خريف الوهم الجميل..

خريف الوهم الجميل.. اسيا رحاحلية الخريف يعبّق الأجواء برائحة التربة و الطبشور و الكراريس ..أشجار الكالتوس الشاهقة المنتصبة على جنبات الطرق تنتفض , فتمطر السماءمو  أوراقا شقّقها الجفاف و شابها الاصفرار , تلهو بها الرياح قليلا ثم تكدّسها أمام البيوت و الحوانيت و على حوافّ الأرصفة .. لأوّل مرّة , يطلّ الخريف بوجه مغاير على المدينة الصغيرة الرّابضة في سكون تحت سفح الجبل . ستفتح الثانوية أبوابها هذه السنة.. ياله من خبر ! أخيرا سيرتاح الأولي

خريف الوهم الجميل..

خريف الوهم الجميل..


اسيا رحاحلية


الخريف يعبّق الأجواء برائحة التربة و الطبشور و الكراريس ..أشجار الكالتوس الشاهقة المنتصبة على جنبات الطرق تنتفض , فتمطر السماءمو  أوراقا شقّقها الجفاف و شابها الاصفرار , تلهو بها الرياح قليلا ثم تكدّسها أمام البيوت و الحوانيت و على حوافّ الأرصفة ..
لأوّل مرّة , يطلّ الخريف بوجه مغاير على المدينة الصغيرة الرّابضة في سكون تحت سفح الجبل .
ستفتح الثانوية أبوابها هذه السنة..
ياله من خبر ! أخيرا سيرتاح الأولياء من مشقّة تسفير أبنائهم الناجحين إلى المدينة الساحلية الكبيرة التي تبعد مئات الكيلومترات ..
كم كان الأمر مرهقا و مُكْلفا و كم أتى على أعصابهم و ما ادّخروه من دراهم !
حفّت بالجميع مشاعر الارتياح و الفرح و الترقّب و ما أن انطلقت أولى أيام الدراسة حتى سرى دفء الحياة في شرايين الطرقات و الأزقّة و انتعشت دكاكين بيع الحلوى و الشكولاطة و السجائر , و امتلأت صدور الفتيات - خاصة - بالبهجة لتمكّنهنّ من تنسّم عبير الحرية بعيدا عن أسوار المنازل و مطالب الأمّهات .
ما تزال بعض الأشغال عالقة .. المخابر و المطعم و الملعب، غير أنّ معظم القاعات أصبحت على أهبة الاستعداد لاستقبال التلاميذ رغم أنّ أجهزة التدفئة لا تعمل.
إنّما لسوء الحظ حلّ الخريف باردا جدا في ذلك الموسم من أواخر السبعينيات .
صباحٌ غائمٌ و الشمس لا يبدو أنها قرّرت طبع قبلتها الحانية على وجه الكون ..
ساحة الثانوية تعجّ بالضجيج و الهمهمة و دفق الصبا المتوقّد .التلاميذ يقفون في مجموعات متفرّقة يتدفئون بالثرثرة و النّكات قبل أن يدقّ جرس البدء فيصطفّون بانتظام أمام الحجرات .
أول حصة في اللغة الفرنسية . الأستاذ فرنسي , من باريس تحديدا... في تلك الحقبة كانت البلاد تنتدب إطارات من تونس و ليبيا و مصر و العراق , و من فرنسا أيضا من أجل التكفّل بالتدريس في الثانويات و الجامعات .
جلس التلاميذ صامتين , حذرين , مبحلقين في الأستاذ الذي بدا صغير السن كأنّه طالب جامعي . كان طويل القامة , متناسق الجسم , عيناه صغيرتان زرقاوان و شعره أشقر و ناعم كشعر الأطفال في صور الإعلانات , تتناثر بعض خصلاته فوق جبينه في غير ترتيب فتجعل التناقض واضحا بين وجهه الطفولي و جسده القوي .. كان ودودا جدا و لطيفا و أنيقا , و عطره منعشا, قويا , مميّزا , يضوع من حركاته و لباسه و يديه .. و يسابق خطواته .
فريدة تجلس في الصف الأول قبالة المكتب تماما , يلمع بريق الذكاء في عينيها العسليّتين و فوق جبينها الصغير ترتسم معاني الإصرار و التّحدّي .. إلى جانبها صبية طويلة , ممتلئة الجسم واسعة الفم منتفخة الخدّين, ضيّقة الجبين  ما جعل وجهها يبدو كإجّاصة كبيرة .
/ مسيو جيل / يذرع القاعة جيئة و ذهابا ..يحدّثهم بحميمية و تأنٍ , بفرنسية بسيطة مفهومة , عن قيمة الدراسة و التفوّق و عن أهميّة الشعبة التي اختاروها.
- الآداب ..و بأكثر من لغة ! ..جميل جدا..لا تستخفّوا أبدا بهذه الشعبة .. الكثير من العظماء الذين بصموا التاريخ كانوا رجال أدب . و لكن لنتّفق من الآن.. عليكم بالمطالعة .. يجب أن تقرؤوا كثيرا ..اقرءوا الشعر و الرواية ..و المسرح ..و الفلسفة و التاريخ . سوف يكون ضمن برنامجنا هذه السنة دراسة بعض الأعمال الأدبية .ستعملون في مجموعات نحدّدها لاحقا .
ثم يسألهم وهو يستند على المكتب بكلتا يديه و ينحني بجسده فيسافر عطره في أرجاء القاعة :
- أخبروني هل تقرؤون باللغة الفرنسية ؟ أعطوني بعض الأسماء مثلا ؟
يلوذ الجميع بالصمت ..بعضهم لأنه لا يقرأ لا بالفرنسية و لا بالعربية , و بعضهم يمنعه الخجل من الحديث في حضرة هذا الباريسي الأنيق و آخرون لا يفكّرون سوى في نهاية الحصة لتبدأ حصة الرياضة !
و لكن صوت رخيم يقطع السكون بفرنسية سليمة جدا :
- أستاذ .. أنا عندي مجموعة كتب ل / بالزاك / ..
يلتفت الجميع نحو مصدر الصوت . فتاة جميلة .. بشرتها شديدة السمرة .. عيناها سوداوان واسعتان و شعرها أسود خفيف و شفتاها مكتنزتان . اسمها نعيمة ..ربطتها بفريدة بعد ذلك صداقة لمدة أسابيع ..قاسمتها الطاولة الأولى , لأيام فقط , قبل أن تتراجع إلى المقاعد الخلفية معتذرةً بقولها " عزيزتي فريدة أحبك كثيرا لكني لا أستطيع أن أجلس معك..الصفوف الأمامية للنجباء المطيعين .. أنت مهذبة جدا و صامتة و أنا أحب التهريج ! "
" يبدو أنها فتاة ذكية و سوف تنافسني ..أكيد ." تفكّر فريدة قبل أن تهمس في أذن زميلتها و هي تسمع مسيو جيل يكيل المديح لنعيمة :
- ماذا كان اسم الكاتب الذي ذكرته تلك السمراء هناك ؟
- باز ..بال ..بالزاك ..على ما أعتقد .
تتمتم صاحبة وجه الإجاصة .
الإسم غريب . لم يمر بفريدة قبل اليوم . لم تلاحظه في كتب ابن خالها الذي كانت تعتبره أكبر مثقفي العائلة ..فقد سافر كثيرا و اقتنى كتبا عديدة كانت تجد متعة في تصفّحها بفضول كلّما زارته في بيته .
دارت عجلة الدراسة بسرعة أكثر , و مرّت الأيام بسيطة و سهلة كأحلام المجانين , حلوة , بريئة و صادقة كعيون الأطفال . و ازداد تعلّق التلميذات بمسيو جيل . لم يكن لهن حديثٌ إلا عنه . عن أناقته و عطره و لكنته الفرنسية الجميلة ..عن طريقة كلامه و مشيته و رشاقة حركاته و أنامله الطويلة النحيلة كأنامل " بيانيست ".. عن ثقافته و تأدّبه و حسن تعامله مع الجميع ..
و كانت كل واحدة تسعى لكسب اهتمامه و إثارة انتباهه .. فريدة تريد أن تبهره بتفوقها و تميّزها .. نعيمة لا تفتأ تأتيه كل مرّة باسم كاتب جديد لا يدري أحد أين تعثر عليه , سميرة لا تتردّد في مسح السبّورة سواء طلب منها ذلك أم لم يطلبه , وردة تبادره في بداية كل حصّة بنفس العبارة كأنّها ببّغاء مدرّبة " أستاذ ..والدي يبلّغك سلامه " - والد وردة أستاذ انجليزية في المتوسطة -
و أيضا نجاة.. و سعاد ..و فوزية...و لمياء ...و..و.. كلهن وقعن في غرامه .
و هكذا تقضي الصبايا الصغيرات لياليهن في أحضان الأوهام .. يطير بهنّ الخيال إلى أراضيه النديّة الفسيحة حيث كل شيء ممكنا و حيث ال"مستحيل " لفظة منقرضة , و يستيقظن صباحا على صراخ الواقع فيهرعن إلى الثانوية يسابقن الطموح و الحلم و الأوهام .
و انتبه الفتيان في القسم إلى ولع الفتيات بمسيو جيل فلم يتوانوا في ابتكار أساليبَ شيطانية من أجل إثارة الفوضى ونرفزة الأستاذ و تحطيم أعصابه فيحمرّ وجهه و تبرز عيناه و يبدأ في لعن اليوم الذي قدم فيه إلى الجزائر.. عندها ينظر الفتيان إلى الفتيات و لسان حالهم يقول : أرأيتن كم هو عصبيّ و شرّير و غير مهذّب هذا الملاك الذي تعشقن ؟
في يوم غيّرت فريدة مكان جلوسها .لم يفت ذلك مسيو جيل :
- ما بك .. (فغيدة )..؟ لمّ غيّرتِ مكانك اليوم ؟
- مريضة يا أستاذ .
يحدّق مسيو جيل مليّا في وجه فريدة قبل أن يدير لها ظهره .
- أخشى أنّه مرض الوهم يا صغيرة . انتبهي للدرس .
أطرقت فريدة و أخفضت رأسها مخافة أن تفضحها حمرة نارية داهمت وجهها الجميل .
ترى ..ما الذي يقصده بمرض الوهم ؟
تبتسم في خجل.. إنه يهتم لي..لو لم يكن يهتم لما انتبه أنّي غيّرت مكاني و لما سألني ما بي !
 منذ أيام تغيّبت فوزية ليومين و لم يسأل عنها .
في ذلك اليوم قسّم مسيو جيل التلاميذ إلى مجموعات و وزّع عليهم كتبا قصصية متفاوتة الحجم أحضرها معه . كان من نصيب مجموعة فريدة قصة جرمينال ل / إميل زولا / ..كان عليهم تحضير ملخّص عنها و عن الكاتب .لم يكن الأمر يسيرا و لكن حب اللغة و الرغبة في إرضاء الأستاذ جعل الكل يعمل بجدّ .. و استعانت فريدة بابن خالتها و بقاموس قديم رثّ استلفته من إحدى المكتبات .
و في يوم تقديم بحث مجموعة فريدة كان الجميع نشطا متحمسا و الحركة غير عادية داخل حجرة الدرس ..
و لكن مرّ من الوقت عشر دقائق و لم يظهر مسيو جيل .. و دخل مدير الثانوية و برفقته أستاذ مسنٌ قليلا , في ملامحه قسوة , لحيته كثّة و يضع نظارات طبية سميكة ..
- قفوا يا أولاد . قدّموا التحيّة لأستاذكم الجديد .
ارتسمت الحيرة على الوجوه و لم يفهم أحد ما يجري ثم استجمعت تلميذة شجاعتها و سألت المدير عن مسيو جيل .
- لقد تم نقله إلى ثانوية الولاية . من اليوم سيدرّسكم / مسيو جون بيار / انتبهوا و احذروا التشويش و كونوا مهذبين معه .
و خرج المدير وكان الأستاذ الجديد يقول كلاما لكن فريدة لم تسمع شيئا .
نظرت إلى الخارج من خلال النافذة الزجاجية المستطيلة و شردت في لوحات الطبيعة و أشجار الكالتوس و... غامت سماء عينيها .
كانت تمطر و بدا أنّ الخريف أتمّ مهامه و حمل زاده من آمال المزارعين و أحلام القرويين و أوهام القلوب العذراء , و قَفَلَ مغادرا , مفسحا الطريق أمام موسمٍ شتويٍ رماديٍ كئيب, مودّعا المدينة الصغيرة الرابضة في سكون تحت سفح الجبل.