الواقعية في الرواية السودانية ومحاولة توثيق المجتمع السوداني
الواقعية في الرواية السودانية ومحاولة توثيق المجتمع السوداني عز الدين ميرغني ( قدمت هذه الورقة في منتدى بثينة خضر مكي) ( الرواية هي الترمومتر الذي يقيس حرارة المجتمع ) ناقد غربي لا شك بأن الرواية القديمة والتجريبية الحديثة , تعتبر بحسب علماء السرد كتاب مجتمع . طالما أنها تضم في حركتها السردية شخوصاً حية وواقعية يضمها الزمان والمكان
الواقعية في الرواية السودانية ومحاولة توثيق المجتمع السوداني
عز الدين ميرغني
( قدمت هذه الورقة في منتدى بثينة خضر مكي)
( الرواية هي الترمومتر الذي يقيس حرارة المجتمع )
ناقد غربي
لا شك بأن الرواية القديمة والتجريبية الحديثة , تعتبر بحسب علماء السرد كتاب مجتمع . طالما أنها تضم في حركتها السردية شخوصاً حية وواقعية يضمها الزمان والمكان . هذه الشخصيات لها مجتمعها الخاص داخل الرواية والذي لا ينفك من الحياة الاجتماعية من حول الكاتب , أو من خارجه . حتى ولو تخيلها , فإن خياله لا يخرج من الدائرة الإنسانية الاجتماعية . فهي تتضاد وتتصارع , وتحب وتكره , وتلك هي ديدن الحياة اليومية في كل الدنيا . والمبدأ الجمالي , كما يقول الدكتور طه وادي في مقال له لمجلة ( المنهل ) : ( إن المبدأ الجمالي في تفسير ظهور أي نوع أدبي : شعراً كان أم قصة أم مسرحاً , لا يمكن أن نفسره تفسيراً مغلقاً .. أي تفسيراً يعتمد على طبيعة النوع الأدبي وحده , دون إدراك لطبيعة الواقع الإنساني الذي أنتجه : إننا لا يمكن أن نفسر الأدب بالأدب , لأن الأدب ليس كلمات جوفاء خالية من أية دلالة وإنما هو - أي الأدب – انعكاس إيجابي لحاجات الواقع وتعبير عن ضرورات الحياة , لذلك قيل إن الشعر ديوان العرب .. والأدب مرآة المجتمع .
لعل الرواية السودانية في بداياتها قد تأثرت بالرواية المصرية , وخاصة ما كتبه نجيب محفوظ في الثلاثية . وقد التزم الروائي السوداني بما ينادى به النقاد بأن الرواية هي حياة مجموعة من الأشخاص , تتفاعل مجتمعة لتؤلف إطار عالم متخيل , غير أن هذا العالم المتخيل الذي شكله الكاتب ينبغي أن يكون قريباً مما يحدث في الواقع الذي يعيش فيه . ولقد قامت أغلب الروايات السودانية التي انتهجت منهج مدرسة الواقعية , على إمكانية وجودها وصدقها في مجتمع كاتبها ( الواقع الاجتماعي السوداني) . رغم أن الروائي السوداني , لم يكتب ما يسمى برواية الأجيال generations . وهي نوع من الروايات يتناول تطور الأجيال من الماضي إلي الحاضر . وقد بدأ هذا الضرب من الروايات في جيل رواية التسعينات عند الروائي عباس على عبود .وما قبله الطيب صالح , وعلي الرفاعي . والذي يوثق للحياة للجيل السوداني الحديث . وبما أن التوثيق الاجتماعي والسوسيولوجي لأي مجتمع لا يقوم مرة واحدة , فهذا التدرج هو دور الرواية في هذا التدوين وهذا التوثيق . لامتيازها بتعدد الأصوات والتي تسمح بتعدد الآراء وكشفها للواقع الاجتماعي المتاح . رغم أن الرواية السودانية ما بعد الاستقلال قد وقعت في فخ الواقع السطحي المكرر والمستهلك لقضايا مجتمعية عادية مثل قضايا الحب والزواج والطلاق . فلم تواكب بسرعة التحولات الاجتماعية التي حدثت للمجتمع السوداني قبل الاستقلال , ولا لمرحلة النضال والكفاح ضد الاستعمار في فترته الممتدة في التاريخ السوداني الحديث . وهذا التأثير الواقعي على الرواية السودانية , قد ظهر أكثر عند الكاتبة الروائية السودانية . والتي حاولت أن توثق لصراع المرأة مع الرجل وكيف تكون ضحية لهيمنته الذكورية . وخطوطه الحمراء والتي كانت تحرم عليها حتى كتابة الشعر ومخاطبة الحبيب صراحة , دون مواراة وخوف . فأغلب بطلات رائدات الرواية السودانية منذ ملكة الدار , محمد وحتى زينب بليل , وبثينة خضر مكي . هن ضحايا للسيطرة الذكورية للرجل , بدءا من منع المرأة من التعليم , أو مواصلته , وعدم السماح لها بالتوظف , وتزويجها من رجل لا ترغب فيه . ولقد حصرت هذه الدائرة الاجتماعية الضيقة الروائية الاجتماعية في كتابة الشكوى والأنين من الرجل . بل قد جعلته في رواياته شخصية طاغية وظالمة . بل قد ركزت الأضواء على الجانب السلبي في شخصيته ( إدمان الخمر , القسوة في معاملة الزوجة وهجرها , وأطفالها . وأنانيته الزائدة في الهجرة وترك أسرته وأطفاله ) .
لقد أغفلت الرواية السودانية الكثير من القضايا السودانية المهمة والتي مرّت كأحداث في تاريخ السودان الحديث . مثل هجرة أبناء حلفا وتأثيرها على المجتمع المُهجر . هواجس ما قبل الهجرة , وما بعد الاستيطان الجديد . وهو ترمومتر سيفقد بوصلته الكتابية كلما بعد عن الجيل الذي عاشه وشاهده , وشارك فيه . فالأحداث المهمة في تاريخ أي مجتمع تكون مرآتها العاكسة لها هي الرواية , وكلما طال الزمن على الأحداث المهمة كلما أصاب المرآة الكثير من الغبش والتشويش . لقد انشغلت الرواية السودانية كثيراً ولسبق الشعر لها وتأثيره عليها , انشغلت بالذات أكثر من المجتمع . لأن من مهمات الرواية كما يقول جورج لوكاتش أن من آليات التبادل في الحياة , بوصفها تجسيداً للقيم الجمالية التي تستمد منها الرواية تقنياتها في البناء الداخلي للعمل الفني , وفرق بين القص والحكي والوصف , بوصفها استراتيجيات للوعي الجمالي داخل النص , وهذه العناصر الشكلية كتجسيد لآلية التبادل , هي العنصر الاجتماعي في الأدب
إن المجتمع السوداني هو من المجتمعات التي تمتاز بالثقافات المتباينة والمتعددة , ولعل هذا التعدد والتباين جعل للرواية مهمة عسيرة وصعبة رغم أن هذا التباين وهذا التعدد يجعل لها طعماً خاصاً ومميزات عديدة . وأغلب هذه الثقافات السودانية المتعددة هي من الثقافات الشفهية غير المدونة وأغلبها في طريقه للاندثار . لأن الثقافات المكتوبة , تقف خلفها فئات من المجتمع نالت قسطاً من التعليم , وتريد أن تثبت بهذا التدوين ترسيخ ثقافتها الخاصة أكثر من غيرها . ولقد برزت بعض الروايات القليلة في السودان والتي تحاول أن تبرز ثقافة الهوية الفرعية , منها روايات وقصص إبراهيم اسحق . والذي وثق فيها للكثير من ثقافات غرب السودان . وبنية الشكل في رواياته وقصصه , تعكس العنصر الاجتماعي القوي والفضاء المكاني الذي تدور فيه حياة أبطال قصصه ورواياته . واكتشاف هذه البنية , يساهم كثيراً في تحديد دور المجتمع في تكوين الفرد وارتباط الفرد القوي بهذا المجتمع . ومن مميزات الشكل والبنية , هي اللغة العامية في الحوار , وهي لغة قوية وفيها الكثير من الفصحى المنسية وهي تمثل ثقافة البعيد المنسي والمتناسي الآخرين . فإبراهيم اسحق قد أعطى لهذه الثقافة شرعيتها ولمجتمعها حق التوثيق الاجتماعي . والقارئ يعيش في رواياته وقصصه , فعل الحياة اليومي . بفلكلوره وعاميته الغنية بالمفردات المنسية . وفي الشمال كتب الروائي الطيب صالح ثقافة الوسط الشمالي , ودور التصوف في تكوينه , ورسوخ الحضارات القديمة في عاداته وطقوسه واحتفالاته . وبحيث كيف يتميز الفرد , دون أن يخرج من أعراف المجتمع وتقاليده . فرواية عرس الزين , وثقت جيداً لمجتمع الشمال , حيث عادات الزواج , والحصاد , وتأصل التصوف فيه , وكيف يحمى الشخصية الضعيفة شبه المعاقة , كما في شخصية ( الزين ) , والتي يحق لها دخول المنازل , ومغازلة النساء , وتحدى السلطة الدينية المتمثلة في إمام المسجد . ولا أحد يستطيع أن يعتدي عليه أو يسخر منه , فقد كان يضحك الناس منه , وما كانوا يضحكون عليه . وشخصية الزين , تمثل نموذجاً موثقاً للشخصية المميزة الحرة في المكان , والتي تفرح الآخرين ولا تؤذيهم بهذه الحرية . وهي نموذج لشخصيات اجتماعية كثيرة مميزة وفريدة تحتاج للرواية كي تكتبها وتوثق لها . ورغم انتشار كتابة الرواية , فإن المدينة السودانية لم تنل حظها الكبير في التوثيق الاجتماعي . فهنالك الكثير من المدن السودانية , لم تنكتب روائياً , لم تكتب حواريها وأزقتها , وعلاقاتها الاجتماعية القوية , كما فعل الروائي المصري نجيب محفوظ في ثلاثيته المشهورة عن حواري القاهرة وأزقتها . رغم محاولات خليل الحاج في كتابة حواري أم درمان , ولكنه لم يستطع أن يكتب امتداد الشخصية واستمرارها في أكثر من رواية كما فعل نجيب محفوظ في ثلاثيته . ورغم كتابات عيسى الحلو , والعباس على يحيى العباس , وغيرهم عن مجتمعات المدينة , ولكن ركز عيسى الحلو عن أزمة الفرد الذي يريد أن يؤكد وجوده في المدينة , ومن هنا يأتي الصراع مع الآخرين . ولقد ناقش العباس على يحي العباس الظواهر السالبة في المدينة نتيجة للثقافات الغربية الوافدة على المجتمع السوداني ( الزواج العرفي , وغسيل الأموال , وثقافة قاع المدن ) , ولكن تبقى الكثير من حياة المدن الخاصة والتي لم تكتبها الرواية بعد .
لم تتطرق الرواية السودانية لمسألة الهوية السودانية , إلا القليل منها , كرواية موسم الهجرة إلي الشمال , والتي كان الراوي , والذي يمثل الشخصية الثانية للطيب صالح , والتي أجمع في ذلك النقاد , كان يريد أن يثبت هويته السودانية الأصيلة والتي لم تؤثر فيها دراسته في الغرب ونهله من الثقافة الإنجليزية , كما أثّرت في شخصية مصطفى سعيد . والذي لم يستعد نفسه إلا عندما عاد إلي الوطن وعاش بين الناس . وقد حاول ذلك الروائي السوداني ( سيف الدين حسن بابكر ) , في روايته ( الزمن الفضائي المعوج ) . والروائي صلاح الدين سر الختم , في روايته الأولى ( الرمال يا فاطمة ) . حيث هوية البطل هو المكان الذي تربى فيه وأخذ ثقافته منه , وتعلم منه قانون ( العيب ) . استخدم بعض من الروائيين أن يوظفوا التاريخ لتأكيد الهوية السودانية , ورسوخها القديم . كالروائي جمال محجوب , في أغلب رواياته المكتوبة باللغة الإنجليزية . ولكن تأثر البعض في رواياته التاريخية بما كتبه الأجنبي عن تاريخ السودان , كالروائي أمير تاج السر في روايته ( توترات القبطي ) , والتي تأثر فيها بمذكرات يوسف ميخائيل , ورواية ( مهر الصياح ) , والتي تأثر فيها بكتاب ( التونسي ) , عن دار فور . ورواية شوق الدرويش , للكاتب حمور زيادة , والتي كان تأثير كتابي ( فاتنة المهدي , وسجن الساير ) , واضحاً وبيناً .
يقول النقد الحديث , بأن أغلب أعمال الكبار من أهل الرواية قد كانت نتيجة لما اختزنوه من تجارب ذاتية , فجاءت أقرب إلي روايات السيرة الذاتية . ولقد خلقت مثل هذه التقنية الكثير من الروايات المشهورة مثل رواية جان جينيه ( يوميات سجين ) , ورواية ( الخبز الحافي ) , لمحمد شكري . والكاتب السوداني ما يزال يتحفظ في كتابة رواية السيرة الذاتية ولعل هنالك الكثير من القيود الاجتماعية والتي تقف في هذا الطريق . وخاصة المرأة الكاتبة .