على مقهى في شارع أغنية
على مقهى في شارع أغنية ضنين الوعد : حين يصبح الغناء كائنا حيا !! مهدي يوسف ( mahdiyousif1970@gmail.com ) .......... الأغنيات كما المدن ، منهن التي لا نشعر بوجودها حتّى ، وكأنها لم تولد أصلا ، ومنهن التي نتسكع على شوارعها في ضجر
على مقهى في شارع أغنية
ضنين الوعد : حين يصبح الغناء كائنا حيا !!
مهدي يوسف
( mahdiyousif1970@gmail.com )
..........
الأغنيات كما المدن ، منهن التي لا نشعر بوجودها حتّى ، وكأنها لم تولد أصلا ، ومنهن التي نتسكع على شوارعها في ضجر ، ونعد الثواني حتّى نحزم حقائبنا و نغادرها ، و منهن التي نحتمل صور مبانيها و شوارعها و حرارات شموسها لأيام قلائل ريثما يداهمنا حنين الترحال ، فنسرج خيول قلقنا عنها ، و نغادرها وقد تلاشت ملامحها عن ذواكرنا ، و منهن الأغنية التبتل ، التي لا نسكنها نحن ، بل تسكننا هي ، تتخلل مسامنا ، تصبح جزءا من بصمات أيدينا وألوان عيوننا و سفر أنفاسنا ، تغافلنا في وسط ضجيج الكون الهائل ، فتسطع في ضلوعنا كما الفجر، و تتماهى في وجداننا مع مفهوم الزمن الطويل !!
ورائعة " ضنين الوعد " للكبيرين " الكابلي " و " صديّق مدثر " ، تنتمى إلى هذه الفئة الهاربة من ربقة النسيان ، فهذه الأغنية الكائن الحى ، ظلت محافظة على نضارة خديها لما يفوق النصف قرن من الزمان ، في وقت اضطرت فيه الكثيرات من صويحباتها لإجراء بعض حماقات شد الوجه . و لعل هذه الدرة الخالدة لم تسكر فقط خيال و وجدان المستمع السوداني العادي ، بل امتد تأثيرها حتى لزملاء " الكابلي " نفسه ، فاستفزت العظيم " محمد وردى " أن يطلب من شاعرها "صديق مدثر" ليكتب له نصا فصيحا فكانت ميلاد الجميلة الأخرى .. " الحبيب العائد " !!
الكابلي
في زاوية ظليلة ما ، عند أطراف هذه الأغنية السفر ، و أنت على وشك أن تشمّر عن ساقى ترقبك ، تصافحك نقرات الكمنجات سويا ، نقرات تبدو كوقع مناقير عصافير تبحث عن حبات قمح في سهل فسيح ، و كنقزات درويش في قلب باحة ذكر . تلتف كمنجة حنون حول خواصر صويحباتها ، ثم ترتفع النقرات في تراتبية حلوة ، فاسحة الطريق لصوت " الكابلي" الرخيم الفخيم :
يا ضنين الوعد أهديتك حبى من فؤاد يبعث الحب نديا
المحبوب هنا ضنين بالوعد ، و يرفض حتى أن يبذل العشم لعاشقه المضنى . و مفردات مثل " الوعد " و " الموعد " و " العهد " و " الميعاد " كثيرة الورود في الأغنية السودانية . في رائعة " الموعد " تهدهدنا كلمات " فضل الله محمّد " على نمارق صوت " محمد الأمين " :
أشوفك بكرة في الموعد ... تصوّر روعة المشهد
أنوم الليل أنا ؟ لا يمكن ... أساهر و النجوم تشهد
و في الياذة " من غير ميعاد " ترفل خيول " التجاني سعيد " على سهوب صوت الفرعون العظيم " محمد وردى " :
من غير ميعاد و اللقيا أجمل في الحقيقة بلا انتظار
صحيتي في نفسى الوجود و رجعتي لي عيوني النهار
و تشد كلمات " بازرعة " على يدي صوت " عثمان حسين " :
عاهدتني إنك تكون
مخلص في بعدي
و حلفت يا ناسي تصون
عهدك و عهدي
ولعل أجمل ما قرأت عن الموعد و هواجس العشاق في لحيظات الانتظار هذا المقطع العبقري الذى حاكه بشاعرية فذة " تاج السر عبّاس " وغناه الصوت الماطر " خليل إسماعيل " :
و طالت وقفة الأشواق
معاي نفس المكان ذاتو
أنا و رعشة ظلال الليل
وقلبي حزينة دقّاتو
و فات ميعادنا فات روّح
و شال الليل حكاياتو
و انا المصلوب على الميعاد
وليك حبل الصبر مدّيت
أغالط نفسى في اصرار
أقول إمكن انا الما جيت
و لعل صورة أن تختلط حقائق الوجود لحظة الانتظار تلك ، فيخال الواقف ، المملوء حنينا و اشتياقا ، أنه لم يحضر إلى مكان اللقيا بعد ... هي صورة تجعلني أتساءل صادقا : من أي عبقري اغترف " تاج السر " هذه الصورة الفذة ؟
بداية " ضنين الوعد " إذن تحمل عتابا خفيفا شأن الكثير من أغنيات العشق ، فالشاعر الصبّ وهب محبوبته حبا نديّا من فؤاد أخضر ربيعي الوهج . و " ابن الهاشماب " وفق في وصفه حبه أنه " نديّ" ، فهي كلمة نابضة وتستدعي إلى المخيلة صورا كصورة الشجر المغسول بماء الخريف ، والجروف التي ترقد عند خاصرة النيل . و لأن " الكابلي " مفنّ مفتنّ ، فهو يلحّن الكلام متمثّلا معناه ، و لذا نراه يركّز هنا على عبارة " يبعث الحب نديا " كمقابل تراجيدي للضن بالوعد ، إنه يضغط على كلمات العبارة بتركيز مقصود إبرازا للمفارقة الموجعة .
ثم من بين فريق هذا العتاب الهادئ الرقيق المألوف في الغناء السوداني و العربي ، تخرج صاهلة فتيّة خيول الكبرياء العظيمة :
إن يكن حسنك مجهول المدى فخيال الشعر يرتاد الثريا
كلما أخفيته في القلب تنبى عينه عيناك و لا يخفى علىّ
أنا إن شئت فمن أعماق قلبي أرسل الألحان شلالا رويا
وأبث الليل أسرار الهوى وأصوغ الصبح ذوبا بابليا
لا تقل إني بعيد في الثرى فخيال الشعر يرتاد الثريا
لم يسقط الشاعر هنا في فخ الغزل المجاني بالحديث عن ليل الشعر و احورار العيون و ضيق الخصر وفتنة اللفتات ، بل استخدم عبارة كثيفة المعنى ، شديدة العذوبة ، لوصف حسن المحبوبة : " مجهول المدى " ، و هي عبارة تذكّرني كثيرا بقول "نزار " في رائعة " قارئة الفنجان " عيناها سبحان المعبود " ، وتذكّرني كذلك بمقولة "طه حسين " السياّرة " و الشاعر المجيد هو الذى يفتح أمامي آفاقا من التأمل " . ثم يأت التحدي الوسيم في عجز البيت " فخيال الشعر يرتاد الثريا " . و" الكابلي " حين يبلغ كلمة "يرتاد " يمد الألف لتخرج "يرتااااد " و كأنه يريد أن يذكّر المستمع بعظم المسافة إلى الثريّا !! إن المحبوبة التي تضن بالوعد لا تعجز العاشق الشاعر القادر على تسلق حيطان خياله ليبلغها – المحبوبة - في فضاءاتها العذراء هناك ، تماما كما تسلق الأمير شعر محبوبته في الأسطورة الشهيرة .يستطرد الشاعر متحديا إنه يستطيع أن يقرأ كل ما تخفيه الحبيبة بين عينيها ، كيف لا و هو الشاعر القادر أن يسكب هواه في أذن الليل ويسكب الفجر عسلا في قوارير الكلام ( الذوب هو العسل في شمعه ) .
في الكوبليه الثاني تتهادى في البدء الكمنجات كما قوارب على بحر هادئ ، تهملج قليلا في فجاج النغم ، ثم تهدأ و تدور كأنما فاجأها نعاس ما ، قبل أن يخرج صوت " الكابلي " من بين فجاج حوار الكمنجات الحميم ، ساطعا كما الشمس ، مادا الألف فى " كاااااان " ، قبل أن يلف ذات الكلمة كما تلف يد قطعة حرير ، ثم يصهل الصوت الجميل :
كان بالأمس لقانا عابرا كان وهما كان رمزا عبقريا
كان لولا أننى ابصرته و تبينت ارتعاشا في يديا
بعض أحلامي التي أنسجها في خيالي وأناجيها مليا
هنا بدأ لقاء الشاعر بمحبوبته كما الوهم من فرط عذوبته ، لولا أنه – الشاعر - تبين ارتعاشات يديه الولهى ، و أحلامه التي خاطها في خياله لتصبح نديما يناجيه كثيرا . ثم تسكرنا بعد ذلك تلك الآهة الفريدة التي يطلقها " الكابلي " قبل أن يعرج على " يا ضنين الوعد " ، و هي آهة أشبه بآهته العبقرية الأخرى في " لو تصدق يا شباب عمرى المفتق " حينما يهتف من أغوار نفسه الشفيفة " آه لو بتعرف كيف تهش أشواقنا تسأل عن عيونك " .و للكابلي طريقة فريدة في الأداء ، و التطريب ، فهو ينتمى الى مدرسة السهل الممتنع ، مقتفيا أثر أستاذه " حسن عطية " !!
ننتقل بشاعرية إلى الكوبليه الثالث ، خيول الكمنجات لا تزال ترقص في نشوة ذاهلة ، محافظة على ذات النقرات الخفيفة :
ومضة عشت على إشراقها وانقضت عجلى و ما أصغت إليّ
كلمة خبأتها في خافقي و ترفقت بها برا حفيا
من دمى غديتها حتى غدت ذات جرس يأسر شجيا
وافترقنا وبعيني المني غالها الدمع فما أبصرت شيئا
إن تكن أنت جميلا فأنا شاعر يستنطق الصخر العصيّا
إن تكن أنت بعيدا عن يدى فخيالي يدرك النائى القصيّا
لا تقل إنّي بعيد في الثرى فخيال الشعر يرتاد الثريا
هنا يسترجع "صديق مدثر " حكاية الحب العبقري الذى أثمر هذا النص العظيم ، كيف أنه بدأ ومضة خاطفة عجلى ، ثم صار كلمة خبأها الشاعر في بئر فؤاده ، كلمة رواها من دمه و نبضه حتى صارت ترنّ في الأذن كما قصيدة آسرة . ثم انقضّ القدر على وردة الود الجميلة فافترق المحب عن محبوبته ، و اغتال الدمع كل حلم و عشم بينهما . وفى خاتمة القصيدة يجدد الشاعر ثورته أنه إن كان المحبوب جميلا فهو – العاشق – شاعر يستنطق الصخر العصيّا ، و إن كان المحبوب بعيدا في فجاج الأرض فالشاعر ذو خيال يرتاد كل بعيد قاص . هي إذن حوارية جمال الجسد و جمال الروح الخالدة !!
لقد سكب ابن الهاشماب العظيم " صديق مدثر " حشاشة فؤاده في هذا النص المكتوب في العام 1968 ، والذى قدر للعبقريّ " عبدالكريم الكابلي " – و الذى كان لا يزال حينها يتلمس خطواته الأولى في درب الفن الطويل - أن يعثر عليه في جريدة ما ، و يعكف علي تلحينه ، مغطيا كلماته بغلائل من لحن شجى ، متغنيّا به في شاعرية استثنائية نادرة !!
" ضنين الوعد " أغنية رافقتني عمرا طويلا ، عاصرت معي مشاوير قديمة ، و شاطرتني الكثير من معارك الروح و انتصاراتها و انكساراتها . هي أغنية لطالما نادمتني علي طاولة الصمت مع أناس ظلّ بعضهم ساكنا في دار العمر ، و غادر بعضهم الذاكرة مخلّفا صورا و ذكريات أهما هذه الأغنية القارورة عطر !!
عزيزي " الكابلي " : لو لم تقدم في حياتك الفنية غير "ضنين الوعد " ...لكفتك