محمد عفيفي مطر في ذكري رحيله
محمد عفيفي مطر في ذكري رحيله مختارات.. علي سيد احمد ♡ عشقت الشعر من أيامي الأولى..وغاية مقصدي: لو صرت بين السادة الشعراء ولو عبداً.. أسيراً وراءهم والرمح في كفي .. وأرعى الخيل.. أحرس بابهم في الليل
محمد عفيفي مطر في ذكري رحيله
مختارات.. علي سيد احمد
♡ عشقت الشعر من أيامي الأولى..وغاية مقصدي:
لو صرت بين السادة الشعراء ولو عبداً..
أسيراً وراءهم والرمح في كفي ..
وأرعى الخيل.. أحرس بابهم في الليل
♡ كان قلبي معلقاً بين مخالب طائر جارح محموم بالسياحات في الاعالي، علوُّه فزعٌ ورعب، وأنطلاقه كارثةُ احتمالات، ومناوشاته لعبٌ فوضوي بين الأمل والموت، وكلما حط ليستريح نفَّرته الدهشة بزياراتها المباغتة، وأنفتحت مسالكُ الأفق أمام المعرفة المرة والغربة الفسيحة.
♡ أولى محطات الدهشة التي زارها محمد عفيفي مطر في سيرته، كانت مع الأم التي أهداها الكتاب: 《جليلة الجيليلات - سيدة أحمد أبو عمار- فيض البركة في الزمن الصعب، وبسالة الحنان الكريم في عصف الشظف... أمي》، من أسلمته إلى كتاب القرية ليتعرف إلى 《جزء عم 》، ومن كانت تصحح له، حين يخطىء في تسميع قصار السور، وهي أيضاً التي أنارت شمعة الشعر الأولى في طفلها، فباكورة الابيات التي وعاها عفيفي مطر سمعها من أمه، إذ كانت تهدهده بإغنية معينة وهو محموم، ولذا بقيت في ذاكرته، وحاول فيما بعد أن ينسج على منوال تلك الكلمات الخارجة منغمة مشحونة بدفْ الأمومة.
♡ أمومة الترتيل
حينما كانت أمي تستعيد الاستماع إلى ما حفظت من قصار السور صعوداً إلى السور الطويلة، ومن جزء عم إلى جزء تبارك، وتصحح بصوتها الرخيم ووجهها المضيء بالفرح وعينيها المسبلتين المتبتلين ما أخطىء فيه، كان الإيقاع الجليل بصفائه يشمل كل شيء، وكانت الدنيا تنتظم كأنها مسبحة أخاذة من الأصوات والانسجام المحكم.
وفي صبيحة الذهاب إلى الكٌتَّاب أول مرة، كانت سحابٌة من الإيقاعات المتشابكة قد أنعقدت من بعيد فوق بيت "سيدنا" يزداد علوها وتشابكها كلما أقتربت خطاي، كان "الكٌتَّاب" غرفة واسعة في بيت "سيدنا" حين أخذت مكاني على الحصيرة بين جماعة المبتدئين، انتبهت مفزوعاً مرتعباً على صوت "سيدنا" ، وهو يعنِّف امرأته وابنته الشابة وهنا وراء الباب، ثم علا صوته الأجشُّ الغليظ بآيات قصار السور.
فقلت لنفسي:
لابد أن القرآن إمرأة، وأن الآيات أمومة خالصة لا يعرفها الرجال، وأكتشفت أن كل ما حفظته من قبل قد سقط من ذاكرتي ..فبكيت.
♡ وتشعبت طرق الكلام وطن فى الكون ابتهال :
'الله يمنحنا ولو طفلاً يعلمنا الضحك'
فتعود فى الضوء المضبَّبِ صورة الوجه الغريب
فكأن طفلاً بيننا
وكأن صوتاً فى دمى يبكى لأن الطفل مزموم الشفاة
وكأن صوتَ الكونَ يغسل جرْسه قبل الصلاة
ويقول مسحوراً لنا :
" الله يضحك حين يبتسم الصغار"
•• اشتهر محمد عفيفي مطر بأنه واحد من المبدعين اصحاب المواقف، وليس من حملة المباخر منشد أقسم 《ألا ينحني إلا لعشب الأرض أو قطر الندي》، لم يركع هامة حرفه لأحد، صغيراً كان أم كبيراً، جعل الشعر سيداً، وليس خادماً، وسعته قريته، واكتفي بجلباب ريفي بسيط في قرية نائية، حين خلبت 《النداهة》 العاصمة القاهرة كثيرين من المثقفين، بينما كان هو لا يزورها إلا لماماً، لمعرض كتاب لا تمنحه إدارته حق أن يكون ضيفاً على ندوة فيه.
♡ انزلْ على الجرح المخضَّب يا ندى
رطِّبْ مراقدَنا الأليمةَ يا ندى
وادْعُ الصخور لترحم العظم المهشَّمَ يا ندى
واتركْ بنا رمقًا هزيلًا يا ردى
لنعود في أحفادنا نغمًا وعيدًا قادما
فنذوق طعم القمح في أفواههم
ونحس أن دمًا سفحناهُ يدبُّ بصدرهم
عزْمًا، وأفراحًا، وأعيادًا رقيقات النغم..
يـا ليلُ.. فلتدفنْ بقايانا إذا شبع الصغار
سنعودُ عامًا بعد عامٍ نأكلُ القمحَ
بـأفواه الصغارْ
يا كَرْمُ.. فلتسْكُبْ بُحصرُمٍكَ الحلاوة في العصير
سنعودُ في أحفادنا نجنيك.. إن طلع النهار.."
•• وفي نهاية السبعينات، وبعد توقيع اتفاقية 《كامب ديفيد》 أعلن محمد عفيفي مطر عن معارضته للمعاهدة، ودفع الثمن غربة ورحيلاً عن مصر، واستبدل بالنيل فراتاً، وبثمار توت قريته تمراً في بلاد الرافدين، إذ بقى في العراق نحو سبع سنوات، وعمل محرراً في مجلة الأقلام العراقية.
♡ أعلنت ميثاق الإقامة بالرحيل..
وتركت وقع خطاي في سر الشجر..
وأساقطت ما بين عيني والبلاد..
زمردات من حجر ..
ليس لي إلا سويعات من النوم السخي
أمر فيه على البلاد..
وأستعيد الشمس والرعي الطليق..
أكلم الموتي.. وأسمع ما تزمزمه العظام..
•• أما الضريبة الاقسي التي دفعها محمد عفيفي مطر فكانت الاعتقال عام ١٩٩١م عقب معارضته لحرب الخليج الثانية، إذ تظاهر ضد الحرب على العراق، وتعرض لتعذيب قاس، وكانت تجربة السجن مريرة، عبر مطر عن طرف منها في ديوانه 《احتفالات الموُمياء المتوحشة》الذي صدر عام ١٩٩٢م، لتكتمل صورة مثقف حر، يدعم الكلمة بالموقف، حتى وإن تعرض وهو على مشارف ال ٦٠ للتعذيب والسجن والاتهام بأنه 《بعثي ممول》 يحاول إنشاء فرع للحزب في مصر.
♡ غبش يبلله دخول الليل،
والغيطان تسحبُ من بدايات النعاس
تنفس الإيقاع منتظماً على مد الحصيرة والمواويل،
الزمانُ كأنه فجر قديم مُستعاد.
قد كنت مضطجعا أعابث شعر بنتىَّ
الصغيرة أفزعتها قشرة الدم والصديد على
عظام الأنف
- أهذى أم هى الزنزانة انفتحت على زمنين
واتسعت على هول المكان؟! -
♡ هذا الليل يبدأ
فابتدئ موتاً لحلمك وابتدع حلماً لموتك
أيها الجسد الصبور
الخوف أقسى ما تخاف . . ألم تقل؟!
♡ أنا طفل.. وأعلم أنني طفل
وعشت بقريتي خمسا وعشرينا
أسامر كوكبا في الغيم مسجونا
وأعلم أنني سأعيش أصغر شاعر
وأموت مجهولا ومغبونا.
رحم الله محمد عفيفي مطر
#محمدعفيفيمطر
١٩٣٥م - ٢٨ يونيو ٣٠١٠م
المصادر:
* أوائل زيارات الدهشة.. هوامش التكوين (سيرة ذاتية)
* الاعمال الشعرية الكاملة.