الضحك_السكوتي

الضحك_السكوتي محي الدين محمد علي ضحكات على فراش الموت الموت هو خاتمة الحياة ... والانتقال الى دارٍ أخرى ... لا أحد يعلم ... أنار هي أم جنة ... وأحسب أن الخوف من هذا المجهول هو الذي يجعل أتقى الأتقياء ... يرتعش ... عند ذكر الموت ناهيك عن حضور سيدنا عزرائيل نفسه وبجلالة قدره ... ومع ذلك فإن لله عباد... يملكون القدرة على إشاعة الضحك ... والبسمة ... وهم في حضرة الموت ولحظة الاحتضار... وقد يكون ذلك بفضل ثبات متأصل في قلوبهم وقد يكون ذلك بسبب نوع المرض او مسائل غير مرئية لا يعلم أحد سرها ... إلا ... هو !!

الضحك_السكوتي

الضحك_السكوتي

محي الدين محمد علي

ضحكات على فراش الموت


الموت هو خاتمة الحياة ... والانتقال الى دارٍ أخرى ... لا أحد يعلم ... أنار هي أم جنة ... وأحسب أن الخوف من هذا المجهول هو الذي يجعل أتقى الأتقياء ... يرتعش ... عند ذكر الموت ناهيك عن حضور سيدنا عزرائيل نفسه وبجلالة قدره ... ومع ذلك فإن لله عباد... يملكون القدرة على إشاعة الضحك ... والبسمة ... وهم في حضرة الموت ولحظة الاحتضار... وقد يكون ذلك بفضل ثبات متأصل في قلوبهم وقد يكون ذلك بسبب نوع المرض او مسائل غير مرئية لا يعلم أحد سرها ... إلا ... هو !!
وقد ظل الناس يبتسمون ... ساعة احتضار أحدهم ... لأنه كان بين الفنية والأخرى يقفز من فراش الموت ويجري حتى خارج الغرفة وكأنه يطارد شبحاً ... وهو يقول ... أمشي يا معلون ... أمشي يا ملعون ثم يعود لفراشه ... وهو يردد الشهادة ويقول ... إنه إبليس الملعون... جاء ليمنعني الشهادة !!
بل وشرق الناس ... بالضحك والدموع ... عندما حضر أحد الأحفاد ... ووقف أمام جده المحتضر وقال له ... عرفتني يا جدي ؟! فتبسم الجد وقال ... لو كان بيدي لأخذتك معاي!!  ثم فاضت روحه !!
أما الرجل الطيب ... الضخم الجثة ... والذي من طبعه ... الشخير مع التنفس والزفير... عندما تمدد على فراش الموت ... كانت الى جواره زوجته الصغيرة ... وظلت كلما علا شخيره او توقف اقتربت ونظرت الى وجهه لتتيقن من حياته او موته ... وكان الرجل الطيب في سكرات الموت يحس بها وبخوفها وهي وحيدة معه ... ولما أطلت في وجهه للمرة الأخيرة نظر إليها ... ثم مد لسانه وحركه مداعباً... ولما ابتسمت له ... أغمض عينيه الى الأبد!!
ولعل من الطرائف التي اختلط فيها الضحك والبكاء ... أن شيخاً من الشيوخ (المعروفين) مات ذات شتاء ... وقام أهل بلدته ... بحمل جثمانه الى داخل غرفة صغيرة في منتصف الحوش ... وتجمع الناس من كل صوب للعزاء ... وامتلأ صحن الدار بالرجال والنساء ... وأحضر الكفن والحنوط ... ودخل بعض الرجال لغسل جنازته وتكفينها توطئة لدفنها ... ولكن المفاجأة  ... كانت مذهلة ومضحكة ... وذلك عندما سكب الماء البارد على المرحوم لغسله ... فانتفض مذعوراً ... وجلس على سرير الموت وهو يتساءل ... الحاصل شنو ؟! والجوطة دي شنو ؟! ... ولما فهم القصة من أولها لآخرها ... قام بفتح نافذة الغرفة ونظر الي مئات الناس الذين جاءوا لدفنه ... وقال لهم ... كتر خيركم ... لو كنت عارف ... كنت جبرت بخاطركم !!
الطريف في الأمر ... إن المرحوم ... بقى مرحوم جد ... بعد... شهرين من هذا الحدث النادر !!
أطلعت ... ذات مرة على مجلة إنجليزية صادرة في السبعينات ... ولاحظت صورة لرجل رجله مكسورة و (مدلدلة) وهو داخل تابوت يحيط به بعض الصحفيين ... ومراسلي الإذاعات ... فقرأته ... عدة مرات فهالني ما قرأت ... وظل يضحكني منذ ذلك الزمن ... ولعله ... كان من وراء هذا الضحك على فراش الموت !!
قال الخواجة ... كنت نائماً واستيقظت ولكني علمت ... بأنني غير قادر على تحريك اي عضو من جسدي ... حتى الرموش ... ظلت على الحالة التي نمت بها وظللت في قرارة نفسي أحاول الخروج من حالة الموت هذه ولكن دون جدوى ... وأحسب أني ظللت يومين على هذا الحال حتى افتقدني أهلي وجاءوا يطرقون الباب ... ويقرعون الجرس وينادون بأسمي وكنت أسمع كل هذه الطرقات والمناداة ... ولا استطيع فعل شيء ... بل كنت أحس بأنفاسي وقد خفتت تماماً كما يحدث ... (للقعونج) في البيات الشتوي ... المهم كسر أقربائي الباب ودخاوا وتحلقوا حولي ... وفحصوني ... وقلّبوني يمنة ويسرة وقالوا ... أوه ... لقد مات ... وأضافوا باني استحق الموت لأني سئ ... واتفقوا للاجتماع في بيتي ... بعد دفني ... للتفاكر بشأن الميراث ... وقرر أحدهم ان يدفع ثمن التابوت وتكلفة الدفن ... على ان تخصم لصالحه من قيمة الورثة ... وكتب الورثة إقراراً بذلك ... وأرسل أحدهم لشراء التابوت وإحضاره ... وكانت بيني وبينه عداوة متبادلة وظللت أبذل جهداً من (الداخل) ... حتى لا يتم دفني حياً ... وأنا أعرف الذين من حولي بأسمائهم ... وأفهم كلامهم وأحاول مخاطبتهم ولكن دون جدوى !!
وجئ بالتابوت وأدخلت فيه ولكني كنت أطول من طول التابوت بعدة بوصات ... فطلب من (عدوي) أن يأخذه ويستبدله فرفض واقترح ... ثنى الرجلين حتى يدخلا التابوت ... ونجح الاقتراح ولكن غطاء التابوت ظل موارباً بفعل (الركبتين) ... واستمر (عدوي) في حقده ... واقترح ... كسر (الساقين) لأني لن احتاج إليهما وليس ثمة كرة قدم في الآخرة !!
دخلني الخوف والذعر ... وتخيلت ان الأهل سيرفضون ... ولكنهم وافقوا شريطة ان ينفذ (عدوى) عملية الكسر ... فوافق على الفور ودخل الى غرفة كنت أحتفظ فيها بأدوات مختلفة ... وجاء ... وهو يقول ... هذه (البلطة) حادة جداً ... ثم هوى بها على قدمي فكسره... فصرخت وانتفضت جالساً .. هكذا كما تروني وقد فر الأهل اللئام .. وتركوني غارقاً في دمائي !!
إن الضحك على فراش الموت ... قد يتسبب فيه المرحوم (بإذن الله) ذات نفسه ... وقد يتسبب فيه أهله وأصدقاؤه الذين يتحلقون حوله..فى انتظار صافرة النهاية ..ولعل أشهر الضحكات العالمية التى أطلقها أو تسبب فيها(أحد المغادرين)على التونسية كانت هى قولة الجنرال (فرانكو)الدكتاتور الأسبانى الذى حكم بلاده قرابة النصف قرن .. وشاخ حتى صار يتبول أثناء رئاسته لجلسات الحكومة .. وعندما رقد على فراش الموت .. التف الناس حول مقره .. كل يمنى نفسه بسماع النبأ السعيد قبل غيره وأصابت الجنرال حالة فافاق وسأل وزيره الذى يمارضه وقال .. ما هذه الضجة الهائلة التى أسمعها؟ فقال الوزير.. انها ياسيدى جماهير الشعب الاسبانى جاءت تودعك!!فقال الجنرال فرانكو .. والى أى جهة تنوى جماهير الشعب السفر؟
أما أهلنا فى أقصى شمال الشمال والذين عرفوا بسخريتهم وقفشاتهم الذكية واللازعة.. فلديهم نوادر لاتحصى فى هذا المجال واختار من بينها طرفة حقيقية .. أبطالها أهلنا العائدون من مصر ودول الخليج .. والذينتقاعدوا بالمعاشوعادوا لقراهم فى أرض الحضارات بالسكوت والمحس وأرض الحجر..والذين أصبحوا بلا عمل غير الصرف من وفر سنين الاغتراب ... والتجمع أمام البيوت ... أو حيث ما اقتضت ظروف الأفراح والمآتم والمناسبات... وقطع الوقت في تدخين سجائر "القمشا" والشيشة والونسة الطويلة العامرة بالحكاوي والقفشات والنكات ... ولما بلغ هذه المجموعة ان "محمد صالح" قد لزم فراش المرض ... وان حالته ميئوس منها وانه يحتضر تحول مجلسهم الى داره ... فكنسوا أمامه ورشوه بالماء ونصبوا صيوناً لينشر عليهم الظل أيام احتضار الرجل ويؤدي الغرض أيام الماتم والفراش وانهمكوا في "برم" سجائر القمشا وامتصاص خراطيش الشيشة ... وتبادلوا الحكاوي والقصص والقفشات دون ان ينسوا كل مرة سؤال إبن الرجل المحتضر ... كدي يا ابني قوم شوف الهاج إزاي وعندما يعود الابن ويخبرهم بان حالته بطالة ... وإنه في حالة الغرغرة يضربون كفاً بكف ... ويقولون ربنا يحسن خلاصه ... ده حال الأولين والآخرين وكلنا لها ... موش بأيدينا حاجة نعملو ويتكرر السؤال عن حالة "الهاج" حتى اذا جاءهم الابن متهللاً ..وقال لهم .. الحمد لله ... الولد بقى تمام التمام ... وطلب كباية شاي سادة !!
صاح جميع المتحلقين حول الشيشة بصوت واحد ... لا يا أبني ما يصحش الكلام ده ... أبداً ... إحنا مكسرين هنا تحت الصيوان يجي تلاثه يوم ... يقوم ويطلب شاي ... وسادة كمان!!
ما يصحش يا ابني والله ...!  
وعندما أصر الابن بان حالة والده قد تحسنت بالفعل وانه قد قام من فراشه ... وهو ماشي في طريقه إليهم لشفط الشيشة علق كبيرهم الذي علمهم "البرم" ... فجة الموت عرفنا ... كمان ظهر مشية الموت ؟!
ولأبي عليه رحمة الله ... وهو من – عندنا برضو- نصيبه من الضحك الجميل على فراش الموت ... وقد كان رحمه الله رجلاً فقيراً بسيطاً ودوداً وكان ثرياً كل الثراء بحب الناس لما كان يتميز به من الوفاء لأهله وأرحامه وأصدقائه ... بل وكانت له علاقات خاصة وفريدة من نوعها مع الأطفال الذين يعرفهم أو لا يعرفهم والذين يلاقيهم في طريقه ... فيضع في أياديهم الصغيرة قطع الحلوى والبلح ... والتي كان يحملها دائماً في جيبه من أجلهم ... ولما رقد علي فراش الموت أحاط به القاصي والداني متمنين له الشفاء وكان موقف أطفال الحي أكثر تأثيراً وتعبيراً إذ اقتحموا الدار في صف طويل ... وأفسح لهم الجميع فدخلوا وعلامات الإصرار على وجوههم ووقفوا الى جوار أبي ومدوا بأيديهم يواسونه وهم يبتسمون في حياء الطفولة البرئ وطفق هو رغم المرض ... يربت على رؤوسهم ويمسح عليها ... ويداعبهم بأسمائهم ويبتسم في وجوههم .
رحم الله والدي وأسكنه فسيح جناته فقد كان رجلاً صالحاً ذاكراً صواماً قواماً ... ولما اشتد به المرض ... تقبل الأمر بثبات ويقين لا يصدق وكان يواسي أهله وأصدقاءه قبل ان يواسوه في مرضه ويخرجهم من جو الحزن والأسى بحكاويه وقصصه الزاخرة بالحكمة والطرافة والمتعة ... وكان المرض يدري بذلك ... فيشتد عليه حتى تبلغ الحمى منه مبلغاً لا تنطفئ الا بالمكمدات الباردة ... وكان يستقبل جبروت الحمى ... بصبر ويقين ويطلب منا تعديل مرقده في اتجاه القبلة فيتمدد في ثبات عجيب ... ثم يردد الشهادتين مرات عديدة ويصمت مع مسبحته يردد أوراده لا اله الا الله محمد رسول الله ... وتنطفئ نار الحمى ...
وتعود إليه عافيته حتى أنه ظل مرة على حاله في انتظار الموت ... فاستغرق في نوم عميق ولما استيقظ سألته مداعباً عن الحكاية فقال ما فيش حاجة ... القضية اتأجلت ... قلنا نأخذ نومه حتى تعلن الجلسة الثانية ...!
ولما أعلنت الجلسة الثانية ... واشتد عليه المرض ... رفض الدواء والأكل معاً ... وذات يوم أحضرت له إحدى بناته شوربة حمام ... فرفضها أيضاً وباءت كل المحاولات باقناعه باحتساء القليل منها ... وظل يهز رأسه ويقول ... يا جماعة نفس ما في ... وفي هذا الأثناء حضر أحد زملائي وهو اللواء شرطة هاشم حسن الشايقي فأوعزت له أن يقدم الشوربة لأبي ... ففعل وتقبلها منه أبي ... وجبر بخاطره وأخذ منها "بقة" واحدة ... ظل يقلبها ولم يبلعها ولما أحس بانشغالنا تخلص منها ... فعلق صديقي هاشم وقال ... والله أبوك بالغ ... يا أخي الملياردير أوناسيس ما بتتمضمض بي شوربة الحمام ... وضحكنا وضحك الجميع وشاركنا أبي الضحك .!!
وما ان غادر الصديق ... حتى دخل علينا رجل "حلاق بن حلاق" وجلس الى جوار أبي ... يدلك رأسه وكتفيه بعطف بالغ ... ثم أخذ كورة الشوربة وقدمها لأبي فدهشنا جميعاً ... لما أخذها أبي ورفعها الى فمه وشربها ... وأعادها للرجل فارغة تماماً ... وبعد انصراف الحلاق أقبلنا على الوالد نعاتبه ونسأله عن الأسباب التي جعلته يرفض الشوربة منا جميعاً ويتقبلها من صديقه الحلاق !!
فأخذ يضحك وأثر الإجهاد باد عليه ويقول ... يا أولادي الزول حلاق ... والحلاق يستطيع ان يلف ويدير رأس الملك في أي اتجاه .. حتغلبوا رأس أبوكم ؟ 
فقلنا : لا ..
فقال : وتيب .
وطيب الله ثراك يا أبي .. فقد حرمنا غيابك الضحكة الصادقة ..!!