خارج المتاهة

خارج المتاهة محمد عتيق لا يأس لا إستسلام لا احباط كل جديد في واقعنا السوداني لا مثيل له في تاريخنا ، رغم ذلك نجد أن العاطفة في أحيان كثيرة هي التي تقودنا ، يتم اقتيادنا بأيد وخيوط ناعمة من الداخل والخارج أو من كليهما فنسير كما يراد لنا ومنا

خارج المتاهة

خارج المتاهة

محمد عتيق

   لا يأس لا إستسلام لا احباط

 

 

 

  كل جديد في واقعنا السوداني لا مثيل له في تاريخنا ، رغم ذلك نجد أن العاطفة في أحيان كثيرة هي التي تقودنا ، يتم اقتيادنا بأيد وخيوط ناعمة من الداخل والخارج أو من كليهما فنسير كما يراد لنا ومنا .. هذه الحالة وصلت ذروتها الآن ، ذروتها بمعنى اصطدامها بإرادة مضادة لا قبل لها بنوع قوتها .. في تفسير ذلك :
      انقلاب الجبهة الاسلاموية الذي حكمنا ثلاثين عاماً قدم لسجل الفساد في التاريخ الإنساني كله صورةً لم يشهدها ولن في الغالب ، وقدم في بورصات الفساد والاستبداد "مأثرةً" هزت أركانها وضربتها بالحيرة ... وعندما قرر الشعب حسم المعركة الممتدة وإسقاطه ، تقدم الجيل الجديد وخاض معركةً كتبت الخلود لنفسها إذ أصبحت مصدر الهام الانتفاضات والاحتجاجات الشعبية في كل مكان ومحل إعجاب العالمين ، ثورة وقودها "العزم" وسلاحها هو ببساطة "السلمية" حتى عند الفوز بأحد الاعداء القتلة أسيراً والمعركة في أشدها.. نوع جديد من الانتفاضات الشعبية في البلاد صاعدة بقوة إلى مراقي الثورة السودانية مرحلةً مفصليةً هامةً في مسارها ..
  برز اسم الدكتور حمدوك قمراً للثورة وفترتها الانتقالية ، الموقع كان شاغراً وهو لا يقبل الفراغ ، والتف السودان حوله كما لم يلتف من قبل ..
ثم برزت العقبات جبالاً شاهقة :
  •• لجنة البشير الأمنية ، لجنة أمن النظام الساقط فرض نفسه على المشهد بحجة انحيازها للثورة واسقاطها النظام ، فرض نفسه ، مجلساً عسكرياً انتقالياً ، توازن القوى/أو الضعف بين ذلك المجلس وقوى المعارضة السياسية (وليس شباب الثورة) فرض نوعاً من التفاوض نتج عنه مجلس سيادي مختلط وحكومة مدنية برئاسة حمدوك ..
  •• ثم القصة المعروفة عن استقدام رأس النظام في أيامه الأخيرة لمليشيا الجنجويد إلى الخرطوم واغداقه على رئيسها وجنودها بالرتب العسكرية كجزء من أمنه وانضم قائده للمجلس العسكري فالسيادي وبنفس حجة الانحياز والحماية، حاملاً معه طموحاً شاذاً يود التقدم على ضوئه إلى الأمام ، وراح يستقطب ويبني جيشه علناً ويبعث منه البعوث للتخصص في الطيران وغيره بعد أن بنى إمبراطورية مالية ضخمة من ثروات البلاد بوضع اليد وأسس بها الشركات والمشاريع ، دولة كاملة موازية للدولة وداخلها .. ولنفس أغراض "التوازن والاعتدال" أصبح رئيسها عضواً في المجلس السيادي وفرض نفسه نائباً لرئيسه ورئيساً للجنة الطوارئ الاقتصادية في البلاد ، وذهب يشتري الصحف والصحفيين والسياسيين ويؤلف القلوب ما استطاع إلى ذلك سبيلا ..
  •• ثم العدو المباشر ؛ فلول النظام الساقط وحلفاءه من الحركة الاسلاموية وأصناف من الانتهازيين ، لا زال قابضاً على مقاليد الخدمة المدنية  والعسكرية والأمنية ، في يده المال الوفير وأجهزة الإعلام وجيش من الإعلاميين إضافةً إلى سلاح الاسلام السياسي الصديء ، يعمل بمكر مستقوياً بضعف السلطات الانتقالية ..
  •• وعدو آخر أكثر خطورةً اسمه الشركات الامنية والاستثمارية التي تقوم بالوظائف الاقتصادية للدولة ، تستثمر في مقدرات البلاد وممتلكات الشعب ولكن لا علاقة للدولة بعائداتها لأنها تتبع للأجهزة النظامية (جيش ، شرطة ، أمن) ويبدو أنها تقاوم قرار إعادتها لمكانها الطبيعي في وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي ..
  •• ولأن السلام هو أساس كل بناء وتنمية ، ولأنه مسرح كل التحولات المطلوبة ، هو الأولوية التي ينشدها ويتغنى بها الجميع ، كان المأمول (كما كررنا كثيراً) أن يأتي الإخوة في الحركات المسلحة إلى أرض الوطن مباشرةً بعد سقوط النظام الذي قاتلوه جنباً إلى جنب مع تنظيمات شعبهم السياسية والمدنية .. سقط النظام بجهود الجميع ، والثورة ثورة الجميع ، لا تفاوض بين أبناء الثورة الواحدة ولا معنى أصلاً لمفاوضات اقتسام الثروة والسلطة ، يذهب الجميع إلى الأهل في معسكرات النزوح واللجوء ، يرفعون عنهم غبن السنين ولإصلاح أحوالهم وإعادتهم إلى قراهم الأصلية ومعالجة قضايا الأرض جذرياً ، يؤسسون المفوضيات ويقدرون التكاليف ، والمجتمع الدولي (الإنساني الحر) من خلفهم .. الخ ..الخ ، هذا هو عمل السلام وتأسيسه وليس اقتسام الثروة والسلطة ، ولا الاحاديث الغائمة عن استحقاقات السلام وتمثيل النساء والشباب فيما أسموه "مفاوضات السلام" في عواصم دول الجوار ..
  والأغرب أن تكون المفاوضات مع طرف واحد دون طرفين آخرين لهما ثقلهما وأثرهما البارز .. ويذهب الاتفاق مع هذا الطرف على إعادة فتح الوثيقة الدستورية لتضمين الاتفاقية التي تحتوي على تعديلات في مواد جوهرية في الوثيقة مثل المادة (٢٠) التي تنص على عدم جواز أن يترشح دستوريو الفترة الانتقالية في الانتخابات العامة القادمة .. ولأن السلام لن يكتمل بالاتفاق مع هذا الطرف بمفرده ، فلا بد من استكماله بالاتفاق مع الطرفين الآخرين ، وكل منهما سيأتي بعد لأي ليعيد فتح الوثائق والاتفاقات لتعديلاته وتنقضي الفترة الانتقالية لهثاً خلف سراب السلام الذي حقيقته معنا وبيننا ..
  •• والجبل الأكثر وعورةً وقسوة هو سؤال الحاضنة ، الحاضنة السياسية للحكومة .. تقدمت الأحزاب السياسية بكتلها المختلفة لقيادة الثورة ، ولا جدال في أن ذلك هو الوضع الطبيعي ، وافقت على حمدوك رئيساً للحكومة الانتقالية وذهبت ترشح له الوزراء وموظفي الخدمة العامة ، ولتكون مرجعيةً للحكومة وحاضنةً سياسيةً لها .. ورغم الشكوك في بعض الاسماء التي جاء بها حمدوك من تلقاء نفسه ، ورغم صور التردد والمهادنة التي تطبع عموم مواقفه وسياساته ، ظل الشعب وشباب الثورة يجزلون له الدعم والثقة حتى الأسبوع الماضي عندما تكررت وعوده التي يطلقها ويحدد تنفيذها بمواقيت ؛ يمر الميقات بعد الميقات خصماً من عمر الشعب والوطن ، والوعد إثر الوعد سحباً في سماء الثورة ، مصدومين بالطريقة التي أجرى بها التعديل الوزاري الذي رأوا فيها ممارسةً ديكتاتوريةً من الدرجة الأولى ، وإقالته لمن يعتقدون أنه الأكفا بين الوزراء وأكثرهم التصاقاً بهموم الشعب ومهما كانت المبررات ، الشئ الذي يرجح اندلاع صرع المصالح الطبقية الضيقة ويحدد موقف وموقع حمدوك فيها ..
      أصبح الهمس أصواتاً عالية في المنتديات ووسائل التواصل الاجتماعي ، كتابةً وتسجيلات صوتية ، كلها تتحدث عن اهتراء الأوضاع ، وتجمع على أن هنالك حاضنة أخرى للحكومة تعمل في الخفاء ، خيوطها وأصابعها من داخل وخارج الوطن تلتقي في رئاسة مجلس الوزراء ، هي التي تقود حقيقةً مواقف حمدوك وقراراته ، وأن هذه الحاضنة هي التي أوحت للناس أن يختاروا حمدوك رئيساً بوسائل ناعمة لم ينتبهوا لها ، اعتماداً على كتلة اصدقاء قدامى من السياسيين ، زملاء عهود سابقة في المراحل الدراسية والسياسة  وبتحالف لم يكن في الحسبان مع رجال أعمال بعضهم من أركان النظام الساقط وبارتباطات مع محاور إقليمية .. بينما "مركزية" قحت تبرز أعمال "لجنة التفكيك" لتتظاهر بها كدليل على قوتها ووحدتها !!

     بهذا الرصد العابر لا نقصد الانتقاص من أحد أو التشكيك ، ولا نتمنى للدكتور حمدوك الا التوفيق و"العبور" كما يقول ، ولكنه للتأكيد على أن شيئاً جديداً يحدث في السودان ، جيل جديد اعتلى المسرح السياسي الوطني ، وشعب تحصن تماماً ضد الإحباط والاستسلام ، جيل يقود شعبه للنصر ولا شيء غير النصر ، بإخلاص ومحبة فائقة لرفاقهم الشهداء والمفقودين والمصابين ، وعشق مجنون للوطن وللمستقبل ..