بوليفونية الخطاب السردي في رواية جمجمتان تطفئان الشمس للروائي منجد باخوس
بوليفونية الخطاب السردي في رواية جمجمتان تطفئان الشمس للروائي منجد باخوس. ابو طالب محمد المقدمة: تسعى هذه الورقة لقراءة رواية جمجمتان من خلال تعدد أصواتها السردية
بوليفونية الخطاب السردي في رواية جمجمتان تطفئان الشمس للروائي منجد باخوس.
ابو طالب محمد
المقدمة:
تسعى هذه الورقة لقراءة رواية جمجمتان من خلال تعدد أصواتها السردية، والشاهد على ذلك انفتاح النص على احداثيات واقع السودان المعاصر بكل ما تواجهه من اشكاليات ناتجة من مأزق الحروب،المجاعات، التشرد، الهجرة والأمراض المزمنة. حيث استوعبت الرواية في خطابها السردي هذه الأزمات وجسدتها عبر وحدات سردية انفردت بطابع الطرح الأيديولوجي مستعينة بذلك بالأساطير والحكايات الشعبية والرسائل والتداعي والأشباح. حيث الكل في الرواية له رسالة وله مآلات أراد أن يفصح عنها، مما جعل الرواية تستند بشكل كبير على مسرح الحدث، وقدمت عبره شخصيات تتحدث عن ماضيها وذكرياتها، والداعي لهذا الكشف العامل النفسي الذي عايشته الشخصيات في معسكرات اللاجئين والنزوح الإجباري، بهذا المفهوم صارت رواية جمجمتان للروائي والقاص منجد باخوس ذات محمولات فكرية ناتجة من مساهمات الفرد في عرض منولوجه الداخلي وتوجيهه للقارئ بأصوات متعددة، وعليه سوف تستند الورقة على ثلاثة محاور رئيسية لإثبات ما تقدم عرضه في جسد النص وهي:-
البوليفونية.
محمول التداعي
توظيف الأشباح.
البوليفونية Poliphonie/ Poliphony لغة تعدد الأصوات، وأُخذ هذا المصطلح من علم الموسيقى، وتم نقله إلى حقل الأدب والنقد، فالمقصود بالرواية البوليفونية تلك الرواية التي تتعدد فيها الشخصيات المتحاورة، وتتعدد فيها وجهات النظر، وتختلف فيها الرؤى الأيديولوجية، بمعنى أنها رواية حوارية تعددية تنحى المنحى الديمقراطي، حيث تتحرر من سلطة الراوي المفرد، وتتخلص من أحادية المنظور واللغة والأسلوب ويتم الطرح في هذه الرواية المتعددة الأصوات والمنظورات عن حرية البطل النسبية، واستقلال الشخصية في التعبير عن مواقفها، وبتعبير أكثر توضيحاً تسرد
كل شخصية الحدث الروائي بطريقتها الخاصة، بمعنى أن الرواية البوليفونية تقدم أطروحتها المرجعية عبر أصوات متعددة، وقد تلمس ميخائيل باختين هذه الظاهرة التعددية والفنية في روايات دوستو فيسكي، وعليه أشار أن الرواية المتعددة الأصوات تنهض على الحضور المجاور لوجهات النظر المختلفة، وتتخللها بؤر سردية متعددة، وتتوزع فيها أشكال الوعي المستقلة والغير ممتزجة ببعضها، ويتم التؤكيد على(الأنا) الغيرية، لا بوصفها موضوعاً بل بوصفها ذاتاً فاعلة أخرى تمتلك رؤية خاصة للعالم().
ويذهب في هذا الصدد أوسيفسكي إلى أن الرواية المتعددة الأصوات تتحقق في المنظور الأيديولوجي عند توافر الشروط الآتية:-
تواجد عدة منظورات مستقلة داخل العمل الروائي.
يجب أن ينتمي المنظور مباشرة إلى شخصية ما من الشخصيات المشتركة في الحدث، أي ألا يكون موقفاً أيديو لوجياً مجرداً من خارج كيان الشخصية النفسي.
ج- أن يتضح التعدد البارز على المستوى الأيديولوجي فقط ويبرز ذلك في الطريقة التي تقدمها الشخصية، وهي الوسائل الممثلة للأيديولوجيات المختلفة للعالم المحيط بها().
إذاً رواية"جمجمتان تطفئان الشمس" رواية بوليفونية كسرت حاجز السرد الأحادي ووظفت من خلال منظورها السردي أصوات سردية متعدد تداخلت فيها أساليب سرد لحكايات متعلقة بالشخصيات عن ماضيها، وصارت الرواية تحمل في خطابها أكثر من سارد حيث الكل رواة يسردون تفاصيل حياتهم الشخصية من منظور عامل نفسي فرضه عليهم المكان(معسكر اللاجيئين)، باعتباره المأوى الذي مثل انطلاق بؤر الحدث السردي وجعل كل شخصية تمتلك خاصية حرية كاملة في تقديمها للخطاب الأيديولوجي، لأن المكان أصبح مصدر تخوف ورعب لدى الشخصيات نسبةً لإنتشار الأمراض الخبيثة، الموت الولادات المتكررة لصبيات صغيرات دون أن يعرف أحد من هم الآباء الحقيقيون، الإغتصاب، إختفاء الأشخاص الذي يتكرر دون سبب والجوع والعطش.
هذه الوقائع جعلت الشخصيات أن تنفر من وحشية المكان وتبحث عن أمكنة ذهنية أخرى تخلق نوع من التوازن النفسي باعتبار أن الضغوط النفسية ولدت حالات من المرض والآلام الحادة مثل حكاية(جورين أجو) عن(أفر يال منقستو) الفتاة الأرترية التي تمارس نوع من التعذيب على نفسها بقصد أنها تنال حريتها الشخصية من جراء التعذيب، وعندما تحكي(أفر يال منقستو) عن الفتاة التي وضعت طفلاً وذبحته وشنقت نفسها، وحكيت عن فقدان أمها لعقلها وهروب والدها من هذا الفعل، بالتالي الضغط النفسي جعل أخبار الموت عن الأقارب حدثاً عادياً وتحكي(جورين أجو)(رأيت فتاة تتلقى خبر وفاة والدتها ببرود ولا مبالاة عظيمة لدرجة أنني حسبتها مختلة العقل أو شيئاً كهذا، لكن فيما بعد عرفت أن الموت في المعسكر لا يعدو أن يكون حدثاً عابراً يتوقعه كل شخص، وفي أي زمن كما عرفت من خلال وجودي هناك، أن الأشياء التي تخيف الانسان في العادة تفقد تأثيرها عليه، حينما تتكرر وتفوق العادة كذلك الموت) الرواية ص52.
وتنعكس بوليفونية السرد في الرواية بتوضيح الجنسيات المختلفة التي يضمها المعسكر، أمثال(أفر يال منقستو) تسرد حكايتها بأنها فتاة أرترية ماتوا أفراد أسرتها ماتوا جميعاً دون أن تذكر الأسباب حيث فرت من الخدمة العسكرية وتم تقيدها في المعسكر.
وحكاية(أستيلا دينغ) يرويها السارد العليم بأنها فتاة من الجنوب لها طريقة غريبة في النوم، تنام وهي تأخذ شكل الجنين، وتهذئ كثيراً أثناء النوم وتردد جملة واحدة... أنا آتية إليك يا أمي.. تمشي يومياً مسافات طويلة داخل المعسكر.. مادة يديها للأمام، يمسكها الحارس ويعيدها مرة أخرى للحجرة) الرواية ص37.
ويحكي أيضاً عن عشة بت عجبنا من الغرب(لا تنام مطلقاً تبكي دائماً وتحكي باستمرار عن منطقتها وما أحيط بها من حروب الجنجويد يدخلون البيوت ويضاجعون النساء والرجال معاً.
فإذاً الرواية راهنت منذ انطلاق مجريات أحداثها على مبدأ البوليفونية تعددت فيها أصوات الرواة وفي المساحة التالية نوضح بوليفونية السرد في مضامين الرواية:-
خطاب الشيخ في المعسكر:
تحكي جورين أجو(سمعت صياح الشيخ قادماً من بعيد، ثم تتعقبه صافرة طويلة أطلقها أحد الجنود قرب الباب، وحين تنفخ الصافرة يعلم سكان المعسكر كلهم أن أمراً طارئاً سيتحدث عنه الشيخ للناس كلهم... اعتلى صخرة كبيرة مستطيلة وسط المعسكر، أخذ يثرثرويعزي للناس، يطلب من الناس الصبر يطلق كذبته الأبدية عن مخاطبة جهات رسمية ستقدم الدعم اللازم وسيتحسن الوضع، وأن قافلة من الاغاثة في الطريق إلينا... الخ )الرواية ص58- 59.
يعتبر خطاب الشيخ في بنية النص خطاب صوتي له محمولات كاذبة، لأن الشيخ نفسه له مآرب عدة داخل المعسكر مثل بيع الحشيش بواسطة(ديلو) استغلال علاقته بديلو في استرضاء الفتيات الصغار لرجال المعسكر، ومن مآربه بيع الأعضاء، وتمثل في بيع أعضاء(فر يال منقستو) بعد أن أخذوها في عربة الأسعاف من المعسكر، أخذ الشيخ وآخرون مبلغاً من المال دون أن تعلم أن في المستشفى أجريت لها عملية جراحية. لذا فتيات المعسكر يتخوفن من الشيخ وأفعاله القذرة مما جعل اللاجئون في المعسكر لا يثقون في خطابه.
الرسائل والمذكرات:
أخذ أسلوب الرسائل في بنية الرواية حيزاً كبيراً في إبراز حالة القهر النفسي والمرض يتمثل في رسالة استيلا دينغ بعد هروبها وتضمنت الرسالة:
مجيئها للمعسكر بسبب الحروب والمجاعات.
تضمنت حالة الجوع والعطش والموت في المعسكر.
الخروج من المعسكر مقابل ممارسة الجنس مع"بدوي" وتقول:"أن الجنس مرة واحدة أفضل من عشرات المرات وبطريقته العبثية".
المذكرات: تحوي الآتي:-
صور تذكارية أمام مبنى طويل مكتوب عليه كبويتا بخط عريض فيها استيلا وعائلتها.
صور لشاب طويل وتبرز ملامح هيئته لابساً قبعة من السعف ويحمل بيده سنارة صيد وتتكئ استيلا على صدره وعلى وجهها ابتسامة.
صورة لاستيلا بجلباب مطلة برأسها من خلف زريبة البقر.
صورة تقف فيها استيلا أمام باب القطية وهي تراقب طائراً.
صورة مكتوب عليها مدرسة كبويتا اللاهوتية.
صورة لاستيلا وهي تتأرجح فوق حبل يتدلى من شجرة المانجو.
قصاصات: تحوي رسوم عشوائية بأسماء مبعثرة وسهم يشق القصاصة حتى نهايتها مكتوب فوقه إلى أين سيقودك هذا السهم يا استيلا إلى الهاوية والموت.
يعتبر توظيف الرسائل والمذكرات الخاصة باستيلا توحي بعالم حياة مضى أكثر استقراراً وأمناً وهي وسط أفراد عائلتها، ويعتبر أيضاً توظيفها تعميق علاقة جورين أجو باستيلا إضافة لخلق مكان ذهني انتقلت إليه جورين نسبة من نفور المكان المعاش(المعسكر).
أسلوب الحكايات:-
أخذ هذا الأسلوب مكاناً كبيراً في بنية النص وتراوحت طريقة سرده بطرق مختلفة نجده داخل بنية النص يحكى بواسطة الراوي العليم مثل طريقته في سرد الحكايات لجورين في الحلم، ويحكي بواسطة شخصية عن نفسها، ويحكي بواسطة بشر لحيوان، وبينهما روابط منطقية في خطاب النص، لأن الشخصيات التي تحكى أو يحكى عنها تعتبر شخصيات تعيش في عالم مشترك من التوهان الكلي والضياع وتعتبر أيضاً شخصيات حولتها الحروب إلى أشلاء قذفت بها في نفق بائس جعلها تستوحي من ماضيها حكاوي بمثابة تحرر من القيود النفسية ويتمثل هذا الأسلوب الحكائي عن شخصية أخرى ترويها(جبرين أجو) تقول:(لا أحد يعلم من أين أتى، ولا أحد يعلم شيئاً عن عائلته ذات مرة وجدته معلقاً نفسه فوق شجرة يتدلى شانقاً نفسه بعمامة طويلة محاولاً الانتحار، دائماً يتشاجر ويتعارك مع السكارى في بيوت الفداديات ينتهي عراكه بضربة أو جرح.. يختفي ويعود كما هو، ودائماً تجده يتحدث عن زوجته وطفلتهما).. بناءاً عليه لاحظ أن جورين لها علاقة خاصة بجرين، لأنهما أصحاب أحزان يخدرها جبرين بالسكر وجورين بالممارسة الجنسية معه.. وتقول(ليس لي أحد غير الداعرين الذين يدخلون عريشتها).
الملاحظ أن الوافدون على عريشتها يمارسون معها نفس ما يمارسه جبرين، لكن قاسم الاشتراك جمعهما بجبرين لأن له فقده ولها خسرانها في الحياة.
وحكاية ثانية عن مرأة تحمل طفلها الصغير بترت قدمها بآلة حادة من جراء الحرب وقعت على الأرض كجثة وطفلها بقربها. وحكاية امرأة بعينين معصوبتين تتلمس الطريق بعصا تصطدم بصخرة ثم تهوي وتخترق رصاصة جسدها.
وحكاية جورين عن أختها أشول التي تم اختطافها وأغتصبت أمام عينيها، وتقدم أيضاً حكاية جون الشاب الذي كان يحلم باتمام زواجه من أشول، الذي صار يجمع عدداً من الأبقار للزواج وعندما شارف على التسعين بقرة وشارفت مواعيد الزواج داهمت القرية غارة أحرقته وأحرقت أبقاره وعلقت جثته فوق الصخور. وتحكي جورين عن استيلا، الفتاة الجنوبية التي هربت مع عائلتها وتحمل على ظهرها جدتها التي توفت من شدة العطش وسقتها من دمها، هنا النص خلق من عزلة(جورين) في أماكن مجهولة ملاءمة وتعايش مع جثة أبيها وجدتها وبدأت في التحاور مع جثتيهما الأب حيث اقتربت من رأسه رأس الأب وضمته على صدرها بقوة حدثته عن قيادة القبيلة وأخبرته بأن السلطان قد مات، وأنه سيكون سلطان القبيلة القادم وتوسوس له عن الاحتفال بتنصيبه سلطاناً وبأنه سوف يرتدي زي السلاطين ويحمل الحربة ويرتدي التاج والملابس الجلدية.. حدثته بأن القرية عن بكرة أبيها واقفة منتظرة أياه والطبول ستقرع لمدة يومين والرقص سيكون جميلاً، أتكلم وأثرثر لأبي في أذنه.. الرواية ص98)
من هذه الحكاية يتولد صوت ذاكرتها على صوت الطبول والخلاخل الحديدية وتسمع صوتاً خفيفاً بالغناء ينبعث من ذاكرتها وتبدأ في الرقص، بالتالي الرقص وجد معادل موضوعي مع حوار جثة الأب. وهو توظيف بمثابة التألف مع الذكريات.
حكاية الجدة إيمي للعنز:
قدمت هذه الحكاية في النص من خلال أسلوبين وهي حكايات من بشر إلى حيوان.
الأسلوب الأول: أسلوب حكائي قديم عن تكوين الجنس البشري ونشوء الانسان، الميلاد- الأساطير القديمة وتحكي لها عن تاريخ الكجور(صارقيل) وعن معتقدات القبيلة التي توارثتها من الثقافة الشعبية.
الأسلوب الثاني: أسلوب حكائي حديث عن الدعوة الدينية التي أتى بها رجل بشارب كث ولحية طويلة يحث الناس على تعاليم الدين الجديد واتباع نهجه وترك ديانة المعتقدات.
يعتبر هذان الأسلوبان لهما دوراً كبيراً جداً في اصطدام الديانات- االديانة الأولى متوارثة من الأجداد والمعتقدات الأسطورية، والثانية الديانة السماوية، وبين فكرة التخلي من الأولى والقبول بالثانية نتج صراع عنيف ونشبت حروبات بين الطرفين وقتال دموي مرعب في المنطقة، لأن بعضهم متمسك بدينه الممتد عبر الجذور والآخر تبع طريقة الديانة الجديدة. أعتقد أن رفض رجال القبيلة للديانة الجديدة فيه مبرر فني في بنية النص، لأن الداعي"بدوي" أتى بأسلوب دعوة تحمل في طيأتها ملامح عنف مما جعل بعض رجال القبيلة يرفضون دعوته ويتمسكون بدينهم.
حكاية أخرى يحكيها جبرين عن مشاهد الدفن الجماعي للأحياء الذي فعله العسكر مع أناس دون مبرر، ويحكي عن فعل الذبح الجماعي وكرنفال الدم. ويحكي عن الفتاة العذراء وكيفية محاولاتها للخروج من تحت جسد العسكري ويرد كيفية قتلها وهو يكبر الله أكبر الله أكبر وتنحرف مسارا حكاياته إلى حفلات الرقص والغناء ويتذكر زوجته عشة بت عجبنا. هذه الحكايات قادته أن يكون مدمناً ويشنق نفسه داخل المعسكر.
توظيف الطقس الجنائزي:
وظف النص فكرة الطقس المصاحب للأموات وأعتقد أنه وظف طقس الموت عند قبيلة الأشولي، المعتقد يوضح عند موت شخص يجتمع أهله وأقرباءه ويرقصون ويغنون ويعزفون الطبول هذا الطقس كاملاً وظف في الرواية لكن حالته الاحتفائية لم تكتمل داخل البناء الفني للنص سرعان ما تلاشى بصدد هجوم الغزاة على القرية وعلى طقسهم ومارسوا ضدهمأبشع أساليب القتل. قطعوا أرجل شيخ مسن وقذفوا به في النار وفجروا جثة رجل آخر، يعتبر هذا التداخل الاحتفالي والصدام الدموي ناتج من تحركات مسارات النص في استيعابه لدور الحروب وقضائها على كل نمط حياة يوحي بالأستقرار.
2-محمول التداعي:
إن النظر في مبدأ الفردانية من منطلق التخصيص يظهر فلسفياً، بمظهر قضية تجديد الانسان الفردي فما أن تكلم بعض المفكرين عن العمليات الذهنية، ضمن وعي الفرد كمرتكز حتى كان من البديهي أن تستقطب القضايا الفلسفية المتعلقة بالذاتية الشخصية، مقداراً من الاهتمام ولقد كان لأراء بعض المفكرين الأثر في تطور النزعة الفردية التي ستظهر بشكل واضح في الابداع الأدبي().
وبناءاً عليه ذهب الفيلسوف J. Lock حيث يقول:(أن مبدأ الفردية كذات واعية تكون على صلة بذاتيها الخاصة المتواصلة من خلال ذكريات عن أفكارها، وعن أفعالها الماضية.وعن طريق التداعي والافصاح عن أسرار ما يدور في مخيلتها، ويتم ذلك بالتفاعل أو الانفعال نسبةً لوطاة الزمن وتبدل الأحوال().
هذا المفهوم تجلى بشكل واضح في رواية جمجمتان، باعتبار أن النص في بوليفونية خطابه السردي راهن على مبدأ الفردانية حيث نجد جل شخصيات الرواية تنطلق من فكرة التداعي بكل محمولاته النفسية وإفصاحها للأيديولوجيات المختلفة، وهذا الطرح الذاتي نجده منبعث من اللحظة التي دفنت فيها استيلا أبيها وجدتها، حيث طافت ذكرياتهاحول تاريخ قريتها المحترقة وفرار سكانها نحو الأحراش والكهوف، والباقون ذبحوا وقذف بهم داخل النيران، تتذكر ليالي الرقص والغناء، ختان الأطفال، وموسم الحصاد والفرح العارم لحظة الميلاد. وتتذكر جدتها وهي تحكي لها عن يوم ميلادها بأن يوم ولادتها صادف ولادة أطفال كثر في القبيلة، وأخذوهم إلى الغابة وحضرت لكل واحد منهم حفرة يوضع فيها لمعرفة إن كانت الأسلاف قد منحت قوتها لأحد.. وتقول:(أخذتني جدتي وأمي ونساء القرية والمولودين الآخرين إلى الغابة يغنين ويقرعن الطبول ويرقصن بأجسادهن المليئة بالدهون والخرز والسلاسل النحاسية) الرواية ص 102.
هذه الحكاية وضحت محمول تداعي عكس طقس اليوم السابع لميلاد الأطفال وحملهم إلى الحفر لمعرفة حلول قوة الأسلاف داخل جسد أحدهم، ويستمر التداعي في توصيل محموله بشكل أكبر من خلال طقس اليوم السابع وتقول:(يظهر شيخ عجوز فوق الشجرة بيده إبريق فخاري وسوط طويل مصنوع من ذيل البقر، شريط بلاستيكي أسود يتقاطع في صورة على شكل صليب يخرج خنجراً لامعاً وطويلاً ويطعن به الإبريق الفخاري، ويخرج منه طائراً أسوداً بمنقار يحمل تميمة بمنقاره، ثم يطعن الرجل إبريقه مرة أخرى يصرخ الطائر ويتلوى في سماواته...الخ ثم يقول:(يا روح الجد المقدسة أدخلي جسد هذه البنت استيلا أمنحيها القوة والبقاء أينما كانت) الرواية ص 103.
ويكتمل الطقس بحلق الرأس ونثر الشعر في الجهات الأربعة.
ثم محمول تداعي الرجل المسن في المغارة وهو عائش مع ذكرياته ويحادث نفسه يستدعي ذكريات القرية، ويتذكر النيران وهي تلتهمها ويتذكر الجدة إيمي وعنزتها، وهي تحكي لها عن التاريخ السلالي والكجور وصارقيل، إذاً محمول هذا التداعي ناتج من عزلته في المغارة لا يجد شخص يحادثه سوى نفسه، مما استدعى خلق عالم استطاع أن يكون لصيق الصلة بحياة ماضيه، وأن يكون في حالة استرجاع دائم للحروب وحياة الاستقرار ما قبل الحرب، لذا هذا الرجل عايش زمن ذاكرة مفتوح وزمن حاضر مقيد فيه بعزلته.
وعليه أضحت كينونة الفرد في الرواية هي المتحركة والطاغية، وصار الفرد وحده المسؤول مبدئياً عن تحديد الأدوار الاجتماعية والسياسية والاقتصادية().
من خلال ما تقدم يظهر مع تطور الرواية الحديثة مثل"الرواية قيد الدراسة" أن صوت الراوي أخذ يخفت وصوت الشخصية يعلو، وذلك نتيجة تطور تقنية البوليفونية في البناء الروائي واتجاه الرواية نحو المنظور الذاتي. وترتب على ذلك ظهور أساليب تعبيرية مثل المونولوج والتداعي، وهو أسلوب واضحاً في الكتابة الروائية وخاصة في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى. وتفسيره هو طغيان السرد في حالته الانفعالية والتخيلية عند الشخصية، وطغيان هذا الجانب الفني في السرد يرجع إلى وضعية الفرد في حقبة من التاريخ الحديث.. حروبات، أزمات، سيطرة، استعمارية استعباد، خيبة أمل().
ومن خلال هذا برز لنا أهمية التداعي في الكتابة الروائية(الرواية قيد الدراسة)، في محاولة فصل الشخصية الروائية عن ذلك التعاقب والتراتب في الأحداث لفسح المجال للحظات التأمل والتوقف، حيث تقدم لنا الشخصيات المفصحة عن أعماق وصفها المأساوي في علاقتها بالعالم وبالوجود ويقدم أسلوب التداعي قوة الشخصية المنعزلة رغماً عن تعايشها مع شخصيات أخرى().
ورغما عن ذلك تبني عالماً يعيش ويساير المجتمع إلا أنه تعايش من بعيد، حيث نلاحظ الشخصية في بعدها المأساوي تقدم اعترافات عن نفسها(عشة بت عجبنا- استيلا- فريال- رجل المغارة- جورين- بدوي- التاجر- بدوي شيخ الدين) وعن الأخر رغبة في الافصاح عن طبيعة العلاقة التي تحكم عالماً ينهار إلى درجة أننا نجد أنفسنا مع شخصية متهمة في حضورها الاجتماعي().
توظيف الأشباح:
وظفت رواية جمجمتان فكرة الأرواح أو الأشباح أو الطيف بحثاً عن معادل روائي منطقي وتمثل الشبح في شخصية(كونياك) الذي يأتي إلى"جورين" يحدثها عن الحروب وعن حياته المهنية ويأمرها أن تقرأ اللفافات. لكن فكرة الشبح في النص لم تكن ذات طابع منطقي روائي باعتبار أن"جورين" عاصرت الأحداث التي يرويها لها كونياك(الشبح). وهذا خطأ في المنطق الفني لأن توظيف الشبح أو الأرواح يتم بين شخص وآخر شرطاً أن يكون الأخر بعيداً عن وقائع الأحداث، مثلاً شكسبير عندما وظف الشبح في مسرحية(هاملت) من خلال حدث قتل الملك"كلود يوس" على يد أخيه وتزوجت الملكة(غرترود) عمه، هنا فكرة الشبح تدل على عدم وجود هاملت لحظة وقائع الأحداث مما استدعى توظيفه في نص المسرحية وقائع الأحدوثة بواسطة الشبح . إذاً الأرواح في الرواية لم تكن منطقية في توظيفها باعتبارات الشخصيات جميعها معاصرة للأحداث والوقائع ومشاركة فيه والدليل الآخر انفراديتها في استدعاءها للماضي بطريقة بوليفونيةهذه الأسباب أدت إلى اشكاليات توظيف الأرواح في الرواية
ختاماً:-
توصلت الورقة إلى الآتي:-
تعدد أصوات الرواية داخل نسيج سردي استطاع في طرحه تجسيد الاشكاليات السياسية والاجتماعية المعاصرة.
رهان الرواية على مبدأ التداعي وحضوره القوي في بنية النص ودوره تجاه المحمولات الفكرية.
عدم التبرير الفني في توظيف الأرواح داخل بنية الرواية، لأن شخصياتها معاصرة للأحداث ومشاركة في الوقائع.
قائمة المصادر والمراجع:
عواد علي: غواية المتخيل المسرحي: مقاربات لشعرية النص والعرض والنقد : بيروت: المركز الثقافي العربي ، 1967، ص 15- 16.
نفسه، ص16.
فوزية العيساوي: التداعي ومسير الكشف مقال منشور، www.aljariabed.net ص1.
نفسه، ص2.
نفسه، ص3.
نفسه، ص4.
7-نفسه، ص5.
نفسه، ص6.
منجد باخوس: جمجمتان تطفئان الشمس(رواية): جوبا: رفيقي للنشر، 2015م