الرواية حينما يكتبها الشعر 

الرواية حينما يكتبها الشعر  الحسن محمد سعيد فضيلي جماع ،اسم ظل راسخا في ذهني منذ عام 1970 ،حينما تم اختياري ضمن مجموعة من الخريجين ،تم اختبارهم بعناية او بدون عنابة ،للإشراف على معسكرات الشباب التي نظمتها وزارة الشباب والرياضة والشؤون الاجتماعية والشؤون الدينية الوليدة وقتئذ،التي خلقتها ( مايو) بقيادة الدكتور منصور خالد وزيرا والاستاذ أحمد عبدالحليم وكيلا .. في ذات صباح سمعت الصديق صلاح محي الدين يتكلم عن شاب صغير ،فاز بجائزة الشعر ،التي نظمتها وزارة الشباب في ذاك الوقت .. كان حديث صلاح حديث مثقف واع ،يعي ما يتحدث عنه ..وقال في هذا الفتى اليافع ،اطيافا وفيرة من الثناء والتقدير .. حفظت الاسم غيبا ،ولم اره شخصيا في حياتي،ولكن ظل اسمه صديقا لي  ويا للغرابة ، من تقريظ صلاح محي الدين رحمه الله .. وبعد ذلك، قرأت له وعنه ،في فترات متباينة ومتباعدة ،اخرها مقال له عن ( حمدوك) يزكي فيه بشدة اختياره كرئيس للوزراء في الفترة الانتقالية بعد ثورة ديسمبر 2018 .. كان مقاله عن ( حمدوك ) مقنعا ومشحونا بالحيثيات التي تبرر نتيجة الحكم..فاعجبني .. واسعدني ان جاء اختيار ( حمدوك ) - وعلى حسب رؤية فضيلي جماع - فيه تكريم لأهل الهام

الرواية حينما يكتبها الشعر 

الرواية حينما يكتبها الشعر 


الحسن محمد سعيد

فضيلي جماع ،اسم ظل راسخا في ذهني منذ عام 1970 ،حينما تم اختياري ضمن مجموعة من الخريجين ،تم اختبارهم بعناية او بدون عنابة ،للإشراف على معسكرات الشباب التي نظمتها وزارة الشباب والرياضة والشؤون الاجتماعية والشؤون الدينية الوليدة وقتئذ،التي خلقتها ( مايو) بقيادة الدكتور منصور خالد وزيرا والاستاذ أحمد عبدالحليم وكيلا ..
في ذات صباح سمعت الصديق صلاح محي الدين يتكلم عن شاب صغير ،فاز بجائزة الشعر ،التي نظمتها وزارة الشباب في ذاك الوقت ..
كان حديث صلاح حديث مثقف واع ،يعي ما يتحدث عنه ..وقال في هذا الفتى اليافع ،اطيافا وفيرة من الثناء والتقدير ..
حفظت الاسم غيبا ،ولم اره شخصيا في حياتي،ولكن ظل اسمه صديقا لي  ويا للغرابة ، من تقريظ صلاح محي الدين رحمه الله ..
وبعد ذلك، قرأت له وعنه ،في فترات متباينة ومتباعدة ،اخرها مقال له عن ( حمدوك) يزكي فيه بشدة اختياره كرئيس للوزراء في الفترة الانتقالية بعد ثورة ديسمبر 2018 ..
كان مقاله عن ( حمدوك ) مقنعا ومشحونا بالحيثيات التي تبرر نتيجة الحكم..فاعجبني ..
واسعدني ان جاء اختيار ( حمدوك ) - وعلى حسب رؤية فضيلي جماع - فيه تكريم لأهل الهامش !!.. 
ولعل ( الهامش ) في نظر فضيلي جماع يمثل هاجسا يؤرقه ،ويراه ضمن مشاكل السودان الكبرى التي اضحت عصية على الحل .. 
وهذا في تقديري،هو مضمون روايته العظيمة ( هذه الضفاف تعرفني) ،التي صدرت طبعتها الثانية قبل ايام من هذا العام 2020 من دار مدارات للطباعة والنشر والتوزيع ..
اختار الكاتب ( ضمير المتكلم ) ليكون الشاعر في جوف فضيلي جماع هو ( الراوي العليم ) ،فتدهشنا العبارة الحلوة الأنيقة،ابتداء من عنوان الرواية ( هذه الضفاف تعرفني) ،وحتى اخر كلمة في الرواية ،مجسدا نهايتها الحزينة ،ولكنه الواقع الأكثر حزنا .. 
يظل القارئ لهذه الرواية ،سابحا في بحر طامح من ( الحكي ) شديد العذوبة والتشويق ،ويعيش قضايا اجتماعية - صغيرة وكبيرة ،حلوة ومرة ،سهلة وصعبة ،بسيطة ومعقدة ،منبسطة ووعرة - كل ذلك بعبارة الشعر الوفيرة الظلال والهطول ..

 


 

اختار الكاتب ( أهل الهامش ) في دار فور وفي الجنوب ،مركزا على العرب الرحل من الشمال في مفهومه الكبير ،واهل الدينكا من الجنوب في مفهومه الشامل .. بل تخطى هذا الحيز المكاني الوطني ،ليتناول ايضا الجوار الجغرافي الغربي عند دولة تشاد ..
هذه الرواية ( سياسة ) بامتياز في ثوب اجتماعي تظلله ( اخلاق ) السودان عموما ،فكشفت لنا ( عورة ) حكم المركز في قمة هرم طغيانه ( الانقاذي ) وسطوة الاتجاه الإسلامي الباطش ،وفي اعتى ممارساته في الاعتقال والتعذيب والقتل والفساد في كل كبيرة وصغيرة !!. 
فبطل الرواية ،اعتقل وعذب في ظلامات الإنقاذ وبيوت اشباحه ..وقتل ابن خاله ( تيراب ) من ملشيات النظام التي جبلت على النهب والقتل .. وجند شقيقه ( الدقم ) في وحدات الجهاد الاسلامية ،فيصبح اسيرا لدى الحركة الشعبية الجنوببة  ثم يفرج عنه بعد سنوات ،بتدخل كريم من صديق بطل الرواية وصفيه الجنوبي المخلص ( مجاك ) ..يمر زمن قصير بعد ذلك فيقتل الصديق الحنوبي الوفي ( مجاك ) الذي كان يحلم مع بطل الرواية( فارس ) بسودان قوي ومعافى ،يتعايش فيه السودانيون بسلام ووعي واحترام .. يسطو إبن الشمال ممثلا في مدير فرع البنك في تلك الناحية الهامشية البعيدة بابكر محمد الحسن على قلب فتاة من ( الهامش ) واسمها ( حنين ) ويتزوجها لأنه لم يستطع ان ينالها خارج مؤسسة الزواج ،وتكون هذه الزيجة سرية على زوجته الاولي واهلها ووالدها الذي رفعه الي ذلك المنصب الرفيع بالفساد الذي اسسه حكم الإسلاميين،ويلد منها ( سناء ) ..وحينما ينكشف امره لزوجته وأهلها،يتخلى عن زوجة الهامش الجميلة ( حنين ) بكل سوء الجبن والخنوع والانتهازية ..بل يسرق طفلتها ( سناء ) عن طرق عسكر النظام وفساده ،ويعود بها هاربا إلى( المدينة الكبيرة ) وهي طفلة ،تسأل ببراءة تقطع القلب عن أمها!!  ..
تتربى( سناء ) في بيت والدها الثري وتتعلم حتى الجامعة .. وهناك في رحاب الحرية المحدود والوعي الطموح،تلتقي في الجامعة بالشاب الجنوبي ( مجاك ) فتحبه حبا خرافيا متحديا ،ليكون هذا ( الحب ) رمزا في الرواية لعلاقه التوافق والتلاحم بين الشمال والجنوب ،بيد ان السطوة الجبارة الظالمة ،تجعل النهاية الطبيعية لهذا الحب مستحيلة ،حيث يقتل حبيبها ( مجاك ) غدرا ،ومن ثم تمسى هجرة ( سناء ) هربا من والدها ذات ليل توقف فيه الزمن  امرا حتميا ،لتعود لوالدتها ( حنين ) ،التي طلقها والدها الظالم الانتهازي ،وقد سبق ان كذب عليها مدعيا موتها ..يكون اللقاء الاسطوري في ( تشاد ) بلد وموطن الام !! ..


اما ( امل ) حبيبة ( فارس ) بطل الرواية ،فقد كان مصير ذلك الحب ضمن جبروت الظلم المنظم سياسيا ،اذ تم زواجها عنوة من قريبها الضابط الذي يرمز لمسلسل ( الخوف ) الذي قهر به ( الإسلام السياسي ) الشعب في شتى الضروب والانعطافات ،ولم ينج احد من طغيانه على الإطلاق !! .
هذه الرواية جاءت مليئه بآيات العناد والصلابة وقوة الإرادة،التي جسدتها الفتاة ( فطين العسل ) احدي بطلات الرواية الشامخات ،وذلك في البقاء على عهدها في حب ( الدقم ) شقيق بطل الرواية ،الذي رفض اهله الزواج بها ،بادعاء كذوب بعلو الشأن الإجتماعي.. ونتيجة لذلك تمرد الابن في لحظة انتحارية ،قادته للانضمام لملشيات النطام الجهادية في الحرب العبثية في الجنوب ،فيتم أسره لدي الحركة الشعبية،كما ذكرنا ..فتظل ( فطين العسل ) على عهدها في حبها الذي رأته ابديا ،وذلك حين صرحت بشجاعة في مجتمع قبلي الشرف عنده خط احمر لا يمكن تجاوزه ،بأنها تحمل بذرة( الدقم ) في بطنها ،ولم تخف من العار والقتل بسببه !! ..وظلت شامخة تربي ابنتها ( ايمان اي أيما كما يطلقون عليها ) وهي تنتظر عودة حبيبها في صبر يماثل المستحيل !! ..كانت امراة مرفوعة الرأس والمقام .. وهذا من اشراقات هذه الرواية ،رغم الطقس الحزين الذي استظلت به !! ..
كل ذلك حكاه لنا الكاتب في لغة الشعر الجميل وحروفه الجاذبة ،وبلحن من النغم الرصين  والموسيقى الهادئة التي تطرب العقل والوجدان ،وتريح الجنان ..
رواية في غاية العذوبة المنداحة عسلا .. فكانت ذاكرتي محقة في ان يظل ( فضيلي جماع ) في وعيها طوال هذه السنين..الامر الذي يدعوني لدعوتكم لوجبة هذا العمل ..فهو رواية فوق كلماتي بعلو شاهق ..
الحسن محمد سعيد