، وقد أسهب في أحد فصوله بإيراد الأمثلة حول كيفية التعبير المُخفف عن العيوب الخلقية.

كما أن التلطيف اللغوي يعتبر كذلك ضمن قياسات المؤشرات الحضارية، خاصة إذا كان التكييف اللغوي يقوم كاستجابة لحاجات إنسانية/ ثقافية وذوقية، توظف اللائق من الكلام مما تم تغليف وتلطيف معناه ليخفف ويخفى.

وبهذا الصفات فقد أصبح التسميل والتلطيف كذلك وسيلة مهمة، وجزء مركزي من الخطاب الإنساني التجديدي، الذي فرضته بعض الحساسيات الجديدة المرتبطة على سبيل المثال بالنزوع لسؤال الهوية، وصعود الإثنيات المهمشة والمغيبة، وما ارتبط بها من اتجاهات جديدة لمراجعة ثنائية الأنا والآخر، وإعادة موضعة الذات في مقابل الآخر.

وعبر كل تلك التحولات والاحتياجات فقد ظلت اللغة تظهر طواعيتها وامكانياتها الكامنة في التعامل مع تلك المياه الجديدة التي ظلت تتلاطم تحت جسر الواقع الإنساني، لتتلائم اللغة بشكل مدهش مع التحولات الكبرى في الوعي الاجتماعي، وعلو قامة قيم الحداثة، ودلالاتها المرتبطة بحقوق الإنسان، والتعدد والديمقراطية والمجتمع المدني، كمفاهيم وقيم كونية عابرة للثقافات. مما يدفع تلقائياً  بمفردات محتشدة بدلالتها الإنسانية الحضارية من وزن (عدالة اجتماعية، تعايش، تعدد، تنوع، تسامح) وغيرها.

 

 

 

 

 

وهكذا فإن التوتر الخلاق للغة يظل ينتج ويوفر استراتيجيات عدة تعين على حسن التخلص من الألفاظ والدلالات الحادة، وذلك بتسخير الترادف اللفظي، والكناية والتشبيه والحذف والتضمين وتبطين المعنى وغيرها.

ولعل أمثلة المراوغة اللغوية المحترفة التي تقدمها السياسة والأدلجة تظل هي الأكثر حضوراً للتعبير عن التحايلات اللفظية الاحترافية. فمن منا لا يذكر تعابير ظلت عالقة دهراً بالأسماع من وزن (نيران صديقة) و(تطهير عرقي) و(سياسة الأرض المحروقة) مثلا كتعابير مُتسترة ومُلطفة تختزل معانٍ مقيتة وغير إنسانية، أيسرها القتل وإزهاق الأرواح والإبادة التي لا توفر طفلا أو غرسا.

ويمكن تقديم الخطاب السياسي الرسمي كمثال على مرونة التسميل، فهو خطاب يعتمد بشكل مركزي على تلك الاستبدالية اللغوية التلطيفية بغرض التمويه والمراوغة ومحاولة تجميل القبيح، المرفوض، المذموم أو المستشنع.

وهو ربما ما حدا بنعوم تشومسكي، العالم اللغوي والمفكر السياسي، تقديم سلسلة محاضرات متتالية، وكذلك بذل عدد من المؤلفات التي تهدف بشكل مركزي لنزع الأغطية عن بشاعة اللعبة السياسية السلطوية، وكشف قبحها وعبثيتها، وحرصها المرضي على استغلال اللغة لتشويش المفاهيم وتزييف الوعي. ففي كتابه (الإرهاب الدولي:الأسطورة والواقع) يقدم تشومسكي جهدا بحثيا وتحليليا رصينا لإثبات أن مفردة (الإرهاب) نفسها قد تحولت تكتيكياً إلى إرهاب لغوي وفكري يستهدف التغول والتهديد والابتزاز السياسي المستمر.

ووقد هزأ تشومسكي من كل ذلك بعبارته الشهيرة التي أقلقت الدست الأمريكي ( يبدو أن الإرهاب يعني فقط ما يفعله الآخرون بنا، لا ما نفعله بهم ). فقد انتبه تشومسكي في أتون حرب المصطلحات المجلجلة، لمعادلة خطيرة لخصها بأن (هندسة اللغة والمصطلحات = هندسة التاريخ).

ولايستقوي الخطاب السياسي عادةً بسحره الأسود الفتاك دون معاونة أذرعته الأخطبوطية المرتزقة من صحافة ووسائل إعلام، والتي تمثل مجتمعة أخطر أدوات الخطاب السياسي الرسمي، المرتكز في أغلبه على المراوغات والتحايلات والمخاتلة اللفظية والدلالية. ودوننا نشرات الأخبار اليومية، وعناوين الصحف بصياغاتها المحبوكة، الملونة بالميول والتحيزات، وحرصها على الدس المبطن في سبك العناوين والأخبار بما قد يقوم على افتراضات مسبقة، وإيحاءات ضمنية مفخخة، كمحاولة ماكرة لتشكيل انطباع قبلي، ليبدو الخبر أو الأمر المطروح وكأنه حقيقة مسلم بها. على الرغم من أن جل تلك الصياغات والسياقات لا تمثل في الحقيقة سوى حمولات مُضللة، طامسة للوعي، لا تخرج قيد أنملة عن حدود وجهات النظر الرسمية والإيدلوجية، والتي قد لا يصمد أكثرها للفحص المنطقي والتحري الباصر والمقارعة الفكرية.

وهو ربما ما حدا بالخبير السياسي الفرنسي بيير بورديو للتعليق على الأهمية الحاسمة للصياغة اللغوية في الخطاب السلطوي، بأنه قد تحول تكتيكيا عبر العالم من (الإخضاع بالإكراه) إلى (الإخضاع بالإقناع).

ولعلنا لا نجهل، على سبيل إزجاء مثال بسيط، الدهاء اللغوي في التوظيف المغرض لصيغة المبني للمجهول لرفع المسؤولية عن كاهل "الفاعل" في خبر من شاكلة (أُصيبوا في مواجهات)، و(نقلوا إلى جهة غير معلومة).

وهكذا فإن وسائل الإعلام والصحافة، كسلطة نافذة قد تختار الخروج عمداً عن قداسة المسؤولية الأخلاقية والمهنية لتتوخى فيما تتوخى إتقان التسميل اللغوي كوسلية ناجعة من وسائل تزييف الوعي، والتأثير الخادع الملون، وترويج بضاعة السلطة، وبالتالي الهيمنة الناعمة على اتجاهات الرأي العام.

وبين أيدينا الثورات والهبّات الشعبية الجاسرة، التي حولها الإعلام المدجن إلى محض(أعمال تخريب) و(عمالة خارجية) و(جماعات مندسة)، وبالتالي فقد قام بتقديم التبرير المسبق والتجويز الضمني للقمع والسحل والقتل، تذرعاً بردع من يحاول (الإخلال بالنظام العام) و(المساس بسيادة وهيبة الدولة).

وهنا يأتى الدور الحيوي والمركزي لتحليل الخطاب والمقدرة على استنطاق النصوص، وتفحصها والغوص في طبقاتها لفك رموزها وشفراتها، والكشف عن مطموراتها ومسكوتاتها، وما يكتنفها من مضمرات وتأويلات وإشارات لا تنفك عن مجمل الظروف التي أنتجت النص من تأثيرات سياسية واقتصادية، أو أخرى ثقافية اجتماعية.