الثقافة والمقاومة
الثقافة والمقاومة
كتاب هوية السودان من خلال نصوص أغاني الحقيبة
أبوطالب محمد
يهتم هذا المقال بدراسة المنتج الثقافي النقدي، كتاب: (هوية السودان من خلال نصوص أغاني الحقيبة) الصادر عن مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي في عام ٢٠٢٣م، عام التفكك وتمزق النسيج الاجتماعي، عام الانهيار والتشرد وتساقط القيم الوطنية، والدعوة لإثارة خطاب الكراهية والغبن الاجتماعي. المنتج النقدي رد فعل ثقافي مقاوم لعصر التتار. مؤلفة هذا الكتاب دكتوره عفاف عبد الحفيظ محمد رحمة، تقديم بروفيسر عبد الله علي إبراهيم، أصل الكتاب رسالة من جامعة الخرطوم في عام ٢٠١٥م، عنوانها: (حقيبة الفن والحركة الوطنية) وأشرف عليها كاتب التقديم. وهو من الدراسات المهمة للغاية لحفره وغرسه للجانب الوطني.
نهضت بنية الكتاب على كلمة شكر وإهداء وتقديم وخمسة فصول ضمت عناوين داخلية تربط محتويات كل فصل. ناقشت الباحثة في الفصل الأول، تعريف أغنية الحقيبة ومصادرها الثقافية، باعتبارها جنس فولكلوري ومسرح لتعريف الهوية الثقافية ووسيلة من وسائل الاحتجاج الثقافي وشاهدة على التاريخ.
اهتمام الباحثة بدراسة (الحقيبة) كجنس فولكلوري مكّنها من الاستناد إلى نظرية القومية المعاصرة للمجتمعات المتخيلية لصاحبها ( أندرسون)، من هنا انتهج الكتاب سبيل قويم في دراسته لأغاني الحقيبة كتعبير وطني تضمن روح القومية السودانية. أشارت في الفصل إلى ظهور مصطلح الحقيبة في عشرينيات وثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي في السودان وعرفت هذه الأغاني ب( أغاني ما بين الحربين) أو ( أغاني أم درمان) للإشارة إلى مدينة أم درمان التي شهدت ميلاد هذه الأغنية، وقد أطلقت على هذه الأغاني اسم (الحقيبة) في بداية الستينيات من القرن الماضي، عندما بدات إذاعة أم درمان في بث برنامج يقدم هذه الأغاني.
تدرس الباحثة في الجزء الخاص بأغاني الحقيبة كجنس فولكلوري؛ نشأتها بين جماعة فولكلورية تعيش في مجتمع حضري تداول الأغنية شفوياً، وازدهرت لمدة عقدين من الزمان، وهو طرح مستلف من تعريف الفولكلوري (دنديز) للجماعات الفولكلورية، وهم مجموعة من الشعراء ألفوا أغاني وطوروا تقاليد في التأليف الشعري وقوانين خاصة؛ بها قيّمت من خلالها الشعراء المنضمين الجدد، وقد جمع بين أفرادها الشغف المشترك بالإبداع والمنافسة فيه.
تربط الباحثة أغاني الحقيبة بالثقافة الشعبية، لأن الثقافة هي امتداد لثقافة الجماعة الفولكلورية، أو ثقافة الناس العاديين وتستعير تعريف الفولكلوري (أوزبورن) الثقافة التي صنعها الناس بأنفسهم). انبعاث أغنية الحقيبة من تحت أقدام الناس العاديين، ومن مشاعرهم البسيطة أتاح ربط رسالتها وأسلوبها مع الثقافة الشعبية السائدة آنذاك.
تسترجع الباحثة أغنية الحقيبة كالشهادة لقراءة التاريخ إلى علم الفولكلور الذي بدوره يستند إلى ثقافة نشأت بين أقوام في زمان ومكان محددين. فاغنية الحقيبة في متن الكتاي عكست معلومات عن الخلفيات الاجتماعية والتاريخية في فترة العشرينيات والثلاثينيات والاربعينيات من القرن الماضي، وأصبحت وسيلة احتجاج ضد الهيمنة الكولونيالية.
ناقشت الباحثة في الفصل الثاني (من تخيل الأمة) وأجابت عن أسئلة أساسية من تخيل الأمة السودانية؟ وأي منابر استخدمت لمناقشة وتشكيل وإشاعة هذا الخيال؟ وأي الوسائل استخدمت للتعبير عنه؟ وهي أسئلة نقدية عنيت بدراسة تطور القومية السودانية في فترة العشرينيتات وحتى الأربعينيات باستنادها إلى التعليم الحديث في خلق نخب متعلمة اهتمت برفع الوعي القومي، ووضعت تصورات للأمة السودانية بطرق جديدة: ظهور السكك الحديدية في فترة الحكم البريطاني ودورها في نشوء المدن السودانية، وزيادة الحركة والانتقال وتوطيد التداخل الاجتماعي بين السودانيين. دور وسائل الاتصال مثل التلغراف والتليفون والإذاعة والثقافة المرئية (مثل الصور الفتوغرافية) والإعلانات والسينما. دور الصحافة في رفع الوعي القومي ومناقشة معنى الهوية السودانية، والدعوة لكتاب الأدب السوداني. وجميعها شكّلت حافزاً لنشؤ أغنية الحقيبة ودافعة للتوجه القومي ومنبراً تقدمياً للهوية السودانية.
درس الفصل الثالث السياق المجتمعي لأغاني الحقيبة في أم درمان، ورده إلى (بيت اللعبة) كمكان أساس تقام فيه حفلات الزواج وتقدم فيه الأغاني، أشار الفصل إلى أغاني ود الفكي القادم من منطقة كبوشية فأخذ الناس بجمال صوته وأسلوبه الجديد، حيث كان الشكل المعتاد للاحتفال في مناسبات الزواج في ذلك الوقت هو أداء فن الطمبور، وهو نوع من الأداء يقدم بواسطة الأصوات الحلقية ويقوم به ثلاثة رجال و يقدمون أيضاً بعض أبيات الدوبيت، أهمية ود الفكي في مسرح الأغنية خلق واقعاً جديداً ، حول الأداء في بيوت الأعراس من أصوات حلقية إلى شعر مغنى؛ ثم ارتقى بمكانة الفنان في المجتمع. واهتم الفصل بدور الشاعر كمصوّر فتوغرافي موثق لأحداث الحفل. يتغنى حدباي في وصف حضور الفتيات وجمالهن :
زهر الرياض في غصونه ماح
اتراخى في الساحة أم سماح
شايقني الطبعو الجماح
هاك مني أقوالاً صحاح
لا كلفة لا خوف لا لحاح.
انبسط الفصل على المصادر المعرفية لشعراء الحقيبة، ومردها الخلاوي والعلوم الإسلامية واللغة العربية وبلاغتها والتاريخ والثقافة الإسلامية، حتى القدرات الصوتية نتيجة لخبرة سابقة في ترتيل القرآن وتلاوته، وإجادة فنون التجويد وضبط الأصوات ومخارج الحروف بالإضافة إلى معرفتهم للشعر العربي القديم كتراث أسسوا عليه أغانيهم.
مثل بيت اللعبة مسرحاً لأغاني الحقيبة الوطنية، ومكان اهتم بتقديم مسرحيات التقدّم الاجتماعي مثل مسرحيات العبادي الحافلة بالقضايا السياسية والوطنية واستلهامها للتاريخ، ومسرحيات سيد عبد العزيز وميولها للنقد الاجتماعي. ففي الفصل الرابع هناك اهتمام بتوليد هوية الأمة من اللغة والثقافة والدين، وهي مسوغات ناتجة عن أثر الشعر العربي في أغنية الحقيبة والأساليب البلاغية العربية كالجناس، ثم الإشارة إلى مباديء تعليم الإسلام في شعر الحقيبة مثل قصيدة ود الرضي ( أحرموني ولا تحرموني) التي جعل فيها من وصية الإسلام بضرورة السلام ذريعة لعتاب محبوبه الذي حرمه إلقاء التحية عليه.
احرموني ولا تحرموني
سنة الإسلام السلام
عطفكم يامن ألموني
كالأشعة الأسهم رموني
الشجون بالليل نادموني
الأنين والنوح ألموني..
ومن الاقتباسات القرآنية الواردة في شعر الحقيبة يحضر سيد عبد العزيز في المقدمة في قصدة ( مسو نوركم) :
هل أتاك حديث الكوكب النضاح
قمرة تمطر خمرة وحارسها الفضاح..
واقتباس الشاعر أحمد عبد الرحيم العمري :
صفوة جمالك صافي الماء على البلور.
ومن استلهامات قصص القرآن الكريم الواردة في شعر الحقيبة قصة النبي يوسف عليه السلام،
سيد عبد العزيز:
دعجة ومكحلة خلقه عظما الرحمن
في كمال جمال الخلقه ووشها الأيمان
هي في الجمال زي يوسف والوهيبة كمان..
إضافة إلى قصص الحب الشعبية في الثقافة العربية مثل قيس وليلى وقصة كثير وعزة.
عبيد عبد الرحمن:
مشهد كان يمثل قيس يوم لاقى ليلى
بالحب المؤكد والعاطفة النبيلة.
المساح :
بكى ساجع الروح ورتالي ككثيرة عزة مثلي
وفي هواك أموت ما سالي.
وهناك حضور لمشاهير شعراء العرب في شعر الحقيبة مثل طرفة وحسان وزهير.
حدباي:
لو أفوق في شعري طرفة أو حسان
الكمال بالأهيف ما حصاه إنسان.
مصطفى بطران:
يا مثال الناعس طرفي بيك سهير
يا بدايع طرفة يا معاني زهير.
درس الفصل الخامس الأخير التصورات الذهنية للأمة السودانية من خلال أغنية الحقيبة والتغني بالوطن:
في الفؤاد ترعاه العناية
بين ضلوعي الوطن العزيز
لي عداه بسوي النكاية
وإن هزمت بلملم قواي.
عبد القادر تلودي:
سوداني الجوه وجداني بريدو
الحبو علاني وسماهو ظلاني بريدو.
كما صوّر الفصل الملامح الجسدية للمرأة في أغنية الحقيبة. سيد عبد العزيز:
يا الملكة الكامل جمالك
شايلة النوم من عيني مالك
يا أم شعرا نديان وحالك
حور أم در يتمنو حالك.
اهتم الفصل بعلاقة الرجل والمرأة والاحتفاء بصفاتها وقيمتها، عمر البنا:
يالعزيز في حسنك وبهجة أم درمان
لي من شوفتك ياحبيبي زمان
أنا ساهر ونوم عيني حرمان
وإنت بين أترابك في نعيم أمان.
سيد عبد العزيز:
غنى القمري على الغصون ذكرني الدر المصون.
اهتم الفصل بدراسة أغنية الحقيبة ومكان نشأتها كرمز وعاصمة وطنية لعبت دوراً كبيراً في إثارة مشاعر القوميين، ورسمت خارطة مضيئة للتوجه الوطني. أشار الفصل إلى تفاعل أشعار الحقيبة مع الأحداث السياسية المعاصرة مثل أحداث ثورة ١٩٢٤ كخطاب مناهض للاستعمار.
أعاد الكتاب في زمن التتار ذكرى التوجهات القومية السائدة آنذاك واستشراف ومقارنة بين تفكك الواقع المعاصر، وترابطه خلال عقود مضت. من الملاحظات التي يمكن تسجليها أن أغنية الحقيبة اهتمت بالثقافة العربية الإسلامية وبالشعر العربي وبالقصص الغرامية العربية وبالشخصيات الإسلامية بصورة أساسية، وهي كجنس فولكلوري يلحظ أن صوت التنوع الثقافي ضعيف جدا في متنها مقارنة بالنصوص الإبداعية التي عاصرتها كالمسرح على سبيل المثال.