طقس الحديقة
طقس الحديقة لمياء شمت يقدم مشروع محمد المكي إبراهيم وثيقة إبداعية لنتاج قريحة شاعرة استطاعت أن تراكم تجربة متمهلة ناضجة، قوامها الوسامة والعمق والانسجام.
طقس الحديقة
لمياء شمت
يقدم مشروع محمد المكي إبراهيم وثيقة إبداعية لنتاج قريحة شاعرة استطاعت أن تراكم تجربة متمهلة ناضجة، قوامها الوسامة والعمق والانسجام.
وأن تؤسس بكفاءتها التعبيرية وجدارتها الجمالية قاموساً خاصاً لم يقتصر إسهامه على التأثير في مجمل طبيعة التلقي، بل ساهم كذلك في تكريس ذائقة شعرية بحساسية مختلفة. ويتجلى بعضاً من ذلك الأثر في الاشتغال اللغوي والتكثيف الأسلوبي، الذي ينفذ بالعبارة إلى غايات دلالية وتأثيرية مفيضة. ولنتوقف بدءاً عند الأبيات التالية، وهي تحاول استقطار جوهر اللحظة الشعرية كبرهة كثيفة عارمة، ينازع فيها الشاعر تواترات الوجد والجذب، والذكرى والمشاجنات.
شيء في قلبي كالأكلان/................./ يتحرك ذاك الشيء على الأغوار/ بخطى التنميل
خطى الإرهاص/ خطى الأحزان/............/ فشعرت به في القلب يدب/ كنقاط الزير وفي بطء ينصب/ يتدحرج أملس أملس فوق القلب/ ويطير مساء الجمعة أيخرة لا لون لها/ لا أعقلها إلا حين يعود الشيء يدب/ ويظل الشيء يجيء لدى الميعاد/ ويطيل الزورة يشنقني/ وينشك على روحي أوتاد/ وأخيراً لازمني لا يبرحني إلا ساعات الميلاد/
وتتوالى اللقطات الكثيفة والصور الحية التي تذرفها أعين الشعر الرقراقة في استكناهها الفطن، واستغراقها الحميم، لتفترع بها نماذج لإطلالات متصلة على الحياة، تنعقد حولها مرويات، وتتوالد أحداث، وتنهض شخوص. لتبرز عبر النصوص المختلفة العناية الجمة بمفاعلة الصور والمشهديات العامرة بتفاصيل الحياة. كما في نموذج قطار الغرب، تحديداً مشهد الوداع في المحطة:
هذا بلدي والناس لهم ريح طيب/ بسمات وتحايا ووداع ملتهب/ كل الركاب لهم أحباب/ هذي امرأة تبكي/ هذا رجل يخفي دمع العينين بأكمام الجلباب/ سلم للأهل ولا تقطع منا الجواب/
ونقف في نص آخر عند لقطة مقربة لركاب الطائرة المتجهة للخرطوم، وهم يتشاغلون بمراقبة لهو الأطفال يحجلون بين المقاعد ، أو يتذرعون بالنوم الهش حتى يهل المطار. حيث تنتقل عدسة الشعر المتأملة بين مشاهد مختلقة، تتماس بها مع جوهر فكرة التوق الجياش لصدر وطن غائب، يمارس أقصى الحضور.
كل هذي القلوب النوائم/ تحلم في نومها/ بالوطن/كلها تتشرب سمرته الداكنة/ وصبوته الساخنة/ وتاريخه المحتقن/كلها تتذرع بالنوم/ حتى يهل المطار/
وفي فضاء آخر يلوح موكب سيرة العرس المائج بالصور والأصوات والروائح.
كرنفال جن فيه العطر وانثال النغم /عربدت في الجو أصداء الشتم/ هسهست مرحى عراجين النخل/ فالعريس اليوم يرتاد النهر/
ويستمر التحديق في تصاريف الحياة، والحرص على التقاط تفاصيلها الطرية ببساطة وعفوية أليفة، حيث تتشكل محكيات عذبة بكامل ألقها السردي وتوترها الدرامي، تجدل بدورها علائق بين المشهد وخلفياته وشخوصه:
خمس من النساء / مخوضاتٍ في شراسة الشوك وفي الشقوق/ يجمعن في الغابة حطب الحريق/ خمس نساء فقراء/ يجمعن للوقود ساقط الأغصان واللحاء/ وعندما أقبل حارس الغابة في دوامة من الصياح/ قذفن للأرض بما جمعنه/ وأطلقن مع الرياح /سيقانهن/ واختفين في دوامة من الصياح/
وبتراكيب لغوية مرنة، وخطفات جمالية بارعة تنهض الصور، أو تُضمر في نسيج النص، لتلتئم كشعشعات ذهنية تتسلل لجوف المخيلة.
ساعتان من الموت والبعث والانهيار/ ساعتان من البطء يمكن وضعها في إطار/ قطرة..قطرة تنزل الثانية/ بعد أن تتجمع من فجوات التمهل والانتظار
وتمضي عدسة تلك الرؤية الشعرية في تأمل مسترسل، ورصد راءٍ ، لتقتنص كل لحظة اتصال ممكنة، فتغوص بها عميقاً لتستغور أبعادها النفسية والوجدانية. أو تنغتح بها على تفاصيل الخارج الاجتماعي البيئي، الممتد عبر المدن والأرياف والدساكر، لتستدمجه بسعة في أفقها الإنساني الكوني العريض.
الباعة ملحاحون وحلافون/ ولهم آذان تسمع رنة قرش في المريخ/ هذا نوع في كل نواحي القطر تراه/ جنس رحال منذ بدايات التاريخ/
علاوة على توظيف الثقل المشهدي في إحالات عميقة تلامس قضايا المعيش والضرم الحياتي، في محاولة للنفاذ لانسدادات الواقع اليومي وانسحاقاته.
تستفيق المدينة تغسل أسنانها / وتحدق في السقف سائلة/ كيف ينصرف اليوم؟
أو تستغرق في مكاشفة موجعة تندب الحال المعوز اليبوس، رغم سعة الأرض الفسيحة العامرة بالممكنات. وهي صورة تتراسل مع صلاح أحمد اٍبراهيم وهو يزفر حسرته الحرى: "النيل وخيرات الأرض هنالك.. ومع ذلك.. ومع ذلك!".
هذي الأرض الممتدة كالتاريخ/ حبلى بالشبع وبالخصب المخضل/ والناس هنا خيرات الأرض تناديهم/ لا أذان تصيخ/
وتترى اللقطات في مشاهد متشاعبة، تختزن في مسامها صورة الوطن المقروح، ليستولد بها الشاعر دلالات إضافية للضنك الحياتي كما في صوغ مشهد الشمس القاسية عابسة الوجه.
يالنار تجلد وجه المدينة/ تغرز وقد أصابعها الهمجية/ في الماء والظل والسقف والباب/ تحشرها بين خصاص النوافذ في كل حي/
وجدير بالملاحظة أن التشكيلات اللغوية بعباراتها المركبة تمثل أكثر من مجرد مفاتيح دلالية، فهي تحضر أحياناً كنواظم تنهض منها ركائز تعبيرية تقترحها شبكة العلاقات الدلالية، والجريانات التحتية العارمة، التي تعبئ اللغة بطاقات مؤثرة سابرة:
(عيوناً تعرف لون الذئب الرابض للقطعان)، وحيث القمر العابث (طول الليل يستغوي الحقولا )، والحزن المكتهل وهو يغدو (بارد الدمع مستنفد العبرات). أو حين يخاطب المجذوب (برحيلك ينفصل الجمر عن صندل الشعر)، أو يصف أحضان الأم (رحبة المثوى مطيبة الجناب). والهوى الذي (مد الجذور إلى حنايا الأرض). ومكابدة جاثوم الاستحالة (حيث تنبعج الروح بالخوف واليأس)، والحبيبة التي هي (أبعد من خطرات الخيال.. وأقرب من دعوة مستجيبة). وذاك الذي (لم تعلمه عن قوة الجاذبية تفاحة ساقطة). و(الكينونة الممسوحة القسمات)، و(ضرس الإيمان الضارية الصلدة)، و(كل ما تنفك عنه شرانق الزمن الوهوب). وكذلك في تجسيد وترهين النضال الأكتوبري المحتدم (تفجر الغاز البذيء على العيون مدامعا)، (وتوحش البارود لعلع في الجباه وفي الرئات وفي الصدور).
وتستفحل زحزحة اللغة عن مواضعاتها عبر النصوص لتطلق مباغتات جمالية، مكتنزة الدلالة، تتوهج بإفاضات تغامز العقل، وتؤنس الروح.
(الانخذال النبيل)، (الكذب الرؤوم)، (الصمت الحرون)، (الحق الأنوف)، (الوهج الجاسر)، (طراوة الذهول)، و(هشاشة البكاء) و(جهشة الضوء).