في التجربة والراهن الثقافي

في التجربة والراهن الثقافي القاص والناقد السوداني نبيل غالي - القصة القصيرة هي الأقرب لسمات العصر وليس الرواية -. الصحافة ترتقي بخيال الكاتب وتحوله إلي واقع مدهش ومصادم - هناك روايات جريئة حد "الفسق " - النقد أصبح مرتعا لكل من هب ودب والشللية يغطي سحابها الأسود كل الفضاء الثقافي حوار - محمد نجيب محمد علي يعد الناقد والقاص نبيل غالي أحد أبرز الكتاب والصحفيين الثقافيين في السودان ، وقد أمضي ما يقارب نصف قرن من الزمان في مجال الكتابة ولا يزال ،صدرت له مجموعة قصصية بعنوان "إتكاءة تحت عيون حبيبتي "

في التجربة والراهن الثقافي

في التجربة والراهن الثقافي

القاص والناقد السوداني نبيل غالي

- القصة القصيرة هي الأقرب لسمات العصر وليس الرواية
-. الصحافة ترتقي بخيال الكاتب  وتحوله إلي واقع مدهش ومصادم
- هناك روايات جريئة حد "الفسق "
- النقد أصبح مرتعا لكل من هب ودب والشللية يغطي سحابها الأسود كل الفضاء الثقافي
حوار - محمد نجيب محمد علي

 

 

 

يعد الناقد والقاص نبيل غالي أحد أبرز الكتاب والصحفيين الثقافيين في السودان ، وقد أمضي ما يقارب نصف قرن من الزمان في مجال الكتابة ولا يزال ،صدرت له مجموعة قصصية بعنوان "إتكاءة تحت عيون حبيبتي " إضافة إلي كتابين في مجال الببليوغرافيا أحدهما عن الروائي والقاص إبراهيم إسحق والآخر عن الرواية السودانية . وله مقالات نقدية ودرسات أدبية نشرت بالمجلات والصحف وأثارت الكثير من الجدل ،   وهو كاتب مقال ثقافي من طراز فريد. وكان قد أصدر مجلة " الزرقاء " كأول مجلة ثقافية تصدر عن مؤسسة أهلية في الأقاليم .  و عمل في كثير من الدوريات والصحف السودانية ويعمل حاليا مدير تحرير صحيفة اليوم التالي  السياسية . إلتقيته في حوار تناول تجربته والراهن الثقافي .

 

 

 

- أنت كاتب قصة مشهود لك بالكفاءة ، لماذا توقفت ، هل بسبب تقدم السن أم لرؤية خاصة ؟
هي شهادة منك أن تصف نصوصي القصصية  بالكفاءة ، بالرغم من أنني لا أحبذ هذه الكلمة في مجال المدح لأنها تشعرني بأني موظف متقاعد . المهم لا يوجد كاتب يتوقف عن الكتابة بعامل "السن" ، فكم من كتاب طعنوا في العمر وكانوا يكتبون حتي آخر رمق من حياتهم . نعم توقفت عن كتابة القصة القصيرة بيد أنها كامنة وفي حالة بيات ، وربما تكون قد تقمصت أشكالا أخري . لست كاتب " مغرمة " وما أكثر الكتاب " المغارم " في زماننا هذا ، لديهم إستسهال والحصيلة " خواء " . إنهم كتاب " الكم " وليس " الكيف " . إن شهوة الكتابة والنشر إسبوعيا أو كل إسبوعين أو شهريا لها أسبابها،  خاصة  لدي الكتاب الشباب لإثبات "الحضور " ، وكنا من المداومين مثلهم علي الكتابة والنشر في مقتبل العمر ، ولكنا الآن لسنا في حاجة لإستخراج شهادة ميلاد قصصية . بعض نصوصي القصصية التي نشرتها قبل ثلاثين عاما تقريبا ،إن أعدت نشرها الآن سوف تجد فيها فصيلة دم النصوص القصصية التي تنتمي إلي مطلع الألفية الثالثة ، وهذا يعني أنني " مجايل " لهذا" الجيل " وقد لا أغالي في ذلك . لا شك أن هناك نماذج شاهقة في الأدب الإنساني ، ومنذ قرون تشكل حضورا وإلي الآن ، وأصحابها أخلصوا للنموذج " المعيار " في الإبداع لذا أصبحت خالدة . أي ليس كل ما يكتب الآن هو يعبر عن فترته ، بمعني أن الفترة الزمنية التي يكتب فيها العمل ليست " معيارا" .

 

 


- هنالك من يقولون بموت القصة القصيرة ؟
" موت القصة القصيرة " هذه مقولة فجة وهشة ولا تقف علي أي ساق نقدي ، فإن سادت لدي النقاد والكتاب مقولة أن هذا "عصر الرواية " لأنها أصبحت عند معظم كتاب الرواية من " الهواة " مجرد "موضة" أو " تقليعة " سوف يأتي عليها زمان ويحدث لها " خسوف " . فإذا أخذنا مثالا فقط " الرواية السودانية نجد " كما" لا يستهان به قد صدر في العقدين الأخيرين ، ولكن لو بحثنا عن مدي " تحقق الروائية " فيها لن تصمد سوي روايات قليلة ، أما البقية فهي " زبد " . وفقا لذلك هل يمكن أن نقول أننا هنا في السودان نعيش " عصر الرواية " ؟!
إن مقولة " موت القصة القصيرة " ليست وليدة اليوم ولا العقد الماضي ، إنما قيلت قبل ما يقارب نصف قرن من الزمان ، وأطلقت في اوروبا في وقت كانت القصة القصيرة لها حضورها "الباتع " الشاسع في عدد من الدول الآسيوية والإفريقية والعربية ودول امريكا اللاتينية . ما زالت القصة القصيرة حية ترزق ، وحتي علي مستوي الوطن تشكل حضورا في الملفات الثقافية وما يصدر من مجموعات قصصية ، بل أن هناك مجموعات قصصية صدرت في الستينات والسبعينات من القرن الماضي أخذت طريقها الآن إلي القاريء في طبعات ثانية ، كما نجد أن الجوائز الأدبية التي خصصت من بعض المراكز والمؤسسات للرواية لم تكتف بذلك بل ألحقت بها جوائز للقصة القصيرة . فإن لم تكن القصة القصيرة يجري فيها نبض "الحياة " الإبداعي فلماذا لجأ إليها القائمون علي أمر المسابقات الروائية ؟ إن القصة القصيرة هي الأقرب لسمات العصر الذي نعايشه لا الرواية . ولكن إن قلنا "موت النموذج الأمثل " للقصة القصيرة ربما يحمل ذلك مصداقية ، فإلي عهد قريب عندما كان ينشر أحد رموز القصة القصيرة في الوطن العربي نصا قصصيا جديدا تقوم الدنيا لدي النقاد والقراء علي حد سواء ، أما الآن فأين هي النصوص القصصية " المثال " ؟ .

 

 

 

- هل تعتقد إن ما تقدمه في مشروعك للببليوغرافيا أهم من مشروعك الإبداعي ؟ بمعني أن هناك كثيرون يمكن أن يقوموا بهذا الدور ، ولكن الإبداع الفني يحتاج إلي قدرات معينة ؟
إنني لا " أعتقد " فقط بل لدي "إيمان " قاطع بأن "المشروع الببليوغرافي " الذي وطنت نفسي عليه مؤخرا أهم كثيرا من " مشروعي الإبداعي " ،إذ أنني أحفر بأظافري علي أحجار صلدة من " التوثيق " بينما كنت أداعب بأناملي زهور الإبداع ، وشتان ما بينهما . أنت لا تدرك مدي الرهق والصبر لمن يعمل في مشروع توثيقي وخاصة إن كان" فردا " وليس " مؤسسة " أو مركزا بحثيا . لقد سبقني في هذا المجال كما سبق غيري أستاذنا الجليل الرائد البروفيسور قاسم عثمان نور الذي لفت نظري وتوقفت عنده كثيرا وأنا في مرحلة الشباب كتابه " دليل القصة السودانية " الذي غطي الفترة من 1930 وحتي 1973 وقد صدرت منه طبعتان الأولي في العام 1975 والأخري في عام 2004 ، ومن هنا أخذت بذرة إهتمامي بالتوثيق تنمو ، ومن وقتها أي منذ السبعينات كنت لا "أفرط " في ملف ثقافي صدر بأي صحيفة أو مجلة سودانية بما فيه من قصص وشعر ودراسلات نقدية ومتابعات ، وحرصت أن أقوم بفرز أعمال كل مبدع علي حده ، فأصبحت أشبه بدار وثائق مصغرة في المجال الذي عشقته ، بل أصبحت عونا لكل من يبحث عن عمل إبداعي نشر له في فترة ما وفقده ، وهذا ما قادني أيضا إلي الحفاظ علي ما يقع في يدي من روايات ومجموعات قصصية سودانية مطبوعة لقد قررت أن أكمل ما بدأه بروق قاسم عثمان نور فكان أن إشتغلت علي جنسين القصة القصيرة والرواية ، فعنيت أولا بالرواية السودانية وقد أخذ مني إعدادها سنوات طويلة وصدرت في العام 2016 ، وذاك الجهد لم يقعدني عن إعداد دراسة ببلومترية وثائقية عن مبدعنا إبراهيم إسحق وقد صدر الكتاب في العام 2015 . أما الآن فإنني أقوم بإعداد دراسة وثائقية عن القصة القصيرة السودانية منذ العام 1953وحتي العام 2016 . إن الكتابين الذين صدرا لي عن الرواية السودانية وإبراهيم إسحق أصبحا مرجعين لكل باحث مهتم . إن أمثال نبيل غالي القاص كثر ، ولكن نبيل غالي " الموثق " للرواية والقصة القصيرة والعاملين عليهما " قلة " خاصة في ظل عدم وجود مراكز تهتم بالجانب التوثيقي في هذا الجنس أو ذاك . كل مبدع لابد من تجديد لمشروعه ، وهذه بديهة لا تحتاج إلي جدال . وتجديدي الخاص هو " التوثيق " . أجتهد بأن أنجز قدرا كبيرا في هذا المجال التوثيقي مع أنني قد دخلت أرذل العمر في أرذل الظروف .. فتأمل !

 

 


- كيف تنظر إلي علاقة الصحافة والكتابة وهل تجربة الصحافة تعد خصما علي الكاتب ؟
لقد أصبحت صحفيا محترفا بدءا من العام 1986، وقد عملت حينها محررا بصحيفة " السياسة " السياسية اليومية و" من ديك وعيك " إستفدت كثيرا من عملي كصحفي إذ جعلت لغتي " سهلة " ليس فيها تقعر أو ضبابية ، وغرست في روح المتابعة لكل ما هو جديد ومعاصر في كل المجالات المختلفة ، وجعلت بيني وبين قرائي "إلفة  " . الصحافة ترتقي بالخيال وتحوله إلي واقع مدهش وربما صادم ، ولكن من سلبياتها أنها تمتص أي رحيق زمني لديك . إنها تأكل من العمر كما يأكل "الهدام" من ضفاف الأنهر . لذا فإن ممارسة أي "هواية" بجانبها تكون من سابع المستحيلات وخاصة لمن جعلوا منها "مهنة " لهم بحق وحقيقة وليس " حصان طروادة " . مهنة وليس "إستعباطا " . أنا عن نفسي لا أدري كيف إستطعت أن أجمع بين الصحافة وبين مشروعي التوثيقي ، فهي معجزة ساقها الله إلي في هذا الزمن الأغبر .

- تجربتك في النقد ذات مزاج مصادم ، لماذا ؟
" المصادمة " طبع في وليس تطبع . فلنقل أنها " جدية " فأنا لا أحبذ فن المجاملة خاصة في النقد الأدبي . قل هي " صرامة نقدية " . كيف لا أكون" مصادما"  في في مشهد يعج بالأدعياء ، أدعياء الإبداع وأدعياء النقد ولعقود خلت ؟ كيف لا أكون "مصادما  " والشللية يغطي سحابها الأسود كل الفضاء الثقافي ؟ كيف لا أكون " مصادما " والنقد أصبح مرتعا لكل من هب ودب ؟
كيف لا أكون " مصادما " إذ يأتي بعض ضيوف البلاد لهذه الفعالية والثقافية أو تلك ويبيعوننا أوراقا تسمي " بحثية " في إستهبال واضح ؟ كيف لا أكون " مصادما " وكل جماعة تمسك بزمام فعالية ثقافية وتقصي الآخرين وإن قربتهم تمنحهم الفتات ؟ كيف لا أكون " مصادما " ونقادنا وكتابنا من أهل الإيبداع يضيقون ذرعا بالآراء التي تتناول كتاباتهم وهي " جرثومة " إنتقلت إلينا منذ الستينات من القرن الماضي ؟ بالرغم من كل ذلك فإن من إختلفت معهم أكن لهم كل محبة وتقدير ، فما أنا من داحس ولا من الغبراء ، ولكني أتساءل هل كثير علي أن أتبع " ضميري الأدبي "

 

 

 

- كيف تنظر إلي المسكوت عنه ؟
إذا أردت أن تصبح نجم " كتابة" أيا كانت هذه الكتابة ، فإستهدف " المسكوت عنه" ، وإن أردت إخراج فيلم يحقق إيرادات عالية خاصة في وطننا العربي فعليك بالمسكوت عنه ، وإذا أردت أن تصبح نجما غنائيا فأحرص علي الشعر المسكوت عنه ، وإذا أردت أن تنتقد أنظمة حاكمة فعليك بالمسكوت عنه . هذا زمان المسكوت عنه .
إن المسكوت عنه يعتمد علي الأثافي الثلاث وهي الدين والسياسة والجنس ، فإن أبعدنا الدين لأن له قداسته ، أما السياسة فصارت كتابا مفتوحا لا محظورات فيها مع الميديا الحديثة ، وإن جئنا إلي ثالثة الأثافي وهي " الجنس " فهذا هو مربط الفرس وكل الحيوانات الناطقة وغير الناطقة . يمكننا أن نطلق علي هذا المسكوت حضور الجسد في النص الإبداعي . الجسد هو تخوم لعالم مغلق وإن كان عاريا في تراتبية مع مثول " الحرام " . لو أردنا الحديث فقط عن المسكوت عنه كمثال في الرواية العربية والسودانية يصعب رسم خارطة وافية له لتجلياته المتعددة وهذا مستحيل أن نتعرض له في سطور معدودات ويحتاج ذلك إلي ورقة بحثية أو كتاب . لا يجد بعض الروائيين العرب أو السودانيين بأسا من الإستعانة بالجنس في تقديم مكونات عالمهم الروائي بالرغم مما يشوب كلمة "الجنس " من سمعة سيئة . هناك روايات جريئة حد "الفسق " وهذه ظللنا نجدها مؤخرا عند كاتبات عربيات باحثات عن الشهرة وذيوع رواياتهن وهذا نوع من الأدب الحسي الصادم ، ومن وجهة نظري فهو لا ينتمي إلي " الرواية " بل إلي أدب " البورنو " الذي يبحث عن القفز إلي قائمة أعلي الميعات . لا حظت أن هناك روايات سودانية أو ما تسمي ب "الروايات " تطفح مجاريها بالجنس وذلك بحثا عن استثمار " المنع الرقابي " حتي تخلق ضجة إعلامية ومن ثم تنفتح لها مغاليق التوزيع . هناك كتاب يستهدفون بكتاباتهم ما يستوجب الخظر والمنع . إن الإحتفاء بالجسد كمسكوت عنه في الرواية السودانية يختاج إلي وقفة وكثير من التأمل . بالرغم من كل ماذكرناه لابد أن نقرأ الكتب التي تكون لحمتها وسداها " الجنس " . نقرأها بالمنطق الأدبي وليس الأخلاقي .