الروائي والكاتب الدكتور أمير تاج السر يكتب ل " كليك توبرس"

الروائي والكاتب الدكتور أمير تاج السر يكتب ل " كليك توبرس" أيام كورونا. أمير تاج السر حين وصلنا إلى مرحلة دقيقة في انتظار، ما قد يفعله فيروس الإبادة الجديد: كوفيد-١٩، الذي يحمل اسما شبيها بأسماء المقاتلات الحربية، والصواريخ بعيدة المدى، وغيرها من أدوات الفتك، أغلقت معظم الدول أجواءها

الروائي والكاتب الدكتور أمير تاج السر يكتب ل

الروائي والكاتب الدكتور أمير تاج السر يكتب ل " كليك توبرس"

 


أيام  كورونا.


أمير تاج السر

 

 


حين وصلنا إلى مرحلة دقيقة في انتظار، ما قد يفعله فيروس الإبادة الجديد: كوفيد-١٩، الذي يحمل اسما شبيها بأسماء المقاتلات الحربية، والصواريخ بعيدة المدى، وغيرها من أدوات الفتك، أغلقت معظم الدول أجواءها وحدودها،  ومدارسها وجامعاتها، وتوقف العمل  المباشر في الدوائر والقطاعات الحكومية والخاصة، أو تحول في الدوائر المهمة، إلى عمل من البيت مع توفر الإنترنت. وظهرت ما سميت: الدعوة إلى العزلة، أي أن يعتزل الناس في أي مكان بعضهم، يعتزلون الشوارع وأماكن التسوق، وكل ما يمكن أن يجمهر الناس، ويجلسون في بيوتهم، ينشغلوا بالعمل عن بعد، إن كان لديهم عمل لا بد من إنجازه، أو  بأي شيء آخر حتى ينجلي ذلك الكابوس، وتعود الحياة إلى طبيعتها. وحقيقة كابوس كورونا ليس أي كابوس، وربما هو الأضخم الذي يمكن أن يحضره، ويعيش فيه إنسان العصر العصر الحديث المدجج بالتكنولوجيا. هنا لا تطور يفيد، ولا تكنولوجيا تستطيع الحد من جنون ذلك الغزو المجنون.
العزلة في حد ذاتها بغض النظر عن وجود وباء أو عدم وجوده،  لفظ كئيب، ولطالما كانت تذكرني دائما بالسجن الانفرادي، حين يعزل أحدهم حتى من بيئة السجن العادية، ويوضع في مكان صغير ضيق، مليء بالوساوس والكوابيس، والحشرات الضارة، وأظنه إجراء يتبع عادة لمثيري الشغب في السجون، من المحكومين بجرائم شتى، لكنهم لا يتخذون السجن مكانا جيدا قد يصلحهم أو يهذبهم، أو يستخرج منهم مواهب مدفونة في الأعماق، تنمو بعد خروجهم، بل يظلون مجرمين ومشاغبين.
أيضا قد يستخدم هذا الإجراء ضد السجناء السياسيين، الذين يعارضون سلطات ما في بلادهم، وذلك لإذلالهم وكسر شوكتهم، والذي يقرأ رواية: تلك العتمة الباهرة، للمغربي: الطاهر بن جلون، وما حدث فيها للبطل عزيز بنين في سجن تزمامارت، يدرك فعلا معنى أن تكون معزولا  مرتين، مرة داخل سجن، ومرة أخرى داخل قفص في ذلك السجن.
الناس كتبوا كثيرا عن استعدادهم لعزلة كورونا الإجبارية، التي كان يحرسها الجيش في بعض البلاد، ويحرسها الخوف في البلاد التي لم تجعلها عنيفة حتى كثيرا، بسبب أن الفيروس ما كان رحيما فيها إلى حد ما، لم يحصد كثيرين، ومعروف أن إيطاليا الجميلة، والغنية بتاريخها وحضارتها، وروعة أهلها، هي أكثر الأماكن تضررا أولا في أوروبا، البلد الحسناء، التي واجهت غزوا عدوانيا لم تكن تستعد له، ولا خطر ببال أهلها أنه قد يحدث، والذي ينظر إلى أماكن السياحة العتيدة، مثل الكوليزيوم، وساحة الفاتيكان، وميدان الدوما في ميلانو، والشوارع التي كانت مضيئة بلافتات الموضة والماركات، يتحسر بشدة، لكن لا مجال للتحسر على بلد واحد، والعالم كله بمجتمعاته واقتصاده، تحت قبضة كورونا، قد يلتهمه وقد يفرج عنه، وبالطبع الجهود في كل مكان بذلت، وتبذل  باستمرار، لكسر تلك القبضة الحديدة، وإعادة زمن الضحكة والابتسامة، والتواصل إلى الحياة.
قلت أن كثيرين كتبوا عن استعدادهم للعزلة، بعضهم كتب عن الغذاء الذي عبأ به بيته، بعضهم كتب عن كمية الكتب الفلسفية والروايات، التي اشتراها ليقضي بها أيام المكوث في البيت، أيضا كتبوا عن قوائم أفلام سينمائية ومسلسلات درامية ستتم مشاهدتها، وكثير من أصدقائنا الكتاب لوحوا بمشاريع أدبية سيتم إنجازها في فترة الحبس البيتي، أي تحويل البيت إلى عزلة كتابية، أسوة بالتي تقيمها بعض المؤسسات الثقافية، حين تستضيف كاتبا ما في مكان بعيد عن التواصل، من أجل أن يكتب نصا، قد يكون فصولا من رواية إن كانت العزلة قصيرة، أو رواية كاملة في تلك العزلات التي تمتد حتى ثلاثة أو ستة أشهر. وعندنا في الوطن العربي، طبقت جائزة البوكر تلك العزلات السنوية للكتاب الشباب المختارين، وأنجزوا فيها نصوصا جديرة بتأملها واحترامها.
الفرق هنا أن عزلة الكتابة فيها بعض الترفيه، حيث يمكن للكاتب المعتزل أن يخرج قليلا، يتمشى أو يدخل دار سينما أو سوبرماركت  في البلدة التي يعتزل فيها، من دون أي شعور بالتوتر أو القلق،  بينما عزلة الوباء قاسية، مؤلمة، ومليئة بالقلق والكوابيس.
الذي يحدث في الغالب هنا، أن لا كتب من التي تم شراؤها ستقرأ، أو لنقل تقرأ بجدية وتركيز، ولا أي مشروع كتابي سيتم إنجازه على الأرجح.
أي  صفحة في رواية سيحاول أحدهم قراءتها، تظل صفحة مغلقة، تعاد قراءتها مرات عدة من دون أي خطوة لتجاوزها، أي قصيدة تظل عصية على الفهم، وأي محاولة لكتابة نص، تظل محاولة فقط، من دون أن تخطو إلى مربع التجربة.
الخوف والقلق، ما سيتحكم في سلوك العزلة تلك كما ذكرت، الخوف من الحاضر الذي قد يتلاشى فجأة برغم كل الاحترازات، الخوف من المستقبل حتى لو انقشع الوباء، وتلك الأسئلة السلبية التي تتوارد إلى الذهن بلا توقف: ماذا سيحدث؟، ماذا سيصير؟، ما ذا لو حدث؟، هكذا.
ولأن كورونا أو كوفيد- ١٩، سيطر على الدنيا كلها، وحول بلدا مثل أمريكا العظمى، إلى بلد يجلب السخرية،، فلا بد من منتابعة أخباره بدقة، حتى أثناء العزلة، ذلك أن الإرسال التلفزيوني يعمل، والإنترنت تعمل، تماما مثل ديكتاتور طاغية، يحكم، والمحكومون يتابعون خطواته خوفا لا حبا، ولن أقول فضولا، لأن الفضول عادة آمنة تترعرع في زمن الأمان، ولا أمان لطاغية أو وباء.
هناك عزلة أخرى أظنها ذات أثر كبير، أو ذات قيمة في زمن فقدت فيه أي نكهة قيمتها، وهي عزلة العلماء في المختبرات، إنها عزلة قديمة ومستمرة، يرثها أجيال العلماء عن بعضهم، من أجل الارتقاء بالإنسانية، وعلماء زمن كوفيد – ١٩، موجودون بلا شك، وظلوا مستميتين، من أجل أن يصلوا إلى ما يقهر ذلك الوباء، أو يحد من انتشاره، وربما يصلون إلى شيء.
بالنسبة لي شخصيا، لم تكن ثمة عزلة منتظمة مليئة بالوساوس، والاحتمالات، والفراغ المجنون، ذلك أنني كنت أعمل، أحاول بما لي من خبرة مع الآخرين في درء خطر الفيروس عن الآمنين المذعورين، وتلك هبة كبيرة طالتني، أنني لم أكن خائفا ولا منعزلا، ولا فكرت في قراءة أو كتابة. كان جل تفكيري منصبا على إيجاد طرق آمنة للحياة، أسلكها وأساعد الآخرين على سلكها، وفي الأوقات القليلة التي قد أواجه فيها نفسي، أفر إلى متابعة ما يحدث، ليس متابعة عميقة، لأن العمق يحدث كآبة، وإنما متابعة بسيطة، تبقيني  قريبا من اليأس حينا، ومن الأمل حينا آخر.