الصدق والكذب : من لغة الأخلاق إلى لغة الشعـر في كتاب " منهاج البلغاء وسراج الأدباء"

الصدق والكذب : من لغة الأخلاق إلى لغة الشعـر في كتاب " منهاج البلغاء وسراج الأدباء" لحازم القرطاجني إدريس زايدي... المغرب تقديم من الحقائق المقررة أن الحياة الثقافية والعلمية عند العرب نشأت وتطورت في ظل الإيمان بالقرآن كتاباً ينظم حياة الناس

الصدق والكذب : من لغة الأخلاق إلى لغة الشعـر في كتاب

الصدق والكذب : من لغة الأخلاق إلى لغة الشعـر في كتاب  " منهاج البلغاء وسراج الأدباء"
                                لحازم القرطاجني

إدريس زايدي... المغرب

 

                      
تقديم
من الحقائق المقررة أن الحياة الثقافية والعلمية عند العرب نشأت وتطورت في ظل الإيمان بالقرآن كتاباً ينظم حياة الناس . وانطلاقا من هذه الحقيقة كانت حركة العرب في فهم الشعر ونقده جزءًا من اجتهاداتهم العلمية في سبيل فهم النص القرآني كأحكام تأمر بالمعروف ،وتنهى عن المنكر.لذلك كانت قضية الصدق والكذب في نقد الشعر العربي ، حتى زمن حازم القرطاجني ، أمرا يفرض حضوره بشكل ظاهر أو خفي. وفي هذا العرض الموجز،نرى أن نعرض لعلاقة قضية الصدق والكذب بالثقافة العربية ،التي اعتمدت على الدرس اللغوي والفقهي ،كحارس لقيم الأمة الإسلامية ، وضابط للموروث الشعري الذي يحمل تلك القيم ،دون أن يتجاوزها.ثم نحاول الكشف عما حققه التنظير النقدي للشعر عند حازم القرطاجني ، من خلال منهاجه الذي يعكس اهتماما بالمعنى في تحوله من لغة الأخلاق إلى لغة الشعر.
وسنجعل لعرضنا هذا محورين ، يضم كل واحد عنصرين ، أولهما الخلفية الثقافية ونقد الشعر في الدرس اللغوي وعلاقته بالقرآن ، لنتبين أثر السياقات الثقافية في الإبداع الشعري فيما بعد . ونتناول في المحور الثاني المعنى بين الصدق والكذب من خلال النظر إلى المعنى الشعري المحكوم بالصدق والكذب في شبه تغييب لدراسة عنصري المحاكاة والتخييل ، وذلك للوقوف على أثر هما الشعري في المتلقي .

1- الخلفية الثقافية ونقد الشعر
              أ‌- الدرس اللغوي والقرآن
   إن ارتباط المسلمين بالنص القرآني جعلهم يبدأون بما هو عملي قبل أن يصلوا إلى وضع منهج نظري.حيث اعتبروا قراءة القرآن عن طريق التلقي والعرض أسبق من تحديد منهج للقراءة. وكان التفسير بالأثر أسبق من التأويل. والفقه أسبق من الأصول. وفي هذا السياق ، تطورت الدراسة اللغوية عند العرب ، بحيث نراها تبدأ بما هو عملي من حيث جمع الألفاظ وضبطها ، ثم دراسة التراكيب اللغوية قبل الوصول إلى منهج عام في درس اللغة .
والحياة العلمية العربية لا تصح دراستها إلا من الداخل ، بمعنى أن معالم نشأتها وأسباب تطورها ، لا ينبغي أن تلتمس إلا من خلال الحياة العربية . فالنقد عند العرب تأثر بأجواء الفقه والكلام. وتأثر الفقه والكلام بعلم اللغة. كل ذلك داخل الحياة العقلية العربية ومن خلال المناخ العقلي العام الذي نشأ وتطور وتأصل في ظل القرآن ، فكان كل علم يتأثر بالعلوم الأخرى ، وليس بعلوم منسوبة إلى أرسطو وإلى اليونان في بداية الأمر.
ويرى كثير من الباحثين في تأريخ الدرس اللغوي أنه نشأ لحفظ القرآن من اللحن ، وتلك حقيقة لا يشك فيها أحد،لكنها غير كاملة لأنها لم تلتمس السبب الأهم والحقيق الذي هو السعي لفهم النص القرآني ، باعتباره مناط الأحكام التي تنتظم الحياة . والفرق كبير بين علم يسعى لفهم النص وعلم يسعى لحفظه من اللحن . ومحاولة الفهم هي التي حددت مسار المنهج لأنها ربطت درس اللغة والنقد الشعري بكل المحاولات التي تسعى لفهم النص . من هنا يمكن القول ،إن التأثر والتأثير يجب أن يُلتمسا في علوم العرب وعلى الأخص في الفقه والكلام.
ونجد كثيرا من الكتب تنبه على الصلة بين اللغة والدين،يقول السيوطي : » ولا شك أن علم اللغة من الدين ، لأنه من فروض الكفايات وبه تعرف معاني ألفاظ القرآن والسنة... « (1)
إنها حقيقة تثبت ارتباط العلماء بلغة ، هي لغة القرآن التي تمتد جذورها في عصور ما قبل الإسلام . اللغة العربية إذن لها قداسة ، وبالتالي كان الشعر الجاهلي الفصيح مقدسا . وهذا الإحساس الديني والوجداني باللغة، هو الذي كان يؤطر خلفية العلوم العربية بعد الإسلام ، لأن العربية كما يقول الثعالبي :"خير اللغات والألسنة والإقبال على تفهمها من الديانة ".(2)
وفي هذا السياق نشأ النقد العربي وتطور وارتبط بالشعر الجاهلي نموذجا ،لدرجةلم يستطع الشعراء والنقاد تجاوزه كنظام له قواعده السلطوية منذ المحاكمات الأولى التي كانت تعقد في الأسواق الشعرية الجاهلية. واستمرت هذه السلطة عبر التاريخ موجهة للشعر ، وفاصلة بين جيده ورديئه انطلاقا من رؤية لا تحكمها قيم الجمال الشعري التي تتأبى أن توضع في شروط خارج معنى الإبداع. وعن الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني نورد قصة طريفة حول جماعة جاءت تحتكم عند المهلب بن أبي صفرة حول أي الشاعرين أفضل ، أجرير أم الفرزدق ، يقول: » بينما المهلب ذات يوم أو ليلةٍ بفارس وهو يقاتل الأزارقة إذ سمع في عسكره جلبةً وصياحاً، فقال: ما هذا ؟ قالوا: جماعةٌ من العرب تحاكموا إليك في شيء. فأذن لهم فقالوا: إنا اختلفنا في جرير والفرزدق، فكل فريقٍ منا يزعم أن أحدهما أشعر من الآخر، وقد رضينا بحكم الأمير. فقال: كأنكم أردتم أن تعرضوني لهذين الكلبين فيمزقا جلدتي! لا أحكم بينهما، ولكني أدلكم على من يهون عليه سبال جرير وسبال الفرزدق، عليكم بالأزارقة، فإنهم قومٌ عربٌ يبصرون بالشعر. ويقولون فيه بالحق. فلما كان الغد خرج عبيدة بن هلال اليشكري ودعا إلى المبارزة، فخرج إليه رجل من عسكر المهلب كان لقطري صديقاً، فقال له: يا عبيدة، سألتك الله إلا أخبرتني عن شيء أسألك عنه. قال: سل. قال: أو تخبرني؟ قال: نعم إن كنت أعلمه. قال: أجريرٌ أشعر أم الفرزدق؟ قال: قبحك الله! أتركت القرآن والفقه وسألتني عن الشعر « (3). إن هذا النص يوضح موقف الأمير الذي وصف الشاعرين بالكلبين ، وموقف عبيدة الذي نهر في وجه السائل عن الشعر بدل القرآن والفقه . وما يهم في هذا القول هو الموقف الأخلاقي من الشعر ،والذي يقر بسلطة الدين في توجيه الأفهام والأذواق نحو ثقافة الصدق ، حتى أن الغلو إذا تجاوز حدود ما سطره الخيال اعتبره النقد مروقا بل كفرا ، كما نعرفه عن قول أبي نواس في مدح الخليفة:
وأخفت أهل الشرك حتى أنه * لتخافك النطف التي لم تخلق
كما أن صرامة هارون الرشيد في وجه أبي نواس لخير دليل على ما كان يعانيه الشاعر من تضييق، يقول :
دعانــي لذكر في الطلول مسـلط
                تضيق ذراعي أن أرد لـه أمــرا
فسمعا أمير المؤمنين وطـاعــة
          وإن كنت قد جشمتني مركبا وعـرا
إن مثل هذا الردع للشعراء لمن شأنه أن يوجه أهل النقد إلى اتخاذ مسارات تتوافق وسلطتي الدين والخليفة، وأن يُلتمس الشعر في اللفظ والمعنى أو الصدق والكذب أو السرقات... وكلها قضايا كانت عماد التنظير أو التطبيق عند النقاد ، وصولا إلى تحديد مقاييس عامة اصطلح عليها عمود الشعر العربي ،كما استوت عند المرزوقي، مرورا بالآمدي من خلال كتابه "الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري " والقاضي الجرجاني في كتابه " الوساطة بين المتنبي وخصومه".
         ب‌- أثر السياقات الثقافية في الإبداع الشعري
     إن تسرب بعض الأفكار اليونانية قد ساهمت ولو خجلا في بناء هذا النقد كما نجده عند قدامة وعبد القاهر الجرجاني وغيرهما ، ليتضح تأثير الفكر الأرسطي بشكل واضح عند حازم القرطاجني في القرن السابع متجاوزا بذلك ما جاء به سابقوه .
ولما كان التنظير النقدي للشعر يتطور في مراحله ، ويخلق معايير التمييز بين جيد الشعر ورديئه ، وجب الإشارة إلى أن العوامل المساعدة لم تكن بمعزل عن السياق الثقافي العربي المشدود إلى التراث الشعري ، كما حدده علم الكلام والفقه وعلوم اللغة من جهة ، وما واكب الطموحات الذاتية الكامنة في نوازع الشعر لدى الشعراء من جهة أخرى ، فكان للثقافة الفارسية أن تؤثر في كثير من الشعراء ، مما دفع الوجدان العربي المشبع بالنموذج الشعري الجاهلي أن يقف في وجه كل ما خالفه من أشعار. ولذلك تعرض أبو تمام وبشار بن برد وأبو نواس إلى المحاكمة من طرف هذا الوجدان ، فاعتُبروا مفسدين للشعر. مما سيوجه نقاد الشعر إلى وضع مقاييس لم تتجاوز الأحكام البلاغية الذوقية والانطباعية في عمومها ، لتستمر سلطة النموذج البنائي للقصيدة الجاهلية. ولذلك كان تطور النقد يعكس ثقافة المجتمع العامة في غياب الدراية الحقيقية بعملية الإبداع الشعري. وسار النقد في هذا المسار ، لا يتحول إلا من خلال تحول يعتبر طبيعيا في الثقافة العربية ومجالاتها ، مكتفيا بالتساؤل عن قضايا يتوارثها جيل بعد جيل ، كقضية اللفظ والمعنى وإشكالية الصدق والكذب والطبع والصنعة والسرقات الشعرية وغيرها من الظواهر المصاحبة لأخلاقيات نموذج القول الشعري الجاهلي بكل بنياته البلاغية والإيقاعية.. ولذلك كان النقد يلامس جوانب دون أخرى ما دام النص محكوما في بنياته ونسيجه بما يحفظ النموذج .
فكيف يمكن بعد هذا التوجيه العام للشعر - باعتباره ديوان العرب - أن تنفتح أبواب التأمل والتخييل كأساس للإبداع الذي يأبى أن يحاكَم بمقاييس خارجة عن مدار شعرية الشعر ؟

2-  المعنى الشعري بين الصدق والكذب
          أ‌- من الصدق والكذب إلى المحاكاة والتخييل
وقبل ولوج عالم حازم القرطاجني النقدي من خلال مؤلفه (منهاج البلغاء وسراج الأدباء )، لا بد أن نشير إلى ما أورده في مؤلفه:" وقد سلكت من التكلم في جميع ذلك مسلكا لم يسلكه أحد قبلي من أرباب هذه الصنعة لصعوبة مرامه ، وتوعر سبيل التوصل إليه، هذا على أنه روح الصنعة وعمدة البلاغة ، وعلى هذا جريت في أكثر ما تكلمت به فيما عدا هذا القسم من أقسام الكتاب ، فإني رأيت الناس لم يتكلموا إلا في بعض ظواهر ما اشتملت عليه تلك الصناعة ، فتجاوزت أنا تلك الظواهر بعد التكلم في جمل مقنعة مما تعلق بها ، إلى التكلم في كثير من خفايا هذه الصنعة ودقائقها... "(4). ويدل كلام حازم على أن المسار النقدي الذي سبقه لم يستوف دراسة كل القضايا والجوانب المرتبطة بعملية الإبداع الشعري ، مما يعني أن حازما اطلع على الإرث الثقافي العربي في المشرق والأندلس والمغرب ، وصهر كل ذلك في ما اكتسبه من الثقافة اليونانية ، وخاصة اطلاعه على كتاب »فن الشعر « لأرسطو حتى قيل عنه إنه أحسن من فهم أرسطو من النقاد والبلاغيين العرب. وفي مقارنته لخصائص الشعر العربي وموضوعاته في الوصف بالشعر الإغريقي في الملهاة والمأساة ،يقر بأفضلية الشعر العربي على اليوناني . ولو اطلع عليه أرسطو لصاغ قوانين أخرى إضافية ومهمة . يقول حازم: " ولو وجد هذا الحكيم أرسطو في شعر اليونانيين ما يوجد في شعر العرب....لزاد على ما وضع من القوانين الشعرية"(5)
ومن هذا المنطلق ، فإن إشكالية المعنى في علاقتها بالصدق والكذب ، قضية صاحبت مسار النقد العربي ،والتي لا يمكن أن نجد لها تفسيرا خارج الإطار اللغوي والفقهي عند المتكلمين ونقاد الشعر المتقدمين . وهذا الإحساس المتجدر في الوجدان أخَّر النظر في شعرية الكلام الشعري في عالم يعتبر التخييل ضربا من الخرافة والمحال ، ولم تكن الإشارة إليه شافية، وكان لحازم القرطاجني بعد قرون ،أن يطأ هذا الباب ويفصل القول في المعاني ،باعتبارها سابقة على المباني ، وأن ليس لنا أن نحكم عليها بالصدق أو الكذب إلا بمقدار الفاعلية النفسية لكل من الشاعر والمتلقي.
فحازم في الواقع ألف كتابه من خلال فكرته في اللفظ والمعنى ،وعنها تفرع الحديث في قضايا الصدق والكذب ليجد في المحاكاة والتخييل مجالا أرحب لعرض آرائه . وهو الموضوع الذي استأثر باهتمام الباحثين والنقاد رغم المدة القصيرة التي تفصلهم عن الاطلاع على الكتاب بعد أن حققه محمد الحبيب بن الخوجة. ورغم سقوط بعض الأجزاء منه ، فقد أفاد النقد العربي في إبراز الهم الثقافي والمنهجي الذي كان وراء رغبة حازم في تجاوز الضياع والاغتراب الَّلذين عرفهما في عصر اتسم فيه الشعر والنقد بالقصور والانحطاط في المشرق والمغرب. ولو ظهر الكتاب مباشرة بعد قدامة بن جعفر والآمدي ، لكان له فضل كبير في مسار النقد العربي، واتخذ النقد مسارا آخر.
لقد فصل عبد القاهر الجرجاني المعاني في نظرية النظم ، جاعلا منها نوعين : ما يتوصل إليها بدلالة اللفظ وحده ، وما يتوصل إليها بدلالة اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه ، ويكون لذلك المعنى دلالة ثانية ، وهو ما يستفاد من المجاز والاستعارة والكناية والتمثيل ،وهو ما يعنيه بمعنى المعنى، أي : " أن تعقل من اللفظ معنى ، ثم يفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر هو المراد " (6) ، وفي هذا التوجه استحضارٌ لعملية التخييل التي تعتبر عماد الشعر عند حازم القرطاجني ، حيث قسم المعاني الشعرية إلى أُول وثوان .المنهاج ص 133 ، وفي هذا التقسيم ما يدل على سعة اطلاعه على الموروث النقدي العربي ومفاهيمه .
إن إشكالية المعنى قضية اهتم بها النقاد القدامى ، ليستمر حضورها عند حازم القرطاجني ، لكن من منطلق مغاير، بحيث يربط الشعر بالمحاكاة والتخييل بدل الصدق والكذب . وأن ما ذهب إليه السابقون ناتج عن الفهم السيء وعن التصورات الخاطئة في التعامل مع الشعر كعملية إبداعية لا تدرك شعريته إلا عن طريق الحدس قبل أن يخضع الإدراك لمقاييس الآلة النقدية.
ولقد أورد ابن سينا تعريفا للتخييل: "إنه انفعال من تعجب أو تعظيم أو تهوين أو تصغير أو غم أو نشاط "(7) وقال في توضيح العلاقة بين الكذب والخيال :"إن عادة الكذب والأفكار الفاسدة تجعل الخيال ردئ الحركات غير مطاوع لسداد المنطق. بل حاله حال خيال من فسد مزاجه إلى تشويش. فلذلك لا يصح في الأكثر رؤيا الشاعر والكذاب والسكران والمريض والمغموم ومن غلب عليه سوء مزاج أو فكر "(8) . ومثل هذا التصور الذي يجعل من التخييل الشعري عملية مشوبة بالشك والريبة والكذب والإيهام سيجعل حازما القرطاجني يعتبر الشعر عملا تخييليا بالدرجة الأولى . وكونه كذلك ، لا ينبغي إجهاد النفس في البحث عن صدق أو كذب أقاويله ، وأن مثل هذا الاهتمام يدل على سوء فهم طبيعة الشعر، يقول : " وإنما غلظ في هذا- فظن أن الأقاويل الشعرية لا تكون إلا كاذبة – قوم من المتكلمين لم يكن لهم علم بالشعر ، لا من جهة مزاولته ، ولا من جهة الطرق الموصلة إلى معرفته. ولا معرج على ما يقوله في الشيء من لا يعرفه، ولا التفات إلى رأيه فيه. فإنما يطلب الشيء من أهله ، وإنما يقبل رأي المرء فيما يعرفه.وليس هذا جرحة للمتكلمين ولا قدحا في صناعتهم ، فإن تكليفهم بأن يعلموا من طريقتهم ما ليس منها شطط" (9)
              ب - أثر التخييل الشعري في المتلقي
إن الشعر عند حازم كلام مخيل هدفه الأساس هو التأثير في نفسية المتلقي. ولذلك " كان الصحيح في الشعر أن مقدماته تكون صادقة وتكون كاذبة. وليس يعد شعرا من حيث هو صدق ولا من حيث هو كذب ، بل من حيث هو كلام مخيل "(10) . وما دام الشعر كلاما مخيلا يستلهم مقولاته من عملية التخييل فلا يهم حازما إلا تحقيق هدفه الأسمى المتجلي في التأثير النفسي ، إذ "التخييل هو المعتبر في صناعته ، لا كون الأقاويل صادقة أو كاذبة" (11) .
إن حازم يتصور الشعر على أنه كلام مخيل . ولا ينبغي أن يتوهم القارئ بأنه قد اتخذ موقفا نهائيا من قضية الصدق والكذب. وإنما الأمر ليس كذلك ، إذ في الوقت الذي يوضع فيه حازم في موضع الاختيار بين الأقاويل الصادقة والأقاويل الكاذبة ، نجده يميل إلى الاهتمام بالأقاويل الصادقة لأنها في نظره أكثر تأثيرا في نفوس المستمعين. أما الأقاويل الكاذبة فلا تكون مقبولة إلا إذا كانت خفية : "وليست تحرك الأقاويل الكاذبة إلا حيث يكون في الكذب بعض خفاء أو حيث يحمل النفس شدة ولعها بكلام لفرط ما أبدع فيه ، على الانقياد لمقتضاه وإن كان مما يكون ولا يصدق الخاص عليه. ومع هذا فتحريكها دون تحريك الأقاويل الصادقة إذا تساوى فيهما الخيال وما يعضده مما داخل الكلام وخارجه. فتحريك الصادقة عام فيها قوي ، وتحريك الكاذبة خاص فيها ضعيف. وما عم التحريك فيه وقوي كان أخلق بأن يجعل عمدة في الاستعمال حيث يتأتّى "(12)
إن ميل حازم القرطاجني إلى الصدق في الشعر ، هو رد على الفقهاء والمتكلمين الذين أسرفوا في الحط من قيمة الشعر عند مقارنته بالقرآن أو تنـزيه الرسول) ص (من قوله . كما أن هذا التوجه الذي سلكه حازم ليس في الحقيقة سوى تكريس لخطى فلاسفة عصره الذين كانوا يلحون على أن المقدمات الشعرية لا تكتسب مشروعيتها إلا إذا كانت مستندة إلى أحكام العقل . وهو بذلك يقف بين الفلسفة العقلانية وبين الوجدان الفقهي والديني ، حتى يضمن لتنظيره للشعر موقف الاعتدال في جعل عملية الإبداع الشعري مشتركة بين الشاعر والمتلقي ، ويجعل من الخيال عماد نظريته في المحاكاة.
والواقع لو التفت حازم إلى التجربة الصوفية في تعاملها مع الخيال لارتقى بالعملية النقدية في عصره إلى مستوى آخر . يقول محمود القاسم : "إن هؤلاء الذين يصفون الخيال بأنه خيال فاسد لا يدركون حقيقته. ذلك أن الخيال إذا أدرك شيئا فإنما يدركه بنوره. والنور لا يخطئ في كشفه عن الأشياء. فإذا كان هناك خطأ فلا بد أن يكون لسبب آخر . إذ الخطأ وليد الحكم ، والخيال لا يصدر حكما ، بل هو نور يكشف ستار الظلمة الذي يحجب الأشياء. إذن يجب أن ينسب الخطأ إلى القوة التي تصدر الحكم وهي العقل. وإذا كان الحكم لغير الخيال فلأي داع ننسب الخطأ أو الفساد إليه؟ إنه من الأولى أن يقال : أخطأ العقل في فهم ما كشف الخيال عنه حتى لا ينسحب الحكم بالخطإ والفساد إلى الخيال وهو برئ منه "(13). إن الخيال الخصب هو مصدر المعرفة في نظر المتصوفة ،فهو نور يضيء لصاحبه معالم الطريق ، ويمكنه من هتك حجب السماء لاستلهام المعارف النورانية التي تتحدى حدود الزمان والمكان ، وتؤسس وحدة وجودية موحدة . وليس للتخييل غير فضيلة تشكيل الأشياء عن طريق تحويل الواقع المرئي إلى صور ذهنية لتتجلى في الشعر صورة فنية مؤثرة. هكذا يكون الخيال تنويعا للمحاكاة ، يستمد قوته من القدرة الإلهية عند ابن عربي: " فليس للقدرة الإلهية فيما أوجدته أعظم وجوداً من الخيال فبه ظهرت القدرة الإلهية والاقتدار الإلهي وبه كتب على نفسه الرحمة وأمثال ذلك وأوجب عموماً وهو حضرة المجلى الإلهي في القيامة وفي الاعتقادات فهو أعظم شعائر اللّه على اللّه ومن قوة حكم سلطانه ما تثبته الحكماء مع كونهم لا يعلمون ما قالوه ولا يوفونه حقه وذلك أن الخيال وإن كان من الطبيعة فله سلطان عظيم على الطبيعة بما أيده الله من القوة الإلهية " (14)
ولذلك سعى بعض الشعراء إلى إبراز مواقفهم من قضية الصدق والكذب في الشعر ، وجعلوا من التخييل في العملية الشعرية أساسا ، من ذلك ما أورده ابن خفاجة في مقدمة ديوانه: " إنه يستجاز في صناعة الشعر ، لا في صناعة النثر ، أن يقول القائل فيه إني فعل وإني فعلت من غير أن يكون وراء ذلك حقيقة ، فإن الشعر مآخذ وطريقة ،وإذا كان القصد فيه التخييل ، فليس القصد فيه الصدق، ولا يعاب فيه الكذب ، ولكل مقام مقال " (15)
والناظر في المنهاج يكشف أن حازما لم يتخلص من تفضيله الصدق على الكذب ، وذلك من وجهة صدق المعاني . لأن صدق المعنى عنده يحرك النفوس وهي غاية الشعر .
خاتمـــة
إن قراءة عاجلة لمنهاج حازم القرطاجني لا يمكن أن تقدم حقيقة شافية لما جاء فيه. فالكتاب رغم بتره ، يحتاج إلى فك كثير من عباراته. وليست الإضاءات والتنويرات إلا دليل على شعور حازم بعمق ما يريد أن يبلغه للقارئ عن طبيعة الشعر ، وعن كيف تتشكل المعاني والصور الشعرية بمنأى عن قضية الصدق أو الكذب كحقيقة أخلاقية لا يستحضرها الوعي الشعري وقت الإبداع. وفضيلة حازم أنه نبه إلى قضية ظلت مسكوتا عنها ، وتعتبر جوهر العمل الشعري التي نقلت الكلام من لغة الأخلاق إلى لغة الشعر.
             * إدريس زايدي

المراجع
ــــــــــــ
1-  السيوطي ، المزهر- ج2 ص30
2- أبو منصور الثعالبي النيسابوري ،فقه اللغة وسر العربية
3-  الأصبهاني ، الأغاني ص 823
4- حازم القرطاجني – منهاج البلغاء وسراج الأدباء ص 18
5- نفسه ص69
6- عبد القاهرالجرجاني – دلائل الإعجاز ص 263
7-  ابن سينا ، كتاب المجموع ص15
8- نفسه ، ص 175
9- المنهاج ص337
10- نفسه ص 165
11- نفسه ص 171
12- نفسه ص82
13-  محمود القاسم ، الخيال في مذهب ابن عربي .ص8- 9
14-  ابن عربي ، الفتوحات المكية-ج3ص518
15-  ابن خفاجة ديوان ابن خفاجة ص10/11