الهُنَا .. بَعْدَ كُلّ الهُنَاكَات!

الهُنَا .. بَعْدَ كُلّ الهُنَاكَات! لمياء شمت قوارب بدائية كهلة استمرأت العطب، تتكدس فوقها حزم بشرية مستغرقة في أحلام العبور إلى الهناك، الماثل في الخواطر كمرفأ ومحضن وملاذ توجب أن يكدح إليه الناذرون له الأرواح، طلباً لنجاة بابُها الهلاك، ورصيدُها تهويمات وأضاليل وأوهام سطت على جل أعمارهم وأحلامهم، هرباً من الخوف، والازورار، والتوجس العظيم.

الهُنَا .. بَعْدَ كُلّ الهُنَاكَات!

الهُنَا .. بَعْدَ كُلّ الهُنَاكَات!
لمياء شمت

 

 

 

قوارب بدائية كهلة استمرأت العطب، تتكدس فوقها حزم بشرية مستغرقة في أحلام العبور إلى الهناك، الماثل في الخواطر كمرفأ ومحضن وملاذ توجب أن يكدح إليه الناذرون له الأرواح، طلباً لنجاة بابُها الهلاك، ورصيدُها تهويمات وأضاليل وأوهام سطت على جل أعمارهم وأحلامهم، هرباً من الخوف، والازورار، والتوجس العظيم.

هكذا تمضي الصور الذهنية تتداخل، مشتبكة مع واقع مهزوم يرمي فيه الإنسان طوعا بحياته الى سماسرة الموت، ليركب متن مغامرة مُهلكة، في لجة تبدو كمدى لا تخوم له. لكنه، على كل حال، خير من واقع طارد يتبدى كسفينة كولريدج في (الملاح القديم) .. محض فلك كسيح، ببوصلة ضريرة، على صدر بحر راكد هجرته الرياح!

ذلكم هو المشهد الروائي لمغامرات الهجرة غير الشرعية، كما يرسمه الروائي الأريتري أبوبكر حامد كهال، في روايته (تيتانكات إفريقية)، في إشارة بليغة لمصير السفينة تيتانك الكارثي. فالرحلة المبهظة لقوارب تهريب البشر تتراءى وكانها رحلة طقسية مقدسة، يمثل البشر قرابينها الشعائرية، لأجل عبور ملحمي مهجوس بالخلاص من "برازخ النار نحو قارات الثلج"!

 

 

 

رواية كهال تعج بشخوص من إريتريا وإثيوبيا وغانا وليبريا والصومال والسودان، في رحلة برية تبدأ من أمدرمان، وتمتد إلى الكفرة الليبية ومدائن تونس الحدودية، مروراً بويلات محدقة، أيسرها التيه والعطش والجوع، وأقساها الخوف والقلق الوجودي ولطمات الذل وانعدام الحيلة. لكن، برغم كل هذه الأهوال الجسيمة، "فلا شيء يلقح العقول سوى جرثومة الهجرة"! فحتى لو بدا الأمر، في مجمله، كفرار من (شبهة) موت إلى موت (محتوم)، فإن المهاجرين يظلون يختارون ذلك بعناد، بديلاً أكرم من أوجاع برزخ الـما بين، حيث (الحياة) في بلادهم مجرد (موت) يراوح بين البطء والمهانة للأبد! وهكذا تكتسب الرحلة قيمة مضافة تجعل منها حفل تبجيل للحياة، لا، كما قد يبدو الأمر للوهلة الأولى، محض استخفاف أهوج بها!

تشهد هذه الرحلة البرية التمهيدية موت شخوص تنطفىء أنفاسهم تباعاً على أذرع رفقاهم، في التصاق حميمي صادق، ونزوع إنساني توثق آصرته المصائب التي تجمع المصابين. حتى، وهم في النزع الأخير، يظل الحنين يتجاذب النفوس التي اقتلعت قسراً من أرضها، لتذروها رياح العدم، وهي تتنكب مصائرها عبر القحط، والصحارى، وسبخات الملح، والأسلاك الشائكة؛ يتربص بها الموت السادر من فوهة سلاح ناري لنهاب جائل، أو لشرطي حدود ضجر تؤنسه زخات الرصاص، فيهبُّ لمنحهم حتفاً عجولاً .. "لا يهب لحظة واحدة لوداع لائق"!

في نهاية هذا المطاف الأولي قد يصل البعض إلى الشاطئ، لتبدأ الرحلة البحرية على جذوع هرئة "تعزف فيها الريح ألحان العدم"، ويريهم الماء مكرَهُ الخاص، فيلتقم بعضاً، ويلفظ بعضاً إلى الشواطئ الغريبة، مكفنين بالقنب وأعشاب البحر، ليُطمروا في قبور مجهولة بكماء، تعلق على شواهدها تمائمهم وتذكاراتهم المبللة. وهناك، في المرافئ التي لونت أحلامهم، "تصلبهم الحضارة فوق أسلاك الحدود" أو "ترفع أسمالهم، عالياً، كالأسلاب"!

 

 

أما من يظفرون منهم بالعبور، فحالهم إما حال من "تصدهم جدران المدن كالكرات"، أو حال من تلظى بسيرة واحدهم الآشوري المعتق سركون بولص: "اللاجئ المستغرق في سرد حكايته/ لا يحس بالنار عندما تلسع أصابعه السيجارة/ مستغرق في دهشة أن يكون هنا، بعد كل تلك الهناكات/ المحطات والمرافئ، دوريات التفتيش، الأوراق المزورة/ معلق، من سلسلة التفاصيل/ مصيره المحبوك كالليف في حلقاته الضيقة/ ضيق البلاد التي تكدست على صدرها الكوابيس"!