الفاتح الجزولي.. المسكون بالحب وأعلى القمم

الفاتح الجزولي.. المسكون بالحب وأعلى القمم الخرطوم -كليك توبرس-عامر محمد أحمد حسين. "أعلى قمم الحب" اختاره عنواناً لديوانه الشاعر الراحل "الفاتح عثمان الجزولي" وكتب مقدمته بروح مرهفة تنم عن شاعرية راكزة "من بين هذه المجموعة ما خرج قسراً, ومن بينها ما أطاعني سهلاً.

الفاتح الجزولي.. المسكون بالحب وأعلى القمم

الفاتح الجزولي.. المسكون بالحب وأعلى القمم
الخرطوم -كليك توبرس-عامر محمد أحمد حسين.

 

 

 

 


"أعلى قمم الحب" اختاره عنواناً لديوانه الشاعر الراحل "الفاتح عثمان الجزولي" وكتب مقدمته بروح مرهفة تنم عن شاعرية راكزة "من بين هذه المجموعة ما خرج قسراً, ومن بينها ما أطاعني سهلاً.. منها ما أرقني – لا لغة – وانما احساساً, ومنها ما أرهقني – لا احساساً – وانما لغة.. فيها ما أنسل كأفعى لا تحدث حتى الهمس حينما تتولى في دل وتزحف, وفيها ما أحدث الضجيج كهدير آلة لا تفرق بين هدأة ليل أو صخب نهار.." ويمضي الشاعر "على كل, فكل ذلك لكم – أعزائي – ان كان صالحاً فخذوه, وان كان طالحاً, فانا والده والوالد كفيل بابنه صالحاً كان أم طالحاً".
تسرد هذه المقدمة إلفة من نوع خاص, لصاحبها الذي رسم خطوط الطول والعرض للقاريء لاستقبال "أحلم أن بقصري شيطاناً من أهلي
يكتب عني الشعر.
وشياطين ترتب ما يكتب
فتقوم قصائد أو تنهار قصائد
أو يرقص حرف في ليلة وجع
يتلوى وينادي"
الحلم – الرؤيا, وقصر حروف مبنى من الرؤية الشعرية, الكتابة بالانابة, خوف التقصير من توصيل الرسالة "شياطين ترتب ما يكتب" يعود "وادي عبقر" الى الوجود من جديد, بإرسال الصورة – الخيال – الرؤيا في ذهن الشاعر, فيمسك بالقلم تعبيراً عن حالته الخاصة, أحاسيسه, أحلامه, توهانه داخل القصيدة, تقود الخطى نحو اكتمال الرؤية. "فتقوم أو تنهار قصائد, أو يرقص حرف في ليلة وجع يتلوى وينادي".
تضاهي القصيدة المنتصرة لكاتبها مع القصيدة المنهارة من داخلها, حزينة منكسرة, حزينة, متحسرة, "تتلوى وتنادي".
يقول الشاعر الراحل المصري "حلمي سالم" في قصيدته "الشخصان الفرحان" "قال زمانك أصغر من مشي أناملك على خدي سيدة
سألتك على كرسي بحري
كيف نقيس الهوة بين قصائدك ورئتي"
يقول الفاتح الجزولي:
"أحلم أن بجسدي بركاناً يتفجر في أوردتي
نيراناً بالورق المتناثر
وفريقاً من بين ثعابين الحيران
وطربوشاً أحمر
صف صبايا يتغنين ويستغفرن
وقوساً من ألوان الطيف
وقافية تتبعثر كالحلوى"
في كتابه "موت الناقد" يقول الناقد الانجليزي "رونان ماكدونالد" "كان النقاد مهتمين اهتماماً شديداً بالشعر الذي استجاب لطرائقهم في القراءة الدقيقة المتفحصة التي كانوا يروجون لها, فهل يكون الزمان الرديء وتراجع الطلب على الشعر في السوق مسؤولين عن ضمور العلاقة النقدية بين المؤسسة الأكاديمية وجمهور المتعلمين؟لقد  بلغ تراجع الشعر والنقد المصاحب له".

 

 

 


وفي تقديمه للأعمال الشعرية الكاملة للشاعر "آرثر رامبو" يقول المترجم "رفعت سلام" "انه بالتحديد – الخروج على النمط و"الانماط" دون استهداف تأسيس نمط جديد حتى لو كان خروجه الشعري قد أصبح مع الأجيال التالية "نمطاً" شعرياً انه الطموح الى التحرر من كل نمطية في ذاتها نمطية قائمة أو قادمة. هو الخروج الشعري على السياق, وكل سياق دون سياق, قفزة ضارية بلا حسابات في اتجاه أفق لا مرئي لا محسوس"..  ويتكيء الراحل "الفاتح الجزولي" على مفردة تطمح الى التحرر "الطموح الى التحرر من كل نمطية, وله في هذه المدرسة أصدقاء صدق كثر:
"أنا لست أستاذ أحد
انني تلميذ خاطرتي فقط
قد جئت من صلب قصيدة
ونشأت في قلب قصيدة
فأتاني الشعر سراً
مدني سراً بسر
لم أبح بالسر قط"
هذه اللوحة المكتملة لحياة الشعر من حياة الشاعر بمقولة "جيل بلا أساتذة" "انني تلميذ خاطرتي – أنا لست أستاذ أحد" يعثر الشاعر على ذاته الشاعرة, ويخرج بموهبته العالية "نشأت في قلب قصيدة" هذه النشأة تلتصق بالوجدان والشفافية العالية "فأتاني الشعر سراً – لم أبح بالسر قط" السر الشعري لا يبوح به صاحبه, بل يحسه ويعايشه ويكابده ويصارعه, وأحياناً يطرد قصيدته المكتملة كي يبحث عن قصيدة غائبة عنه أبياتها, مقيمة في نفسه رؤيتها – "السر" في الغموض والروح الشفافية يمثل المعادل الموضوعي, للبشارة اللا مرئي, صورة الانسان في مرآة الانسانية, صورة التوحش،  والأنانية المقيتة والسبب في  الهروب المبكر،  من المأساة الى فصول الإعادة بالتهرب من المصير. والفاصلة الأولى في رفض كل ما يفرض على الانسان من فصول يقول عنها "رامبو":
"انتهزت الفرصة لجأت الى الأرياف الضاحكة تاركاً خلفي كل ذكرى, مبتعداً عن الدراسة ومتحرراً من كل هم"
ويقول الفاتح الجزولي:
"أنا لست أستاذ أحد
انني تلميذ أشواق فقط
قد كتبت الشعر من وصف ومن خوف
ومن توق ومن شوق ومن غبن
ومن حزن هو ابني
لا سليل المارقين"
الشعر, وصف, خوف, توق, شوق, غبن, حزن وهو المنسوب الى شاعره, نسباً لا فكاك منه "الابن":
أنا لست أستاذ أحد
انني تلميذ أشعاري
الخوف بين جوانحي تقوى
ومثواي التراب"
المناداة بالشعر الذي يقوده الشعر خوفاً وتقوى والمثوى التراب, لا يرسله الشاعر ناعياً لشعره أو نفسه بأن الشعر "خوف وتوق وشوق" ومن يرفضه يقوده "غبن" فيصيب الروح بالحزن. يعتصم "الفاتح" بمترادفاته كاحتفاظه بنظم حياة الشاعر في معلقته الخاصة حيث غياب الحبيبة "الوصف" وتغييبها "توق وشوق, غبن وحزن".
تلميذ من؟
لا تفحص أدوات النقد, المدارس الشعرية السودانية لغياب الرؤية الجامعة التي من خلالها يمكن التصنيف, بأن هذا من مدرسة محمد سعيد العباسي, وهؤلاء تلاميذ للشاعر مصطفى سند, هذا يقلد محي الدين فارس وغياب الآلية التي من خلالها قراءة القول الشعري قد ترتاد آفاقاً لا يريدها كاتب هذه السطور حتى "يشب في حلقه الشبابة" و"الشبابة" هم الأقرب "للسبابة" في الأسواق الذين يدخلون بين المشتري والبائع و"الجزولي" يقف في الرؤية متحدياً إلا أن اللونية الخاصة قد تشمل روح التأثر بمجمل حركة الشعر العربي الحديث وان كان صوته الانساني الأقرب لأستاذ الأجيال الشعرية التي لم تمتلك ناصية اللغة والمعرفة , وقادتها القراءة، والموهبة للتجاوز, هو أقرب "لشابو" وألصق "بمحمد نجيب" وله نسيج وحده عصي على التصنيف وقريب من نجيب  ومن روح التمرد..
أحبك
"أيها المسكون بالجن المهاب
وهتفت في جمهوري أيامي طويلاً
ونحت رسمك فوق بابي
ففرحت – بالحزن – انبهارا
وهتفت في الغادين – بالعشق
آسارى
وفي الناجين من ضيم الترحل
أحبك اذ أحب أزاهراً
ينعت بروحي"
الحب, الجن, النحت, الجمهور, الأيام, الفرح, الحزن, العشق, الأسري, النجاة, الضيم, الأزاهر, الروح. يقول "رامبو" في "ابتهال الى فينوس" "هي أنت التي تبذرين عند البحار والينابيع والجبال, والغبات المأهولة بالأعشاش والقرى الخضراء, الحب الغالي والقوي في قلب الجميع".
"مجنون.. أنا
هل أنا حقاً كذلك
اقتفي أثر الشوارد من حروفي
أو أنادي الجن من أقصى الممالك
فوق رأسي عشعش الوسواس عمداً
حين انسدت بدرب العشق أبواب
المسالك
واستجار الجن بالرمضاء من عشقي
 وألقاني بجمر الحزن
فأرتدت المهالك"
سؤال "الجن" من العاقل "مجنون أنا" هو سؤال القلب الى القلب الغائب "فوق رأسي عشعش الوسواس – عمداً" انسداد الطريق يمهد الى حالة متأرجحة في سؤال الحب "استجار الجن بالرمضاء من عشقي" هنا ينفي الشاعر عن نفسه سؤاله "مجنون أنا" وفي قصيدته "نزيف الحاء والباء" يقول الراحل "حلمي سالم" "الحبابون غفورون.
فلا بأس على العشاق ولا بأس علي
يقينك كان عروق يدي
وحلمك شجاي المردود الي
تقولين: أنا المتهمة بمجازك
أنت المتهم بعيني"
وفي قصيدته "رحل ولم يعد" يقول الفاتح الجزولي
أين
كنت سخياً – ندي القلب
وكنت نديمي طول الدرب
سديد الرأي مديد القامة
فصيح الحرف. مبين الوصف
عليك بكيت
ذرفت الشعر حكيت
وخفت هجير الليل"
كان الشاعر الراحل الفاتح الجزولي "فصيح الحرف. مبين الوصف" وأنا غاب بغتة, فذرف الشعر عليه الدموع والشعر كثيراً ما يبكي صاحبه , وفي رواية أخرى "مغنيه".
المراجع:
1-ديوان – أعلى قمم الحب – الفاتح الجزولي – دار علاءالدين للنشر – دمشق – دار ساقنا للنشر – الخرطوم – العام 1997م.
2-الأعمال الكاملة للشاعر "حلمي سالم" – الجزء الثاني – الهيئة العامة لقصور الثقافة 2014م طبعة أولى.
3-موت الناقد – رونالد  ماكدونالد – ترجمة فخري صالح – المركز القومي للترجمة – مصر – 2014م – طبعة أولى.
4-الأعمال الشعرية الكاملة – آرثر رامبو – ترجمة وتقديم رفعت سلام – الهيئة المصرية العامة – وزارة الثقافة 2012م.