بنية المحكي في رواية عاصف يا بحر

 بنية المحكي في رواية عاصف يا بحر

                                                        قراءة تطبيقية

أبو طالب محمد

مقدّمة:

   تسعى هذه القراءة التطبيقية  توضيح بنية المحكي السردي في رواية "عاصف يابحر" للكاتب عاطف الحاج سعيد، وهي الرواية الفائزة بجائزة الطيب صالح للإبداع الروائي في دورتها الرابعة عشرة للعام 2016، التي ينظّمها مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي، وتصنّف الرواية ضمن أُخريات تناولنَ موضوع الهجرة غير الشرعية، لأسباب رأيناها منطقية في بنيات محكياتهن، والرواية قيد الدراسة استندت بشكلٍ مباشرٍ على موضوع الهجرة مِمّا حدا بالدارس أنْ يقف على بنية المحكي وتجلياته في جسد النَّص بمستويّات متعدّدة جاءت على النمط التسلسلي الآتي:-

أولاً: صيغ التمثيل السردي ويدرس الزمن والفضاء، والسرد، ووضعيات التخيُّل السردي، ووضعية المحكي.

ثانياً: التبئير، ويدرس التبئير الصفر، والداخلي، والخارجي.

   هذه هي البنيات المحكية في رواية عاصف يا بحر باعتبارها رواية احتشدت بعدد كبير منها، مِمّا يلفت القارئ على تتبع طريقة كلّ بنية محكية وكيفية ترابطها مع بنية أخرى في  النَّص مشكلة ًصيغ للتمثيل السردي أفصحت عنه الرواية في محكيها.

صيغ التمثيل السردي:

   المقصود به الطريقة التي تُعرض بها القِصَّة، بمعنى إخراج المحكي من قِبل الراوي وتتمثل صيغتا التمثيل السردي في المسافة أي درجة تضمين الراوي في محكيه.

   يلاحظ في الرواية الشخصية المحورية (عاصف) لعبت دوريْن(بطل وراوي عليم) في مفهوم صيغة التمثيل السردي، مدّ الراوي أو الشخصية المحورية في محكيه للقارئ بتفاصيل كبيرة وبطريقة مباشرة، لأنّه ضبط معلومة صيغة التمثيل وفق قدرات معرفية بشخصيات الرواية وتنقلات تفاصيل سردها المتداخل بين الحاضر والغائب، في صيغة تمثيل الحاضر؛ نجد أنّ عاصف جزءاً لا يتجزأ من محكيات الحدث كبنية، حيث قام بسرد تفاصيل وقائع التهريب ليلاً وتسليمهم لمجموعات بشرية أخرى أو عصابات لا إنسانية تتاجر بالموت، ثم تمضي شخصية عاصف وتلعب دور الراوي والشخص المشارك والمساهم في صيغة بناء المحكي، ويتمثّل هذا التمثيل في معرفته بالسيرة العائلية لنعمات ويقول:(نعمات وزوجها غرباء عن حيّنا وربّما إقليمنا أيضاً، لا أدري.. هم بلا جذور واضحة، كثيراً ما يتساءل أبي: من أين أتا؟، زوج نعمات غامض ومثير للريبة وبلا علاقات اجتماعية واضحة في صوته ليونة غير معهودة في الرجال، وتأنُّق في الملبس ونعومة مثيرين للحنق. كل الذي يعرف عنه أنه عمل ضابط تموين في أحد معسكرات الخدمة العسكرية الإلزامية.... رأى نعمات أجمل نساء الأرض وأكثرهنَ بهاءً، كثيراً ما تكون وحدها، وكثيراً ما تحتاج من يؤدي عنها بعض الأغراض الصغيرة كجلب الملح من البقالة أو شراء كهرباء...إلخ) الروايةص20 . تتحوّل شخصية عاصف إلى راوي عليم يحدّد بدقّة معلوماته السردية ويقدم صيغة محكية لشخصية مريم التي خطفها تجار البشر عند الحدود الإرتيرية السودانية.

   في لحظات استدعائه للماضي يُمثل عاصف أيضاً شخصية تسرد تفاصيل وقائع مرتبطة بمسيرة سيرة رئيس التحرير عبد الصادق؛ يوردها وفقاً لتحوّلات شخصيته المتسارعة يقول عنه:(بدأت حياته العلمية ناتجة عن فشله لدخول الجامعات السودانية) ونسج عبر هذه الصيغة المحكية تحوّله بدأ جامعاً للنفايات ثم متحصل على رسومها ويوضح حادثة الاعتداء التي واجهته من المواطنين بسبب تراكم النفايات أمام منازلهم ثم مراسلاً في الصحيفة، حتى صار صحفياً متعاوناً، وتحوّل إلى مقدّم خدمات مشبوهة لناشر الصحفية الذي بدوره تتّسم حياته بالغموض وتثار الكثير من الشبهات حول مصادر ثروته، وسلوكه اللاأخلاقي حتى اعتلى منصب رئيس التحرير، وأول خططه كرئيس قام بحملات انتقامية لكُلِّ من طلب منه سابقاً أنْ يُعد له شاي أو قهوة أو أرسله لجلب السجائر، حتى أصبحت الجريدة في عهده بلا خط واضح قاصداً من ذلك تحقيق مآربه الشخصية بتعاونه مع جهات سرية يخدم مخططاتها بناءً على ممارسة لفعل الإقصاء وتوجيه التهم للشخصيات العامّة، ومقابل هذا يقوم بتلميع شخصيات أخرى. هذه المعلومات تعتبر بنية لصيغة محكي مسرود من قبل راوي عليم وشخصية محورية، لأنّ الشخصية وفقاً لصيغة التمثيل السردي تمتاز بمعرفة وتحقيق وتحرّي دقيق المعلومة عن الآخر.

   يمضي عاصف بمزيد من معلوماته عن ريئس التحرير يقول:(عندما حدثت المفاصلة في الحزب الحاكم تكوّنت مراكز قوى تتصارع على السلطة). استقل عبد الصادق هذا التغيير من أجل الحصول على ثروات عالية عن طريق الابتزاز، أجرى تحقيقاً صحفياً عن قضية السماد الزراعي الذي استورده البنك الحكومي، فعل عبد الصاق مؤامرة بالترويج على صفحات الجريدة وكشف أسماء شخصيات عامّة وتورطهم في هذه القضية، أخيراً يشير عاصف بمعلومة عنه تتعلّق بالفتيات الصغيرات اليانعات المتدرّبات اللآئي عملنَ معه في الصحيفة، واستغلهن.

   معرفة عاصف وارتباطه بالشخصيات الأخرى جعله يسرد تفاصيل متصلة بسيرة الشخصية وانتمائها العائلي. أي يوضّح الجذر المكوّن للعائلة؛ وهذا نجده في محكية عبدو يماني يقول عنه:(ولد في كسلا أواخر حرب تحرير إريتريا لأب مناضل في الجبهة الشعبية) ثم فجأة ينتقل بنا إلى شخصية أخرى لها علاقة رحم بالشخصية السابقة، وتبقى الشخصية المراد الإفصاح عنها محوراً للمحكي وتقود بنية الحكاية إلى اتجاه آخر لكنه مدعماً لسيرة العائلة بسرده لسيرة أسمريت وهي شقيقة عبدو يماني، ذهبت لمعسكر ساوا للجلوس لامتحان الثانوية العليا لأنّ الشروط التي فرضها السرد تنصُّ على إجراء الامتحان من داخل المعسكر، مَن يجتاز الامتحان يخرج من المعسكر ويواصل حياته الأكاديمية، ومن يرسب يبقى في المعسكر حتى يجهز لأداء الخدمة الإلزامية، وأسمريت لم تجتاز الامتحان وهربت إلى السودان لأنّها لم تكن على استعداد لإكمال عشر سنوات من عمرها في العدم والمهانة والعوز، ولم تكن أيضاً على استعداد لتحمُّل الاستغلال الجنسي والبدني التي تعرّضت له مع غيرها من الفتيات.مقابل هروبها أنْ تدفع الأسرة غرامة أو يحبس أحد أقربائها إلى حين سداد المبلغ أو عودة الهارب، وحُبِس عبدو شقيقها لأن الأسرة لم تستطع تسديد المبلغ باعتباره فقيراً يعمل بائعاً للذرة الشامية واُستغل في تشييد مباني الحكومة ومزارع العمال، وأخيراً قرّر الهروب إلى السودان وعمل في مطعم جلال دلالة، وثم إلى الخرطوم وإلى ليبيا حتى استقرّ به المقام في قارب الهجرة غير الشرعية ومعه آخرين قرروا الهجرة لأسباب متعلّقة بالحروب والاضطهاد والفقر والاستغلال والصراع. بناء عليه يورد عاصف تفاصيل فاطمة المرأة السورية وكيفية قتل زوجها وتدمير بيتها، لأنّ هذه الحادثة حملت بذور لحواجز نفسية مع الطائفة السُّنية وولّدت صراعا داخل القارب. ضمن هذا المحكي يستدعي عاصف كشخصية ناتجة عن الموقف حمل صفاء والانتقال بها إلى قابلة بغرض إسقاط الجنين، ويروي حادثة قتل الفتاة نُهى لأسباب تتعلّق بالحمل على يد شقيقها يوسف. هذه المحكية جعلته (عاصف) يستدعي مذكرة الاستدعاء من الجهة الأمنية بهدف التعاون معهم كمأجور وعميل، وهذا السبب جعله يرفض فكرة التعاون ويقرّر الهجرة مقابل بيع كليته في القاهرة.وعليه يقدّم عاصف اعترافات ناتجة عن خطاب الزعيم في القاعة وما دار بينه وبين صفاء، ثم يستدعي حكاية البنت التي صدمتها عربة في شارع عبيد ختم ويشبه موتها المجهول بموت ريما على متن القارب حتى يدخل في حالة غيبوبة، إذاً عاصف كراوٍ، وشخصية محورية لعبت دوراً كبيراً في بناء المحكي السردي بصيغ تمثيلية مختلفة لأنّه جزء لا يتجزأ من المروي.

الزمن والفضاء في الرواية:

   أحالت الرواية الزمن وفضائه في ثلاثة مستويات تتمثّل في السرد العام بكُلِّ تفاصيل محكياته البنائية من حكايات وسيرة واعترافات ومذكرة.

   السرعة:امتازت الرواية بسرعة الزمن الذي بدأت فيه أحداث الرواية تتشكّل لأنّه زمن تساوى مع زمن المحكي مثل: أحداث زمنية؛ عبدو يماني وهروبه، وأسمريت وهروبها، وفاطمة وحميدو كادي وعاصف وغيرهم من الشخصيات  ارتبطت أزمان أحداثها بالزمن الذي يتطلّب لخطّة استدعاء السرد.

التنظيم: اتسمت الرواية في وضع الهرم التسلسلي لمحكيات الأحداث المتعلّقة بالشخصيات.

السرد في الرواية:

   قدّمت الرواية جملة من التنويعات مكوّنة محكيات بنائية خدمت أسلوب الراوي في طريقة سرده لها، لأنّها استندت إلى بنية المحكي في استدعائها للأحداث وتضمينها في منطوق الراوي، مثال على ذلك؛ تنويعات المحكيات المختلفة بالشخصيات عاصف- فاطمة- أسمريت- عبدو يماني- جلال دلالة- عبد الصادق وغيرهم.

وضعيات التخييل السردي في الرواية:

   ميّز منظرو المحكي بين الأشخاص الحقيقين والمشاركين في التواصل الأدبي(المؤلف والقارئ)، الوضعيات التخيلية التي يمثلونها في النَّص(الراوي والمروي له، هذا الأخير يُعتبر مرسلاً إليه مُتخيلاً من قِبل المحكي). فالمؤلّف الذي وجد (أو يؤجد)لا ينتمي إلى عالم التخييل).

   إذن صوت عاصف في الرواية وُجد داخل محكية النَّص  مكوّنات المحكي، لأنّه صوته انتخب طريقة محدّدة في سرد المحكي؛ تراوحت بين الحاضر والماضي في لحظات استدعائه ممّا يجعل قارئ الرواية يتعايش مع الوقائع والأحداث التي رُويت له من راوٍ عليم مدرك بتفاصيل دقّة محكيه.

ثانياً: التبئير:-

   التبئير يُعتبر الصيغة الثنائية للتمثيل السردي، وهو يرتبط بمسألة وجهات النظر، ففي دراسة الصوت السردي ترتكز على الإجابة عن سؤال مَن يحكي؟ يحاول التبئير الإجابة عن سؤال مَن يشاهد؟ على أنّ السؤالين لا يتجزأن: إذ بوسع راوي محكي ما بضمير الغائب أنْ يختار تقديم القِصَّة من خلال وجهة نظره. أيّ من وجهة نظر الشخصية، أو بطريقة محايدة.

انظر في بنية محكية الرواية نجد أنّ عاصف كشخصية محورية قدّمت محكيات سردية لشخصيات أخرى مثل أسمريت وجلال دلالة وعبدو يماني وفاطمة، وصفاء باعتبارهم شخصيات شاهدة إلى وقائع الأحداث وشاهدة أيضاً بمعرفتها عن عوالمها حتى اللّحظات التي تتحوّل فيها شخصية عاصف إلى راوٍ نجده اختار تقديم حكايات الشخصيات وسيرها من زاوية وجهة نظره أيّ من نظر الشخصية المحكي عنها، أو بطريقة محايدة.

   إذن تبئير الراوية حدّد اختيار المعلومات السردية (للشخصيات، وهي معلومات فرضها المحكي نفسه لتقدّم منظومة السرد من وجهة نظر معينة وخاصَّة بالراوي والشخصية المحورية(عاصف).

التبئير الصفر:

   يقصد به أنّ لا يكون المحكي مبأراً على أيِّ شخصية، ومعنى ذلك غياب التبئير، فالراوي في عدم تكييف ما يقوله في وجهة نظر هذه الشخصية أو تلك، لا يمارس أي تقييد للحقل.

   تبقى وجهة النظر في التبئير الصفر في رواية عاصف يا بحر، هي وحدة تنظيم المحكي، في وجهةنظر الراوي العليم.

التبئير الداخلي:

يُقصد به تكيف الراوي لمحكيه من وجهة نظر الشخصية، يلاحظ في الرواية تقييد الراوي بحقل المعلومة حول عوالم الشخصيات دون التخطي أو الاتيان بمعلومات خارج سياق مسارها الحياتي.

التبئير الخارجي:

   يُقصد به رواية المحكي بطريقة محايدة فالراوي يعرف أقلّ مِمّا تعرفه، أيّ تنحصر معرفته على المظهر الخارجي، ويًكون تقييد الحقل واختيار المعلومة.

   عندما نهض حميدي واندفع نحوه بشدّة صائحاً:

سأريك أيها الكافر..........الراوية، ص 148

التمعت عيناه لبرهة ثم ضحك

يبدو أنك بلا خيارات في هذا البلد.... الرواية ص149

ختاماً:

امتازت الرواية ببنيات محكي مترابط لعب دوراً كبيراً في تنظيم مسارات الفضاء السردي بصيغه التمثيلية التي مثّل فيها البطل دور الرواي والشخصية المحورية باعتباره شاهدا على تكوّن جذور مسيرتها الحياتية.

   أخذت الرواية نصيباً وافراً في بنية محكيها على عنصر التبئير بوحداته الثلاث؛ وحدة ترى أنّ الراوي شاهد على الأحداث ووقوعها،ووحدة ترى أن الرواي مُقيّد بمعلومات عن الشخصية المُراد الحكي عنها بطريقة محايدة، ووحدة ثالثة ترى أنّ الراوي العليم معرفته محصورة عن المظهر الخارجي للشخصيات.

إحالات مرجعية:

[1]- فانسون جوف/ الحسن أحمامة(مترجم): شعرية الرواية: دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر، 2012م، ص34.

2 نفسه ص44- 45.

3 نفسه،ص63

4- نفسه، ص64.

5- نفسه، ص64.

6- نفسه، ص65.

7- عاطف الحاج سعيد: رواية عاصف يا بحر: أم درمان مركز عبد المريم ميرغني الثقافي، 2017م.