اتفاقية سايكس بيكو وتعرية النخب
اتفاقية سايكس بيكو وتعرية النخب باسم فـرات عقدت اتفاقية "سايكس- بيكو" بين المملكة المتحدة وفرنسا وبمصادقة من الإمبراطورية الروسية، على أساس تقاسم منطقة الهلال الخصيب بينهما، لتحديد مناطق النفوذ في غرب آسيا بعد تهاوي الإمبراطورية العثمانية، وهذه الاتفاقية جرت بين السيدين: البريطاني مارك سايكس (16 آذار/ مارس 1879- 16 شباط/ فبراير 1919م)، والفرنسي فرانسوا جورج بيكو (باريس 21 كانون الأول/ ديسمبر 1870- باريس 20 حزيران/ يونيو 1951م)، ولكن بعد انتصار الشيوعيين في روسيا، كُشفت هذه الاتفاقية السرية، وأحرجت بريطانيا وفرنسا، فبقيت حبرًا على ورق. كانت الاتفاقية تنص على منح شمال العراق "ولاية الموصل" لفرنسا مع سورية ولبنان، أما بريطانيا فنصيبها يمتد من طرف بلاد الشام الجنوبي وما تبقى من أرض العراق التاريخي.
اتفاقية سايكس بيكو وتعرية النخب
باسم فـرات
عقدت اتفاقية "سايكس- بيكو" بين المملكة المتحدة وفرنسا وبمصادقة من الإمبراطورية الروسية، على أساس تقاسم منطقة الهلال الخصيب بينهما، لتحديد مناطق النفوذ في غرب آسيا بعد تهاوي الإمبراطورية العثمانية، وهذه الاتفاقية جرت بين السيدين: البريطاني مارك سايكس (16 آذار/ مارس 1879- 16 شباط/ فبراير 1919م)، والفرنسي فرانسوا جورج بيكو (باريس 21 كانون الأول/ ديسمبر 1870- باريس 20 حزيران/ يونيو 1951م)، ولكن بعد انتصار الشيوعيين في روسيا، كُشفت هذه الاتفاقية السرية، وأحرجت بريطانيا وفرنسا، فبقيت حبرًا على ورق.
كانت الاتفاقية تنص على منح شمال العراق "ولاية الموصل" لفرنسا مع سورية ولبنان، أما بريطانيا فنصيبها يمتد من طرف بلاد الشام الجنوبي وما تبقى من أرض العراق التاريخي.
وبعد فضح هذه الاتفاقية، أو المعاهدة، وتبدل جهات الصراع، وظهور عوامل منافسة أخرى، منها بروز الولايات المتحدة الأمريكية قوة اقتصادية وسياسية جديدة، ونهضة جمال أتاتورك في تركيا.كل هذه العوامل أدت بالمتعاقدين البريطانيين والفرنسيين إلى إعادة النظر بالمعاهدات والاتفاقيات. فشهدت هذه الحقبة أكثر من معاهدة منها معاهدة "سيفر" (10 آب 1920)، ومعاهدة "لوزان" (24 تموز 1923) وفيهما اضطر البريطانيون والفرنسيون إلى الاعتراف بالعراق التاريخي الذي حدده البلدانيون (الجغرافيون) المسلمون والمتعارف عليه في التراث العربي الإسلامي، وقبلهم كانت هناك إشارات عند المؤرخين اليونانيين والرومان، تشمل العراق بحدوده الحالية مع مناطق أُخر.
يمكننا تلخيص ما أَكَّدَه ودونه البلدانيون (الجغرافيون) المسلمون فيما يخص العراق على سبيل المثال، بأنه ذلك الإقليم الذي يمتد "من تَخوم الموصل (منطقة الموصل وليست المدينة) شَمالًا إلى بلاد عبادان على ساحل البحر جنوبًا" والتُّخوم كما هو في المعاجم: الفَصْل بين الأَرضَيْن من الحدود والمَعالِم، ومنتهى كل قَرْية أَو أَرض، وهي بضم التاء عند البصريين وفتحها عند الكوفيين. يقول المنذر بن وبرة الثعلبيّ :
ولهم دانَ كلُّ مَن قَلَّت الـعَـــيْـــــ رُ بنَجْـدٍ إلى تُخـوم الـعِــــــــــــــراق
في الاوراق السياسية القديمة، ونتيجة لما جرى ولدت معاهدة سايكس بيكو ميتة، فهي لم تُنفَّذ وبقيت حبرًا على ورق. لكن النخب كافة؛ سياسية وثقافية؛ تتحدث عنها وتستشهد بها، فهي أشهر معاهدات (اتفاقيات) الحرب العالمية الأولى، وأكثرها تداولًا على الألسن، وأوسعها استعمالا في الكتابة. فلا فرق بين اليسار واليمين وما بينهما؛ بين كبار السنّ والشيوخ والكهول وبين الشباب والمراهقين. الكل يرددونها، ويحملونها مسؤولية أوهامهم، وما أصاب المنطقة من كوارث سياسية واجتماعية واقتصادية. فهي العلة الكُبرى، التي بسببها نتجت مآس عشناها ونعيشها، وتناسلت الاضطرابات حتى أصبحت المنطقة طاردة لسكانها، ترزح تحت احتلالات خارجية وداخلية.
إن اتفاقية سايكس- بيكو وثيقة تُثبت أن "ثقافة الشائعات" هي السائدة في المجتمع، بغض النظر عن كون المتحدثين بها من "كبار المثقفين" أو "كبار السياسيين" أو "كبار الأكاديميين"، وأنها أنموذج لكثير من المعلومات نرددها بدون تقصٍّ وبحث، إنما نلوكها لأن الألسن تلوكها، فنظنها معلومة صحيحة لا غُبار على دقتها، وهي تشبه مزاعم كثير من المجموعات العرقية واللغوية، بأن لها تاريخاً حضارياً مجيداً يمتد لآلاف السنين، بينما لا وجود لمجموعة عرقية أو لغوية لها تاريخ يمتد إلى مثل هذه الفترة. فالمجموعات اللغوية التي تفتقد للكتابة والتدوين وتخلو لغتها من الموسوعات والكتب قبل القَرن التاسع عشر في منطقة الهلال الخصيب مثلًا؛ هي مجموعات طارئة وحديثة على عمقه، ربما كانت تعيش على أطرافه القصية ذات االتضاريس الوعرة، والموارد النادرة، ففرضت هذه العزلة الجغرافية عليها الشفاهية والافتقار إلى معرفة الكتابة.
إن الشعوب اختلطت وتزاوجت واللغات تغيرت كثيرًا، وبالإمكان القول إن تاريخ العراق وتاريخ مصر وسورية يمتدّ إلى آلاف السنين، وما يسجل من عمق جغرافي للمكان لا يقابله أو يماثله في ذلك، الوجود العرقي والإثني في المكان نفسه. فمن الواضح والبديهي، أن الحضارات تُسجل عمقًا في تاريخ المكان، من تمييز وتحديد للنقاء العرقي. وبعد ثبوت هذه الحقيقة، فليس من حقّ مجموعة سامية ما "كالعرب والسريان"، أو آرية، أن يُؤثروا نسبهم وينفردوا بهذا العمق، وهم يعتقدون أنهم الوريثون الوحيدون لها.
وبعيدًا عن الإثنية، فمن يؤمن أن العراق وطنًا موحدًا، له الحق أن يرى، أن وجوده محكوم بامتداد طبيعي، لكل هذه الحضارات التي قامت عليه، وأن هذه الظاهرة الطبيعية، تجزم بأن الإثنيات لا عمق لها في هذه الأرض. والأمر نفسه ينطبق على الديانات، وتتابعها على هذه الأرض، ومنها مثلًا الديانة اليهودية، فالبحوث الحديثة ترى أن تاريخها يصل إلى ما دون الثلاثة آلاف سنة. بينما الحقيقة المحضة تقول،إن أية ديانة تفتقر إلى مئات الكتب التي تناولتها وبحثت في عقائدها وفقهها ولاهوتها، عبر مراحلها التاريخية، فهي حتمًا ديانة مستحدثة.
مثل ذلك فرق إسلامية انشقَّت في القرون الأخيرة لأسباب شتى منها السياسية والثقافية والاجتماعية . وترددت على ألسنة المثقفين والكتاب، ولكنها في الواقع دعوات فردية متأخرة تلقى دعمًا لأسباب مجهولة، حتى تحولت بعد ذلك هذه السرديات المصطنعة إلى سرديات دينية مقدسة ضاربة في العمق الحضاري، ومثل هذه النماذج تتكرر كثيرًا.
وأخيرًا
وأخيرًا هل يمكن القول: إن اتفاقية سايكس- بيكو فضيحة مدوية، عَرّت وتُعَرّي النخب كافة؟ لأن الاستشهاد بها بوصفها اتفاقية نُفّذَتْ وعلى ضوئها تم تقسيم المنطقة بخاصة العراق وبلاد الشام، وأنها السبب فيما نحن فيه من ويلات؛ يدل على جهل مستوطن في مَنْ يُنظر إليهم بوصفهم رموز المجتمع وقادته ووجهائه وقادة الرأي العام فيه، وترديد أكاذيب شائعة يمكن تفنيدها بقليل من البحث والقراءة، وليس تكريسها حتى تتحول إلى سرديات مقدسة، بل يمكن النظر إلى هذه الاتفاقية بوصفها أنموذجًا يُحتذى في تعرية النخب، وجرائمها في تزوير الحقائق، وفي الحفر عميقًا في السائد والمطروح من الخطاب الثقافي والسياسي والتاريخي والاجتماعي وبصورة أشمل الخطاب الحضاري.