إدوارد سعيد، ذاكر ليست للنسيان
إدوارد سعيد، ذاكر ليست للنسيان د. محمد شاهين عندما علمت من الدكتور حنانيا أن إداورد سعيد، صديقه الحميم، يقضي إجازة نقاهة في العقبة، سارعت بالاتصال معه على الهاتف
إدوارد سعيد، ذاكر ليست للنسيان
د. محمد شاهين
عندما علمت من الدكتور حنانيا أن إداورد سعيد، صديقه الحميم، يقضي إجازة نقاهة في العقبة، سارعت بالاتصال معه على الهاتف: أنت وأنا يا إدوارد في موسم الهجرة إلى الجنوب (كنت آنذاك أعمل نائباً لرئيس جامعة مؤتة). وكنت أطمح من تلك الإشارة أن أغريه بزيارة الكرك وآثارها. تابعت حديثي: وأي رياح حطت بك في العقبة؟ أجاب: أتوق أن أملأ رئتي بهواء هذا الخليج الجميل بعد أن امتلأت مراراً وتكراراً بهواء بلدان المنفى التي عشت فيها. علمت من مريم زوجته أنه فعلاً كان يتوق في آخر أيامه أن يقضي وقتاً أطول في العالم العربي بعد أن قضى كل ما قضى خارج العالم الذي يعتبره هويته أصلاً وفعل ذلك حتى أن ابنه الوحيد وديع قرر في وقت من الأوقات أن يبحث عن مسيرته الأكاديمية في رام الله، وبدأ فعلاً مشروعه وعاش هناك ما يقرب من عامين مدرساً في جامعة بيرزيت إلى أن طلب منه المغادرة للأسباب المعروفة!
قابلت إدوارد سعيد أول مرة في سمنار دعته إليه جامعة أكسفورد وكنت آنذاك أقضي إجازة تفرغ علمي في حزيران 1983. عنوان السمنار الذي اشترك معه فيه يوسف الصايغ وإبراهيم أبو لغد وزوجته جانيت أبو لغد اجتياح إسرائيل للبنان. بعد المحاضرة اصطف نفر من جمهور غفير حضر من أرجاء مختلفة من بريطانيا معبرين عن تقديرهم. وعندما أتيحت لي فرصة الحديث معه قال: إنه غير مقتنع بالرضى الذي يلقاه من الجمهور أينما ذهب وأن قناعته تتجلى في حضوره في العالم العربي بدلاً من تنقله محاضراً بين نيويورك وشيكاغو وكاليفورنيا. ويبدو أنه استعاض عن عدم تنفيذ رغبته التي لم يكن بالإمكان تحقيقها باتصاله الحثيث مع وسائل الإعلام العربي ومجلاته الثقافية أبرزها الأهرام الأسبوعي الذي دأب على نشر الكثير من كتاباته فيها باللغتين الإنجليزية والعربية.
لقاء آخر حظيت به مع إدوارد كان في عمان وبعد مدة وجيزة من شيوع النبأ الفاجع: إلمام المرض العضال به. شعرت بحرج شديد بالنسبة لسؤالي عن حالته الصحية. لكنه كالعادة كان شجاعاً في الحديث عنه: "عليّ أن أتعايش معه"، أتبع كلماته هذه بتنهيدة خرجت من أعماقه لكن دون تبرّم.
عادت كما لاحظت بعض ملامح وجهه التي عهدتها في أول لقاء وأضحت تخفي تحتها صمتاً تعجز الكلمات عن تسجيل انطباعه! وجهت له السؤال التالي ونحن نجلس في بهو فندق الأردن: ما الذي في جعبتك تود أن تقوله للقائد ورفاقه الذين هم الآن على وشك العبور إلى الضفة الغربية ليأخذوا موقعهم الجديد بعد أوسلو. قاطعت صمته وأضفت: هل ستبارك لهم بالهدية: غزة وأريحا أولاً؟ أجاب لن يظفروا لا بغزة ولا بأريحا: عليهم أن يدركوا أن الإمبراطورية تأخذ دون أن تعطى. إن استطاعوا أن يحافظوا على ما يجدوه أمامهم مما تبقى من الضفة فهذا أقصى ما يمكن أن يفعلوه ولهم الشكر أجزله.
أستذكر هذا السؤال الآن بعد أن سمعت صائب عريقات (والجميع يدعو له بالشفاء وهو يرقد على فراش المرض) في مقابلة مع هيئة التلفزيون البريطاني يقول "إنهم أخطأوا بالنسبة لأوسلو". هذا اعتراف جريء مع أنه يأتي متأخراً وبدون جدوى، وكم كنت أتمنى أن يعترف الآخرون من حوله وهم يهيلون اللعنات على أوسلو وكأنهم خارج اللعبة. قبل ذلك قامت نفس القناة التلفزيونية في برنامج "أنا الشاهد" بمقابلة مع نبيل عمرو وطرحت عليه سؤال أوسلو أجاب في سياق حديثه أن محمود درويش كان منذ اللحظة الأولى معارضاً للصفقة وأردف قائلاً والسبب في ذلك أن الشاعر كان أعرف منا جميعاً بالطرف الآخر ربما لأنه عاش بينهم وعايشهم عن قرب. هذا أيضاً اعتراف جريء مع أنه أيضاً يأتي بعد فوات الأوان، لكنه أكثر إنصافاً لأنه على الأقل يعترف كما يقال بحقوق الطبع والنشر إن صحت العبارة. أليس من الدهشة بمكان أن تقدم كل هذه الضجة حول استنكار أوسلو مؤخراً دون ذكر لمن حذر من عواقبها في حينه. وللتاريخ سجل إدوارد سعيد تحفظاته بأدق التفاصيل حول أوسلو في كتاب له نشر بالإنجليزية وترجم لاحقاً بالعربية. ذكر الصحفي هتشنسن أن من يريد أن يقرأ الشرق الأوسط عليه أن يقرأ ادوارد سعيد. وبالمثل من يريد أن يعرف عما يدور الآن في فرنسا حول الإسلام عليه أن يقرأ ما قاله قبل عقود في كتابه تغطية الأسلام.
في بداية عام 2008 حضرت مريم سعيد، رفيقة درب الراحل في مسيرته الطويلة والتي تقوم بالحفاظ على تراث إدوارد سعيد بعزيمة قوية، إلى عمان تحمل رسالة من اللجنة القائمة على اختيار شخصية اعتبارية تقدم المحاضرة التذكارية السنوية في جامعة كولومبيا -نيويورك والتي وقع اختيارها على محمود درويش. ذهبنا سوياً إلى مقابلة محمود درويش في شقته وتم الاتفاق على الترتيبات والسفر إلى نيويورك في أواخر أكتوبر. وقد نالني شخصياً نصيب من الترتيب وهي أن أقرأ بعد المحاضرة قصيدة محمود درويش بالإنجليزية (إذ كنت قد ترجمتها ضمن مختارات للشاعر) والتي رثى فيها صديقه إدوارد وعنوانها "طباق". في تلك القصيدة يقول الشاعر على لسان صديقه: إن متّ قبلك أوصيك بالمستحيل. لكن الرياح جرت بما لا تشتهي السفن. سافر محمود درويش إلى أمريكا في الوقت الذي كان مقرراً للمحاضرت ليس ليلقي المحاضرة بل ليلقى ربه في مستشفى هيوستن وأضحى الاثنان ذاكرة ليست للنسيان.
فالقضية الفلسطينية قضية المستحيل الذي سيظل يبحث عما هو في مستوى المستحيل لينقذها من الانزلاق إلى ملاجئ العجزة ودور الأيتام.
رحم الله المفكر الكوني وشاعره الصديق اللذين استشرفا مستقبل المستحيل قبل الأوان وقبل دخوله في قلب الظلام. وإن جازت الرحمة كما يقولون رحم الله أوسلو ومهندسيها.