تأثير التعبيرية التجريدية، وعاطفة الرومانتيكية في أعمال

تأثير التعبيرية التجريدية، وعاطفة الرومانتيكية في أعمال الفنان التشكيلي السوداني العالمي معتز الإمام . محمد العكام لقد حاول الفنان التشكيلي عبر العصور المختلفة حل مشكلة الزمن في الفن التشكيلي. فقد حاول الإنسان الأول (الشامان) أن يصور التسلسل الزمني بتصويره مجموعة من الصور المتجاورة لمواقف متتالية. وقد قنع الناس

تأثير التعبيرية التجريدية، وعاطفة الرومانتيكية في أعمال

تأثير التعبيرية التجريدية، وعاطفة الرومانتيكية في أعمال
الفنان التشكيلي السوداني العالمي معتز الإمام .    


محمد العكام

 

 

 


    لقد حاول الفنان التشكيلي عبر العصور المختلفة حل مشكلة الزمن في الفن التشكيلي. فقد حاول الإنسان الأول (الشامان) أن يصور التسلسل الزمني بتصويره مجموعة من الصور المتجاورة لمواقف متتالية. وقد قنع الناس بفكرة الإيحاء بالزمن عن طريق الحركة الممتدة من خلال اللحظة المجمدة، كما قنع (فن الباروك) بالمغزى الدرامي وقد أقتنع (الرومانتيكيون) بالمغزى الشعوري.

 

 

 


    إلا أن الفنان المعاصر لم يعد يقتنع بهذا، ولذا كان لا بد من استخدام لغة فنية جديدة، وأن يكتشف لغته التشكيلية الخاصة التي تستوعب الزمن في حركتها الممتدة، وهو ما نطلق عليه بالإيقاع الداخلي للأشياء بدون أن يتأثر الشكل بهذه الحركة لإنتاج موسيقي مرئية. من هؤلاء الفنانين المعاصرين نجوس داخل ألوان الفنان التشكيلي السوداني معتز الإمام ونحن نعلم أن المنجز من أعماله يحتاج إلي قراءة حسية حول رؤاه الناضجة وتجاربه التشكيلية المعاصرة حول الثابت والمتغير، وعلي الإعداد الرؤيوي الثقافي في بيئته المحلية وأحياناً بيئة الغربة حيث يقيم.

 

 

 


يعتبر الفنان معتز الإمام أحد سفراء الفن التشكيلي السوداني، حيث ولد في مدينة كسلا بشرق السودان في العام 1979م ودرس بها مراحله الدراسية الأولي وترعرع وأستقي منها معين الجمال الذي تتمايز به هذه المدينة الساحرة ـ وهي مدينة شهيرة بإنتاج الفنانين والشعراء والأدباء والأطباء والمهندسين وأساتذة الجامعات وغيرهم الكثير من أصحاب العلم والمعرفة ـ إلي أن ساقته هويته الإبداعية للدراسة في كلية الفنون الجميلة والتطبيقية بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، ليتخرج منها في العام 2004م، متخصصاً في التصميم الداخلي. ثم بعدها هاجر إلي جمهورية مصر العربية ليقيم في عاصمتها القاهرة مركز انطلاقه الذي مارس منه نشاطه الفني، وهو عضو الإتحاد العام للفنانين التشكيليين السودانيين، وعضو أتيلييه القاهرة، حالياً هو متفرغ بشكل كامل للفن وقام بالعديد من المعارض الفردية علي سبيل المثال منها معرض في أتيلييه القاهرة (2008م)، قاعة آرت اللواء_ القاهرة (2009م) جاليري مصر_ القاهرة (2013م)، ومتحف الفنون الجميلة_ الإسكندرية (2015م)، قاعة المشربية _ القاهرة (2010_2011م)، قاعة قرطبة _ القاهرة (2015م)، جاليري أوبونتو _ القاهرة (2016_2018م)، جاليري شازار_ إيطاليا (2019م)، وكما شارك أيضاً في الكثير من المعارض العالمية مثل أفريكا كام كاسوريا _ إيطاليا (2009م)، ونورد آرت _ ألمانيا (2010م)، ومعرض ميناس آرت فير_ بيروت، لبنان (2012م)، وقاعة المرخية _ قطر(2012م)، وبينالي بكين الخامس_ الصين (2012م)، معرض الفن السوداني المعاصر _ مؤسسة الشارقة_ متحف الشارقة للفنون (2016م)، بينالي ساريا_ أسبانيا (2017م)، وآرت فير ميامي_ الولايات المتحدة الأمريكية (2017م)، وفيرونا آرت _ إيطاليا (2018م)، (1_54) أفريكا آرت فير _ نيويورك (2019م)، لندن (2019م) والعديد من الملتقيات واللقاءات الفنية وورش العمل، كما له العديد من المقتنيات لدي المتاحف والمؤسسات بدول مختلفة. رأينا من كل هذه المسيرة المتطورة في المشاركات أن نستقرأ بعض من أعمال هذا الفنان.

 

 

 


لقد فُهم في تعريف الفن كأكثر الاستخدامات شيوعاً والتي تقابلها Art  في اللغة الانجليزية بأنه : معالجة أو ابتداع العناصر البصرية ـ أو غيرها ـ وتنظيمها عن قصد بطريقة تثير الأحاسيس وتستدعي الأفكار. ويشمل الفن مجالات متعددة من النشاط الإنساني والإبداعات وأشكال التعبير مثل التلوين والنحت والعمارة والجرافيك والموسيقي والأدب، وقد أُكتشف معني الفن في فرع من فروع الفلسفة يعرف بعلم الجمال (Aesthetics). وهو جملة الوسائل التي يستعملها الإنسان لإثارة المشاعر والأحاسيس وخاصة حاسة الجمال بمهارة يحكمها الذوق والموهبة. معتز الإمام بمعرضه (في الظل) والذي قدمه بجاليري أوبونتو في القاهرة ممهوراً بفنه الخلاسي حيث قال: (إلي الإنسان في عزلته، إليهم جميعاً، الغارقون في التخلي والترك،، من لا يغرهم البريق واللمعان، غير المكترثين بالحضور،، أولئك الناس والموجودات الذين عرفوا قيمة ذاتهم الداخلية فانغمسوا فيها فرحين،، المخلوقات والأماكن واللحظات الدافئة البعيدة عن أضواء الكرنفال،، بعيداً في عمق الإهمال، لكم مني تحية وسلام) هي في اعتقادي قراءات كثيرة تضمنتها هذه الرسالة الفلسفية العالية النقاء، في المعني البعيد للوطن وفي المعني الوسيط لزائري المكان وفي المعني العميق تمهيد قرائي للوحاته التي زينت المعرض، ولكي نقرأ هذه اللوحات لابد أن نتعرف علي مدرستين أساسيتين في الفن التشكيلي هما: المدرسة التعبيرية التجريدية والأخرى الرومانتيكية. سنأخذ خلاصة سريعة لكلاهما، فالتعبيرية التجريدية (Abstract Expressionism) حركة فنية واسعة في الرسم ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية في أواخر الأربعينيات وأمتد نفوذها كاتجاه فني قوي في الفن الغربي خلال فترة الخمسينيات أيضاً، لتنتشر بعدها في أوروبا، ومن أعلام التعبيرية التجريدية البارزين في الولايات المتحدة (جاكسون بلوك _ J. Pollock) و (وليم ديكونج _ W. de Coining) و (فرانز كلاين_ F. Kline) و (مارك روثكو_M. Rothko) وآخرين، وقد زاول معظمهم نشاطه في مدينة نيويورك إما مقيماً أو عارضاً لأعماله في صالاتها ومتاحفها والتي قدم فيها معتز الإمام معرضاً في العام 2019م، وتستند هذه الحركة الفنية علي نظرية تقول بأن الألوان والخطوط والأشكال، إذا ما استخدمت بحرية في تركيب غير رسمي، أقدر علي التعبير وإبهاج البصر منها حين تستخدم وفقاً للمفاهيم الرسمية أو حين تستعمل لتمثيل الأشياء. من أبرز ممثليها (جاكسون بلوك _ J. Pollock) و(هانس هوفمان_H. Hoffman). فذائقة معتز الإمام شبيهة إلي حد كبير بذائقة جاكسون بلوك، تقول سارة عابدين في مقال لها عن جاكسون بلوك علي موقع الجزيرة.نت: "أن فنانو التعبيرية التجريدية يعتمدون علي ضربات الفرشاة الكبيرة والانطباعات العفوية، والبحث عن التأثير العاطفي للفن، تأثراً بالسريالية التي تعتمد الأفكار التلقائية التي تأتي من اللاوعي بشكل ارتجالي، مع التركيز علي المعالجة الكاملة للون، دون مراعاة أي دافع أو هدف خفي" وهذا ما نجده في معظم لوحات (الظل) لمعتز الإمام، وهو التركيز علي الأثر - كما تقول - أو البقعة التي تتركها الفرشاة وقد سمي في فرنسا أسلوب التبقيع (tachisme)  من كلمة (tache) التي تعني بقعة.
    ويمتاز معتز الإمام في تنوع الأساليب التشكيلية في معرضه (الظل) وهو يستقي في ألوانه وريشته من الاتجاهات الحداثية أو ما بعدها، وحتى التشكيليون المعاصرون من إبداعاتهم الجمالية، والأساليب التشكيلية التي يتبعها هي مجموعة من الأساليب التصويرية علي مستوي التكنيك ونوعية التعبير. لأن الأعمال التعبيرية التجريدية يجب تتوافر بها خصائص مشتركة بشكل عام، لأن الرسم التجريدي يعتمد علي التكوين في الأساليب المستمدة من العالم البصري حرفياً، وهو التعبير الانفعالي الذاتي والذي يتصف بالحرية والتلقائية، باعتبار أن معتز تطغي أعماله علي أسلوبية التنوع وإبراز استثماره واستدعاء الألوان بخاصية فيزيائية متنوعة حساسة ، اشتغل عليها بديناميكية وقوة وغموض عالي من التناغم. ويري (أرنست فيشر_E. Fecher) أن الأسلوب الذي يستخدمه الفنان في عمله ما هو إلا قوة لها استقلالها الذاتي تتحكم في كل ما عداها، وعلي هذا فإن الأسلوب نوع من النمط الفني يختلف عن بعض الأنواع الأخرى في أنه يتضمن مجموعة متكررة أو مركباً متكرراً من السمات في الفن يتصل بعضها بالبعض الآخر، كما يظهر في معظم لوحات معتز الإمام، وهي طريقة خاصة لاختيار عناصر العمل الفني وينظمها، يمكن تكرارها وتنويعها في منتجات كثيرة مختلفة، ومن ثم فإن الأسلوب يمكنَنا من تصنيف ووصف الأعمال الفنية المختلفة. ولذلك اشتغل معتز علي طريقة مميزة لمعالجة وتنويع أكثر من الأنماط التكوينية في أعماله. ويقول الفنان التشكيلي المغربي محمد الشاوي وهو أيضاً باحث في النقد الفلسفي التشكيلي في مقال له علي (صحيفة المثقف الإلكترونية) العدد 5058 صادر الجمعة 7 أغسطس 2020م:
" ليس التقيد بأسلوب بعينه أو مدرسة دون الأخرى هو عماد الأسلوب التشكيلي، إذ نؤكد أن الفنان التشكيلي المبدع هو الذي نجد عنده أساليب متعددة تتجه به لكي ينسج علي غير منوال، ومعني أن عمله حر ومفتوح علي عدة إمكانيات إبداعية تتجه به نحو التميُز بالسير قُدماً في طريق المختلف الجمالي ومجاوزة المؤتلف الفني بتكسير بنيته وخلق بني أخري تتسع لمعانقة أسمي المعاني والقيم الإبداعية.

 

 

 


    لا زلنا نتفيأ ظلال لوحات معتز الإمام، نجوس داخل ألوان معرضه (الظل) المكون الحقيقي لمعظم لوحاته، نبحث عن مدرسة أخري اشتغل عليها، بحيث أن لكل فنان عاطفة رومانتيكية تعمل علي طاقته الفنية لاستفراغها في نموذج خلط الألوان وإنتاج لوحة ما أو عدة لوحات. كما  قرأنا في الجزء الأول من المقال مدرسة التعبيرية التجريدية التي تناولها معتز في مشروعه الذاتي، وهو يخوض غمار الإنزياحات الواضحة التي تغطي مستجدات الحركة الثقافية الإنسانية اليوم، نجد في معرضه (الظل) عاطفة الرومانتيكية التي حيز لها من الألوان والأفكار التشكيلية مقداراً من إبداعه، فالرومانتيكية _ Romanticism هي مدرسة نشأت نتيجة لرفض الأنواع الأكاديمية والشكلية للجمال المثالي، لاعتقاد المصورون الرومانتيكيون أن الفن ينبغي أن يعبر عن العاطفة الجياشة فيما يعني أن فن التصوير أو أي شكل آخر صار تجربة شخصية، بدأت الحركة الرومانتيكية علي يد الفنان الفرنسي (ثيودور جريكو _ Th. Gericault) 1791_ 1824م. الذي تمرد علي القيود الثقيلة التي فرضتها الأكاديمية الفنية في عهده، فعرض لوحته المشهورة (قارب الميدوزا _ The Raft of the Medusa)  التي اُستلهمت منها الأعمال الفرنسية العظيمة، كما تمرد معتز الإمام في معرضه الظل بعرض لوحته الشهيرة (النيل _ The Nile) التي نفث من خلالها انتماؤه للرومانتيكية بصورة جدية. والتي جسد فيها التصوير المباشر للموضوعات الشرقية، يستدعي فيها سطوة اللون وصمود نهر النيل في جريانه قاصداً المصب، ومعظم لوحاته تتنوع بين المساحات الخضراء علي ضفاف النيل ومناظره الطبيعية، ولذلك يعدد معتز الإمام في مدارسه التي هي عكس الواحد التي تنطلي علي إستنساخ مبدعات الماضي، ويجتهد بها فنانوها للوعي بمدلولاته والانطلاق بما تنطوي عليه من قابليات التفتح والتطور المستمر، فذائقة معتز في مدرسة الرومانتيكية هي عاطفة امتزجت بالألوان، وهي مظاهر للفخامة والضبط والبساطة، بالإضافة إلي الرسم المختصر والتطابق المحكم بين الأشكال الواضحة والمضمون النبيل مخاطباً ذاته قبل المتلقي، ظلت أعماله رمزاً للفن التشكيلي السوداني لما يقوم به من منجز في المشاركات الدولية والعالمية، وهو يعبر عن عواطف وأحاسيس الفنان التشكيلي السوداني بكل توجهاته الثقافية، إيماناً منه بقدرته علي إيجاد واكتشاف حياة نابضة بالألوان وإثارة العواطف والوطنية المبالغة التي تتجسد في تصويرهم للمشاهد الواعية. وكل الذين ينتمون إلي المدرسة الرومانتيكية يؤمنون بأن جذورها تكمن في العاطفة المحتملة والعاطفة النوستالجية، والنوستالجيا هي المصطلح الطبي الذي انتهي الي حالة شاعرية استخدمه لأول مرة في القرن السابع عشر طالب في جامعة بازل السويسرية (يوهانس هوفر) لوصف الألم الناتج عن الرغبة في العودة إلي الموطن. اشتغل معتز علي هذا الأساس، وعلي كنف ومفردات الطبيعة التي ولد وعاش فيها، فهو وليد تلك البيئة في مدينته الفاتنة كسلا بشرق السودان والحبلى بطبيعتها الخلابة وجمالها الذي تميزت به عن بقية مدن السودان. وهي التي ألهمت الجميع وأكثر ما كتب عنها الشعراء فصهرت معتز في جمالها وصقلته، ولا زال يحن إليها برومانسيته التشكيلية وجمالية ألوانه بناءاً علي مقولة ألبرت أينشتاين _ Albert Einstein "تأمل ملياً في الطبيعة، ومن ثم تفهم كل شئ بطريقة أفضل" والمدرسة الرومانتيكية مدرسة عميقة حرضت معتز علي استدعاء الذكريات، مثلما حرضت الفرنسيين يوجين ديلاكرو E. Delacroix وتيودور جريكو Th. Gericault  . فوجه ذاته العاطفية وتأثيراتها علي حياته متحداً مع التغذية البصرية من لوحات مايكل أنجلو كارافاجيو Michel Anglo Caravaggio وسلفا تور روزا S. Rosa وبار تلوم موريللو رواد المدرسة الرومانسية الذين أكدوا العناصر الدرامية في دراسة الموضوعات أو الأفكار التي يختارونها للرسم مما أثر علي معتز الإمام في معرضه الظل والذي تماهت أفعاله مع سخائه في اللون وطبيعته المتناغمة مع الوعي الذي يدركه في أعماله وهو صاحب بصيرة وحركة دءوبة في الإنتاج واللذة التي تتأثر بتركيب الصبغة اللونية. والطريقة التي يرتبط بها بالألوان الأخرى. والأنماط الشكلية للخطوط والكتل في اللوحة. والناس أو الحوادث التي تؤلف (الموضوع) والقدرة التعبيرية الانفعالية للعمل بأسره. وعلي العديد من العوامل. أبحرنا معه في خضم فنه الجميل، قرأنا ما يمكن قراءته في جزء يسير من مسيرته الإبداعية. لعلنا نحي ذاكرة الألوان التي خمدت في داخل كل منا نتيجة السياسات الفاشلة التي مرت علي التأريخ السياسي في السودان، نستكشف مزاجه ووعائه الجامع للتشكيل والرؤيوية الثقافية التي أبدينا فيها شيئاً من وجهات نظر الفن التشكيلي السوداني. متمثلاً في ذاته مررنا من خلالها علي مدرستين من مدارسه التي تناولهما في أعماله التعبيرية التجريدية وعاطفة الرومانتيكية وتأثيراتها عليه.ا

محمد العكام
كسلا_السودان
الأربعاء 12/ أغسطس 2020م