رواية تعيسة لبشرى الفاضل.. واحة السعن القديم: العزلة المجيدة المنتجة

رواية تعيسة لبشرى الفاضل.. واحة السعن القديم: العزلة المجيدة المنتجة                                                                       لمياء شمت  ونستهل هذه القراءة بالوقوف على دلالات الغلاف بشقيها الأيقوني واللغوي. حيث يشكل الحضور الأنثوي بؤرة المشهد في اللوحة التي أنجزها التشكيلي الألمعي حسين جمعان. كما يتميز العنوان بنحته الفني البارع، بما تجسده حروف الفنان تاج السر حسن بخطوط متقشفة تحيل لظلال معاني عنوان الرواية وحمولاتها. 

رواية تعيسة لبشرى الفاضل.. واحة السعن القديم: العزلة المجيدة المنتجة

رواية تعيسة لبشرى الفاضل.. واحة السعن القديم: العزلة المجيدة المنتجة
                                                                      لمياء شمت

 

 

 

 

 ونستهل هذه القراءة بالوقوف على دلالات الغلاف بشقيها الأيقوني واللغوي. حيث يشكل الحضور الأنثوي بؤرة المشهد في اللوحة التي أنجزها التشكيلي الألمعي حسين جمعان. كما يتميز العنوان بنحته الفني البارع، بما تجسده حروف الفنان تاج السر حسن بخطوط متقشفة تحيل لظلال معاني عنوان الرواية وحمولاتها. 

وتفتتح عتبات الرواية بمقتبسات لأمل دنقل وتشيخوف وديستوفسكي بالإضافة لهيلين كيلر. وقد تم انتقاءها بعناية جمة لتتحالف مع سيمياء الغلاف في إرسال إيحاءات واشية للقارئ حول محتوى الرواية وحمولاتها  المضمونية والجمالية. علاوة على شحذ توقعات القارئ بإحالته إلى الإشارات التي تقدمها عتبات المتن السردي كعدة لازمة تهيئ القارىء، وتجيزه لارتياد عوالم النص.

وهو مما يحثنا على استعراض بعض الخصائص الأسلوبية الرئيسة لإبداعية بشرى الفاضل السردية، ويشمل ذلك اللعب اللغوي المتمهر تركيبا وصوتا ودلالة، والذي يؤدي دوراً بارزا في إغناء النص وتذخير حمولاته الجمالية والدلالية والتأثيرية. ومن ذلك أن عنوان الرواية يعود للشخصية الرئيسة في المتن السردي "تعيسة"، والتي هي نابهة وسعيدة وعامرة الدواخل، على الرغم من كونها قد ولدت عمياء صماء بكماء. ولعل ذلك ما يجعل حضورها السردي يتراسل مع اقتباسات هيلين كلر في إشارة للتشابه بين أقدارهما وتحدياتهما. فتعيسة ذات روح شفيفة خضراء عامرة بالمحبة والسعة، وطاقات خيرة وذهن غامر الصفاء عميق الإدراك. ولعل ذلك ما حدا عيسى الحلو وصفها بأنها شخصية مبنية بمهارة إبداعية فائقة.

 

 

 

 

ونقف كذلك عند خاصية توظيف المحكية اليومية في الحوار كخامة تعبيرية أصيلة، تسهم بقوة في رفد صدقية وتماسك البناء الداخلي للنص. كما لا تغيب الفنتازيا كبراح إبداعي يظل الروائي ينسج عبره أمشاج الخيالي بالغرائبي، كما في حالة الكوة الحلمية التي تفتحها تعيسة السعيدة مع من ترتبط معهم بعلائق وجدانية عميقة وحميمة، لتخاطبهم عبرها بلغة خاصة تبدو شفرية وغريبة لكنها تسري إلى أذهانهم فتفهم كنهها وتتفاعل معها بجزيل محبة وإلفة وتقدير. 

وتحضر الفسيلوجيا كمرجع استلهام رئيس في سرود بشرى الفاضل، وكحيلة إبداعية أخرى تتيح المزيد من الغوص والاستكشاف والتحليل. ويظهر ذلك مثلا في تسخيره لها بغرض شرح الكيفية التي يعمل بها عقل تعيسة الجبار، وطبيعة تحويله لحاسة اللمس وبصمات الرائحة إلى مدركات وأحاسيس خصبة وفارعة. 

كما تحضر إيضا روح الحكي الشعبي، وما يرتبط به من تقاليد شفهية شعبية، كما في الفقرة الأولى من الرواية والمشحونة بحمولات إخبارية متتالية، وكذلك في توظيف خاصية تمديد الصوت كما هو الحال في الحكي الشفاهي للتعبير عن الاستغراق في الصفة" البصل أخضاااار". إضافة إلى الاستعارات اللماحة كما في قوله "ابتسامة متكلفة بفم مبروم وكأنه شولة". 

وتمثل أسماء الشخوص والأماكن ملمحاً أسلوبياً مائزا في النصوص القصصية لبشرى الفاضل. حيث نلحظ أن أسماء الشخوص والأماكن غالباً ما يكون لها قدر وافر من دلالتها، بكل درجات الإلماح والإشارة (تعيسة، بين، الراجين الله، السعن القديم). كما تزخر الرواية بالاشتغالات التي تعكس الطابع التجريبي المثاير والمتجدد للروائي. ومن ذلك استخدامه لصورة هيلين كيلر في النص، وما اقتضاه ذلك من استخدام للأيقوني كبديل للغوي. وهو ما يشار إليه في السيمياء بالدمج الدلالي، الذي يعمل على إعادة إنتاج لشروط الإدراك، حيث تم تسخير العلامة البصرية للقيام بمهام العلامة اللغوية. بالإضافة إلى أن أجزاء مقدرة من الرواية قد كتبت بحاسة الشم التي تحول العالم وموجوداته إلى مجموعة من بصمات الرائحة التي تشكل بدورها الحس والإدراك وغور المعنى الكامن.

أما عن شخوص الرواية فقد تم استعراضهم عبر الأجيال الأربعة التي تسردها الرواية بدءاً من جيل المؤسسين في واحة السعن القديم، وهم سعيد السيد وبخيت المستعبد وزوجاتهم وأطفالهم، في رحلتهم القاسية هرباً من الغزو الأجنبي في الحقبة المهدوية، ومن ثم استقرارهم بالواحة حيث تتكفل المصائب، التي تجمع المصابين، بالإضافة إلى التحديات والتجارب الحياتية المشتركة، وما نتج عنها من انسجام ومصاهرة، تتكفل بمحو العنصرية وتقريب الشخوص إلى بعضهم البعض وتوحيدهم في وجه الآتي. ثم يلي ذلك الجيل الثاني من الأبناء الذي يعمل معاً بمسؤولية وتجرد ليقودوا واحتهم إلى الاكتفاء والعيش الكريم، وذلك من خلال التخطيط وتجويد أعمال الزراعة ورعاية الماشية، والصناعات اليدوية من نجارة وحدادة ونسيج لاستيفاء حاجة سكان الواحة.

 ثم لا تلبث أن تظهر في المشهد جماعة رحلة الفلكلور التي تضل طريقها في الصحراء فتصل إلى الواحة، لتفاجأ بوجود مجموعة من الناس ظلوا يعيشوا كأهل الكهف في حالة عزلة تامة عن محيطهم الجغرافي والمجتمعي. ويتعرف القارىء على شخصية الدرديري كمثقف عضوي ينطلق من فكرة ومبدأ راسخ لإزجاء مساهمات مجتمعية وتنويرية فاعلة. على خلاف شخصية طيفور المثقف الشكلي المصطنع المتنطع، والذي يظل يردد مقولات شعاراتية لا يؤمن بها، وبالتالي يسقط وتظهر ضآلة جوهره وفصامه المكين إزاء قضيتين مركزيتين وهما موقفه من المرأة، التي يتعامل معها كمظهر وكوطر، وقضية العنصرية التي يداورها طيفور بذات الحالة الفصامية المؤسية. وهناك عبد البين السواق، وهو صاحب شخصية خيرة متعاونة تجعله يفوز بثقة أهل الواحة وبمحبة تعيسة. علما بأن شخصية تعيسة لا تظهر إلا من خلال الجيل الرابع، بعد أن أُبطلت العنصرية والغل والانكفاء الماضوي والتمايز الطبقي، وأصبح أهل الواحة أقارب فطريون بسوية ناصعة.

وتستضيء الرواية ببعض الثيمات المركزية المبثوثة في ثناياها ومحمولاتها الطاوية لإشارات وامضة وجريانات تحتية رامزة. ومن ذلك تسخير المكان "واحة السعن القديم" وفق كلمات الراوي: " كمعمل سيتم فيه اختبار التجربة الإنسانية". ويتم ذلك عبر تأسيس مجتمع قائم على الانسجام والجهد المشترك والمصاهرة والتآخي، مستندا على ركيزني الاستقرار والتنمية. إضافة إلى تأسيس تشكيل اجتماعي اقتصادي متماسك تجمعه المصالح المشتركة والعمل الجماعي المخلص والملكية المشاعة.

 ونلحظ كذلك غياب التعامل بالنقود، باعتبارها أصل الكثير من الشرور والرزايا، مما يحيل لتعافى مجتمع السعن القديم من بلايا التسليع والتوحش الاستهلاكي والرأسمالي، ونهم الملكية واستغلال علاقات الانتاج، وكافة أشكال السلطة النفعية والاستعلاء والاصطراع الطبقي. وهو مما يشير في مجمل إلماحاته ونسجه الإبداعي لحلم طوباوي ينهض على الإشتراكية في معناها الإنساني الواسع، وانتصار الروح على المادة، وطاقة المحبة والانسجام، والوعي الحادب في سبيل الوصول لمجتمع الحرية والعدالة الاجتماعية عبر إرادة الفعل الإنساني.